في المشهد الافتتاحي من برنامج الطبخ الجديد للممثلة باريس هيلتون على "نتفليكس"، وبسبب ذلك فإنه يحمل عنوان "طبخ مع باريس"، تتجوّل هذه الوريثة الأيقونة، والشخصية العامة الاحترافية، في سوبرماركت أميركي مرتدية ثوب حفلات زهري اللون وكمامة مرصعة بالألماس. يظهر حولها أشخاص عاديون بثياب مريحة ونعال الـ"كروكس" (ما بين الخف والحذاء)، يدفعون عرباتهم. واستطراداً، تبدو هيلتون كأنها هاربة من حفل "مت غالا" Met Gala (حفل معهد "غالا" للأزياء يشتهر ببذخه)، موضوعه ألعاب "ماتيل" Mattel (شركة أميركية عالمية كبرى تصمم وتنتج الألعاب).
وتُعاد تلك الفقرة في كل حلقة من حلقات البرنامج، إذ تتسوّق هيلتون مرتدية ثياب راعية بقر، أو بهيئة وأسلوب أودري هيبورن (من نجمات هوليوود الأكثر أناقة)، أو بهيئة باتي ديوك في فيلم "وادي الألعاب" Valley of the Dolls (فيلم درامي ظهر في 1967)، إذ يشكّل العالم كله بالنسبة إلى هيلتون خزانة أزياء، وفق ما يوحي به البرنامج على ما يبدو، فتستطيع النجمة أن تكون أي شيء وكل شيء تريد أن تكونه. لكن، بعد أكثر من عشرين عاماً على شهرتها، يبقى دور هيلتون الأعظم متمثلاً فيها هي نفسها، (أي ذاتها الحقيقية)، باريس هيلتون.
اليوم يأتي برنامج "الطبخ مع باريس" كي يؤكد أن نجمته ليست سوى "جايسون فورهييز" الثقافة الشعبية (فورهييز هو شخصية خيالية من مسلسل "الجمعة الثالث عشر" Friday the 13th). وبمجرد التفكير بأن قد أُطيح بها، أو أنها محكومة بمسار مهني تكون فيه متحدثة في أفلام وثائقية عن العقد الممتد بين عامي 2000 و2009، تنهض النجمة من جديد، فتبدو، بطريقة أو بأخرى، أقوى حضوراً من ذي قبل. كذلك فإن هذا البرنامج يفهم جاذبيتها، بمعنى أن تكون هيلتون فيه متألقة ولامعة، وأكبر من مجرد شخصية لها حياة محددة، وومضة حية في قلب الكاميرا، حين تعبث بفكرة جهلها المرفَّه، بغية إنتاج مؤثرات كوميدية.
ويستبطن الموقع البسيط للبرنامج حيث تحضّر هيلتون أطعمة في مطبخها بحضور ضيوف ونجوم مختلفين، حقيقة أن هيلتون تبدو، على نحو مرح، في حيرة من أمرها تجاه ما يحيط بها. وفيما تسأل صديقتها وضيفة مطبخها ضمن الحلقة الأولى، كيم كارداشيان، عن الـ"تونغ" (أداة مطبخ تشبه الملقط)، وتجهد في تعريف الـ "تشيفز" chives (الثوم المعمر)، تبقى النجمة محافظة على مسحة السذاجة التي مثلت على الدوام مصدر طرافة محببة فيها. وفي هذا المنحى، يبدو "الطبخ مع باريس" كأنه ارتداد إلى "الحياة البسيطة" The Simple Life، البرنامج الرائد في نمط تلفزيون الواقع عام 2003، الذي جعل من باريس هيلتون، ابنة الـ22 سنة آنذاك، وزميلتها، الفتاة الغنية والنجمة الدائمة في الصحافة الشعبية (تابلويد) نيكول ريتشي، اسمين دائمي الحضور في أحاديث البيوت. وإذ تحاول الفتاتان في ذاك البرنامج أداء وظائف واقعية وحقيقية، في مطاعم وجبات سريعة، ومزارع، ودور دفن موتى، تتفكر هيلتون وتتساءل إن كانت متاجر "وولمارت" Walmart متخصصة في بيع "الجدران" (كون اسم Walmart يعني حرفياً سوق الجدران، لأن عبارة Wall تعني جداراً). كما تحاول تفسير أصل المغسلة استناداً إلى ما شاهدته في فيلم للممثل جوش هارتنيت. لكننا الآن (مع البرنامج الجديد) بتنا ندرك أنها مثّلت على الدوام دور "المغفل"، بالنسبة إلى من يشاهدها.
