تخطّى العرض السوري الراقص "العواقب" معظم الأشكال التقليدية في المسرح الجسدي المعاصر، منجزاً وحدة جمالية لافتة بين الديكور والأزياء والحركة، عبر ست لوحات بدت بمثابة عروض متوسطة وقصيرة الطول، أشرف عليها وأخرجها الفنان معتز ملاطية ليه. العرض الذي تبنّى أسس المسرح التجريدي لمصمم الرقص الأميركي ميرسي كنينغهام (1919-2009) تخلى راقصوه بقوة عن التعبيرية المباشرة في حركات الجسد، إضافةً الى توزيع عمل الكوريغراف بين ستة مصممين تجاوزت لوحاتهم التعبير الذاتي للراقص، دون التقيد بالأناقة الإجبارية التي يفرضها رقص الباليه الكلاسيكي، أو الدوافع التعبيرية للحركة كما هو الحال في قواعد الرقص الحديث، بل ركّز هذا العرض أكثر فأكثر على الرسائل النفسية للرقص.
اللوحة الأولى من "العواقب" جاءت بعنوان "اغتراب" وصممتها نور علّوم، محاولةً مع كلٍ من الراقصتين إيمار خربوطلي، وصبا رعد، التماهي في جسدٍ أنثويٍ واحد، وفق بحث عن توافقات جديدة للحركة، وذلك بعزل الحركات التي تؤديها أجزاء الجسد المختلفة، من مثل حركات الرأس والذراعين والجذع والساقين، وصولاً إلى حركة مركّبة بين كل هذه الأعضاء. ففصلت فترات سكون قصيرة بين كل وضعية وأُخرى، وأضفت نوعاً من البحث على سيميولوجيا الجسد، ودلالاته الأكثر حيادية، دون الدخول في الميلودرامية، أو استجداء التكوينات السائدة للتعبير عن الاغتراب الذي تعيشه النساء داخل مجتمعات الحرب. حاولت الراقصات الثلاث تظهير الطاقة الكامنة في الوقوف والاستلقاء والجلوس. العادات اليومية للجسد كمعادل فني للخوف والرهبة من الآخر، وضمن إضاءة (صممها عمار الحامض) ومساحة شبه فارغة ساندتها سينوغرافيا محمد زهيري بلمسات جمالية على الأزياء ذات اللون الأبيض.
ثنائيات بصرية
ولعل لوحة "طريق باتجاه واحد" التي صممتها الراقصة سدرة الحواصلي كانت الأكثر جاذبية في العرض (المعهد العالي للفنون المسرحية)، ففي هذه اللوحة نطل على ثنائيات متنافرة قام بأدائها كلٌ من هدية الحسن، وعادل سلام، وسالي داؤد، وجودي العلي، ويوسف إبراهيم. إذ قدم هؤلاء تنويعاً حركياً متبايناً على ما يطلق عليه معادلة "التوازن الحرج" في الرقص المعاصر، حيث المزج الدقيق بين البساطة والإثارة لحركات فورية، وأُخرى سريعة ومهتزة في آنٍ واحد، ولهذا تضافرت جميعها في نوع من تبادل أدوار خاطف بين الجلاد والضحية، لكن بالاستناد إلى موسيقى غير عاطفية (عمر الحواصلي) حيث يعمل هذا النوع من الموسيقى على تركيز انتباه الراقص على توليد الحركة، وعدم تشتيته عنها، على عكس الموسيقى التي تحكمها الألحان، فإنها تُحدث عادةً نوعاً من روابط عاطفية ربما تطغى على الحركة الخالصة الخالية من أية تعليقات.
معادلة لم تخرج عن أسلوب الرقص التجريدي البعيد من الدرامية، وحيث موضوع الرقص هو الرقص ذاته، فالجسد هنا له دور البطولة المطلقة. وهذا التوافق بين مصمم الرقص ومؤلف الموسيقى، يمكن تلمسه في إضاءة خلاّقة صممها سعيد سعيد، عكست ظلال الراقصين في عمق مسرح سعد الله ونوس، وتناوبت على توزيع مساحات من الإنارة الخافتة والساطعة بين يمين الخشبة ويسارها، لتنسجم بدورها مع المناخ التأملي للعرض، وتحاول عدم التدخل أو مصادرة الحركة. فليس هناك من إحالات إخراجية لكشّافات الضوء، بل حياد تام إزاء قفزات الجسد، وارتطامه بأرضية الخشبة، وانسحابه من صراع ليبدأ صراع أكثر توهجاً وكثافة.
هذا التعاطي مع مفردات العرض الراقص أتى بمعظمه دون تقديم مفاتيح لفهم ما يحدث على الخشبة، بل بالاكتفاء بالحركة المجرّدة، والنزوع إلى نوع فني يقترح تعدد القراءات، على عكس لوحة "هُم" التي صممها الراقص محسن عبد الله، وقام بأدائها مع كلٍ من سالي داؤد، وغزل حمادة، وصالح جودية، والوعد عمر، وورد عجيب، وعمر نور الدين، إذ تم الدمج منذ بداية هذه اللوحة بين فضاء الجمهور وفضاء الرقص. ووسط دهشة الجميع دخل الراقصون في هذه اللوحة من بين مقاعد الجمهور، ولزيادة التمويه قام أحد الحاضرين (الممثل سليمان رزق) بالصراخ من بين المتفرجين، مستنجداً بمخرج العرض ومسؤولي التنظيم لإيقاف الفوضى التي عمت الصالة، ليتضح لاحقاً أن ما حدث ليس إلا تواطؤ بين الممثل الغاضب وفرقة الرقص.
حوارات مبهمة
هذا التمهيد الدرامي جاء بمثابة توطئة لعاصفة من مواجهات حدّية أبرمها مصمم لوحة "هُم"، مستخدماً بعض الحوارات المبهمة على لسان أحد الراقصين مع فتاة تجلس على كرسي من المخمل الأحمر، ولتنشأ مجابهة بينها وبين الجماعة، كضريبة اختلاف يدفعها الفرد إزاء تمرده على الحشود، وعدم الانصياع لأهوائهم. مواجهة لم تكن بالبسيطة ولا العادية، بل تدرجت في صراعاتها نحو تهييج الحشد ضد الفتاة التي بدت وهي تغطي وجهها بساقيها تارةً، وتنزوي متكورةً على نفسها تارةً أُخرى هرباً من القطيع، وصولاً إلى اندماج الجماعة بعضها مع بعض، وربطها بشريط من اللاصق الشفاف، في محاكاة سينوغرافية لافتة (نوران صالح) للتناحر الدموي بين جماعات وعقائد ومشارب سياسية، يقف الفرد المختلف منها على طرفي نقيض، مصراً على عدم الانجرار إلى العنف والتحزب الأعمى.
بالمقابل أتت لوحة "البقعة العمياء" كتصاعد سلس لعرض "العواقب" وبتصميم من وحيد الخطيب الذي قام بأداء هذا المقطع من العرض مع كلٍ من مجد عريج، وعمر المنوّر، وغزل حمادة، وجودي العلي، متخذين نوعاً من التكوينات الأرضية الراقصة كمدخل إلى استعادة الماضي لشخصيات مأزومة. و نلاحظ هنا قدرة الراقصين على توزيع الكتلة الجسدية، وملء فراغ المسرح عبر الاستعانة بدراجة هوائية، وإضاءة أرضية وأُخرى جانبية (نوران صالح)، تمهيداً لأسئلة وجودية تطرحها اللوحة بصوت الفنان فايز قزق: "من مجهول إلى مجهول! متى يرحم العقل نفسه ويستسلم للنوم؟" ويصبح التركيز هنا على متتاليات حركية متصاعدة، جلُّها كان عبارة عن لعب بين منطقتي الحلم والواقع، وذلك بغية تحقيق مسرح راقص غير محدد بزمان ومكان معينين. بل اعتمد الراقصون في هذه اللوحة تحديداً على ترك مساحة تأمل مفتوحة مع الجمهور كي يستنتج مقولته الخاصة به، وذلك بالتوازي مع مساحات إيقاعية وفّرتها موسيقى فارس الزراد جنباً إلى جنب مع لوحة "فجوة"، التي صممتها الراقصة سارة بيطار، وقامت بأدائها بالشراكة مع كلٍ من رهف الجابر، وزين العابدين سليمان، وصالح جودية، ومايا عيسى، وسالي داؤد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذه اللوحة نشاهد إحدى الراقصات تنام داخل حلقة معدنية مثبتة بحبال، لتبدو وكأنها تنام فوق أثير غير مرئي، ومن ثم تبدأ صولو راقص يخطف الأنفاس، لعل قوامه التوازن ودقة الحركة، لكنه في العمق جسّد اهتزازاً مكثفاً من أحلام يقظة، وسباحة لجنين يتدلى داخل رحِم مظلم. ثم لا يلبث أن ينظر نحو الجمهور بعيون مفتوحة تتساءل عن المصير والمآل. وهذا ما يبرر الإشارة في اللوحة الخامسة من العرض إلى عبارة: "لا يمكن الاستحمام في مياه النهر مرتين"، للفيلسوف اليوناني هيراقليطس (600 ق.م). إحالة نقرؤها في بروشور "العواقب"، وتأخذنا إلى تكوينات خطرة وماهرة لراقصي هذه اللوحة، فيما تكمل سينوغرافيا هادي الجواهري القوس على توقيع لإخراج جماعي، وقدرة شاملة على المزاوجة بين عناصر الإضاءة والحركة والموسيقى.
اللوحة السادسة من العرض أتت بعنوان "ليس هذا عالماً أرغب بالعيش فيه" من تصميم شيرين الشوفي، و قامت بأداء الفقرة الأخيرة من العرض بالتعاون مع كلٍ من نورس عثمان، ووحيد الخطيب، وأليس رشيد، ومايا عيسى، وداتيف ألمجيان، وآية قنواتي، وشام سكر. الخاتمة جعلت تحية الجمهور جزءاً من العرض، وذهبت نحو استعراض جماليات مختلفة للجسد، وذلك على إيقاع الإعداد الموسيقي لنارام راشد، وذلك للخلاص إلى ما يشبه التأكيد على غزارة الجسد الراقص في دلالاته وإشاراته المنيعة على عقل الرقيب السياسي والاجتماعي والديني، والمنعتقة بالتالي من التصنيفات الفنية السائدة. فكل راقص أو راقصة يستطيع كتابة دوره بجسده بعيداً من محاذير المسرح الدرامي، وقريباً من مسرح تشكيلي يرسم بالجسد والضوء والموسيقى.