في هذا الإطار، اعترفت هيلتون العام الفائت، عند إطلاق المسلسل الوثائقي على "يوتيوب" عن حياتها وعملها، بأن كثيراً مما نظن أننا نعرفه عنها ليس صحيحاً. "أنا لست شقراء مغفلة"، أوردت في حديث مع مجلة "فوغ" Vogue. "أنا ماهرة في الإيحاء بذلك. وقد أحسست بأنني أوحي بهذا النمط من الشخصيات الخيالية، أميرة "باربي"، حورية بحر، وحيدة قرن خيالية". وكذلك ذكرت أنها ستعمد دائماً إلى "التلاعب" بتلك الشخصية (الخيالية). أضافت، "لكن أعتقد أن الإعلام سوف يستغل هذا الأمر والتعامل معي كـما لو أنني كيس ملاكمة إذ أحس كثيرون أن في إمكانهم الاستقواء عليّ، وقول أي شيء عني".
لكن ما بدا أكثر إزعاجاً بالنسبة إلى أولئك الأشخاص، تمثل بتمكّن هيلتون على الدوام من تجاوز تلك الانعطافات في مسيرتها وتجربتها، وتلك انعطافات كان من شأنها تقويض حياتها، وفق ما يشير إليه تاريخ الثقافة الشعبية، إذ إنها موجودة في شريط جنسي جرى تداوله رغماً عن إرادتها. وآنذاك، استطاع مسلسل "الحياة البسيطة" أن يقفز على كتفي تلك الفضيحة، بل حلّقت عروضه، فحقق معدلات مشاهدة هائلة بعد شهر واحد من بدايته.
كذلك بدت هيلتون متخشبة على نحو لا يطاق في فيلم الرعب "منزل الشمع" House of Wax عام 2005، إذ لعبت دور شقراء مشؤومة تتعرى وترقص على العمود، لكنها تحايلت على التهكمات التي طاولتها، وذلك عبر ترويجها للفيلم بإعلان يقول "شاهدوا باريس تموت في 6 مايو!". كذلك قوبلت باستخفاف أيضاً انعطافاتها المتمثلة في الترويج للعطور والفضاءات التجارية الشخصية والتنسيق الموسيقي، بيد أن عطورها أثمرت 2.5 مليار دولار ربحاً صافياً في المبيعات، وامتلكت النجمة 45 متجراً رسمياً في الشرق الأوسط وآسيا. كذلك أفيد عن تقاضيها الأجر الأعلى في العالم بين منسقات الموسيقى الإناث، محققة في هذا المجال ما يناهز 1 مليون دولار لكل مجموعة موسيقية تؤديها. وقد أطلقت أحد أفضل ألبومات موسيقى البوب في العقد الممتد بين 2000 و2009، على الرغم من عجزها آنذاك عن غناء جملة موسيقية واحدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا الإطار، تعتبر أسطوانتها الأولى والوحيدة، المعنونة "باريس"، عملاً فنّياً مقتبساً من شخصيتها. ووسط الأصداء واحتشاد الأصوات في الخلفية، تتماسك مندفعة إلى الواجهة (الصوتية)، وتلمح إلى درامياتها الشخصية (ورثة أصحاب السفن اليونانيون الذين بدوا كأنهم قدرها في المواعدة، صداقتها المرموقة لـكيم كارداشيان وريتشي، التي تعرّضت لطلعات ونزلات قبل أن تستقر طلوعاً في النهاية)، وتضيف همهماتها، متفوهة بجملها الشهيرة "([بتأوه] ... ياه ... إنه حار ... ياه"، تهمس في الثواني الافتتاحية لأغنية "تيرن إت آب" Turn It Up). وثمة في ذلك العمل استدعاءات بلهاء (لـ نمط فيلم "غريز" Grease "آي وانت يو" I Want You)، وغلاف متكلف لـ"هل تعتقد بجاذبيتي جنسياً" للمغني رود ستيوارت، لأن لا شيء يمنع ذلك. وثمة أيضاً، على الأقل، مقطوعة كلاسيكية حسنة النية بنمط "ستارز آر بلايند" Stars Are Blind، الأغنية الفردية التي أعيد الاعتبار لها هذا العام في مشهد من فيلم "شابة واعدة" Promising Young Woman.
وفي هذا الجانب، فإن تحوّل هيلتون إلى الموسيقى تعرض، كأشياء كثيرة في مسيرتها، للتهكم، وجرى التقليل من أهميته حتى قبل أن يبدأ. وقد حدثت إحدى الوقائع الغريبة في مدينة بريستول، حيث استبدل الفنان بانسكي مئات النسخ من أسطوانة "باريس" بنسخ مفبركة عليها صور امرأة بصدر عار، مرسومة بتقنية زجاجة رش الألوان في البرامج الرقمية، مع جملة "سباق إلى أسفل الكومة!" "ما هدف وجودي؟" و"ما سبب شهرتي؟".
وحاضراً، تبلغ قيمة كل قرص منها 6 آلاف جينيه سترليني، لكن هذا العمل المثير يحمل أيضاً نتانة رجل عجوز يصرخ في وجه غيمةـ إذ إن شهرة هيلتون على الدوام كان لها شأناً. فهي صاخبة، ومضحكة، وصريحة، بينما ظلت درامياتها التي تعتاش منها صحافة الـ"تابلويد" (المركزة على الفضائح)، على عكس أقرانها ومعاصريها، بمنأى من التركيز على الجوانب المظلمة التي تجعل المرء يشعر بالذنب إن اطلع عليها.
لكن في جذور كل ذلك تكمن ربما "شخصية" باريس هيلتون. ومنذ الأعوام التي كانت تصور فيها إلى ما لا نهاية ضمن مشهد حياة الأندية الليلية في نيويورك، بوصفها شابة مبتدئة تتنعم بجاه عائلة هيلتون، وصولاً إلى مرحلة الشهرة الناضجة والهادئة التي بلغتها اليوم، تنقّلت هيلتون بين عدد من الهيئات المختلفة، إذ كانت فتاة حفلات، ثم ممثلة، ثم نجمة بوب، وبعدها غدت قطباً مالياً. وها هي الآن تغدو طباخة تلفزيونية، على ما أعتقد. لكن هويتها الحقيقية ظلت دائماً على مسافة ما من ذلك كله. وعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأننا شاهدنا كل ما يتعلق بها وسمعنا عنه، فإن كثيراً مما شاهدناه وسمعناه، جرى تنسيقه كي نستهلكه، أو إنه عُزّز خدمة لضرورات التسلية.
إذاً، فإنه ليس غريباً على نحو خاص أن يكون بيت هيلتون الباهر في لوس أنجليس حيث يصور "الطبخ مع باريس" على ما يبدو، مزداناً بصور وجهها. وذاك في الحقيقة ليس وجهها. ثمة باريس هيلتون، وفي المقابل، هنالك "باريس هيلتون". وتمثّل الأخيرة كاريكاتوراً ورسماً كرتونياً، هيئة عن طموح صفيق، أو شخصية قد تؤديها جينيفر كوليدج في أحد الأفلام. أما باريس الأولى، فإنها من يحصد الشيكات. وأحياناً قد تتسلل خفية، وتهرب. تذكروا كيف أن "صوت" باريس هيلتون وعلامتها الفارقة، بإثارته المغناجة، يتحوّل، بين الفينة والأخرى، بحة عميقة قاسية، عندما تكون باريس خارج تركيزها. يشبه الأمر قليلاً رصد مكان حمار وحشي في رحلة سفاري، أو ساحر يخطئ في حيلة ورق اللعب. ثمة هيلتون أثناء عملها، وتمنح جمهورها ما يريده تماماً.
وقد ينتهي المرء من مشاهدة "الطبخ مع باريس" من دون أن يعلم إن كانت هيلتون تعرف الطبخ فعلاً، أو إذا كان لها أصدقاء فعليين، أو إنها بالفعل لا تعرف ما هي جلاية الصحون. إنها بالتأكيد إنسانة تدرس حضورها.
"الطبخ مع باريس" Cooking with Paris بدأ في 4 أغسطس (آب) على "نتفليكس".
© The Independent