Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التونسي نزار الحميدي يجسد المعادلة الشعرية للحراك

استبدال الذاكرة الجماعية بالفردية في ديوان "شخص ما يكتب تعليقا"

لوحة للرسام التونسي بن مرزوق (صفحة الراسم على فيسبوك)

واكب نزار الحميدي شعرياً التحولات الكبرى التي شهدها المجتمع التونسي منذ 2011، وانتمى إلى حركة "نص" التي أرادت أن تكون شعريّاً المعادل الموضوعي للحراك الاجتماعي، وتطلع، ضمن هذه الحركة إلى أفق إبداعي جديد، مستبدلاً الذاكرة الجماعية بالذاكرة الفردية، وضرورة التوافق بإمكان الاختلال. وفي ديوانه الجديد "شخص ما يكتب تعليقاً" الصادر عن دار ميارة -تونس، سعى نزار الحميدي إلى كتابة قصيدته الجديدة التي تختلف عن قصائده السابقة اختلاف تباين وافتراق. هذه القصيدة تنطوي على أصوات عديدة لعل أهمها أصوات سعدي يوسف في التقاط التفاصيل اليومية، ومحمد الماغوط في اقتناص الصور الجديدة والاستعارات المدهشة، ومحمود درويش في أسلوبه الغنائي الملحمي.

الديوان مراوحة بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، بين نص العالم وعالم النص، بين السؤال الثقافي والسؤال الاجتماعي. فبينما اندفع معظم الشعراء الجدد، على أثر الحراك الذي شهدته تونس، إلى كتابة الشعر السياسي، متوسّلين بأساليب مباشرة، نجد الحميدي قد واصل تجربته الإبداعية، غير عابئ باللغط الذي ارتفع حوله، ولا يعني هذا أن شعر الحميدي وأقرانه منفصل عن الواقع، غير منخرط في بلباله. هذا الشعر، على عكس ما يتصور كثيرون، موصول بالحياة، يخبرُ عنها ويفصح عن حقائقها المستترة لكنه لا يتغنى وإنما ينقد، ولا يحتفي وإنما يستدرك. وربما ذكرتنا بعض نماذجه بعبارة الشاعر الإنجليزي كولردج، التي يقرر فيها أن قيمة الشعر رَهْنٌ بمدى ما يتحقق من نظرة ناقدة للحياة: "البنايات مثل الزرافات شاهقة كلما عنَّ لي أن أبيت تحت درج ركلتني/ المحطات من قبلها ركلتني/ أسمع جدّي مشتجراً كالجذع المقطوع على الأرض يغمغم/ فلتتركهنّ رجاء/ لم تترك كل بنات الجيران".

احتفال بالحياة

لكن الشعر عند الحميدي ليس نقداً موجهاً للحياة فحسب وإنما هو أيضاً احتفال بها. الشاعر يبدو في الكثير من القصائد قرين "أورفيوس". ويتجلى هذ النزوع الأورفي أقوى ما يتجلى في إقبال الشاعر على الأرض يُمَجدها، فالحميدي - في سياق هذه الرؤيا - صورة للراعي اليوناني الذي استقر في الذاكرة الثقافية رمزًا للفرح واكتمال الارتواء، الغِناءُ لغته واللعب وظيفته والدهشة أداة معرفته. وربما كان موضوع الطفولة الذي تردد في الديوان رمز هذه الرؤيا ومجلاها في آن. في هذا السياق تبرز الطفولة، لدى نزار الحميدي، بوصفها الدرع التي يحتمي بها الحميدي من القبح والكراهية وسوء الطويّة، بوصفها أيضاً الحضنَ الذي كان يفرّ إليه هرباً من الزمن يلتهم كل شيء، وبوصفها، خير مصدر للشعر الذي كان يمتح منه قصائده.

الطفولة عودٌ إلى الانفعال الأول، أي عودٌ إلى المعرفة البدئية القائمة على الحس والغريزة. ومن شأن هذا الانفعال أن يخلعَ روعة المجهول على المعلوم، ويعيد إلى الأشياء غموضَها الأصلي، فيرتد الشاعر طفلاً يتهجَّى من جديد أبجدية الكون ويتقرَّى عناصره بعينين واسعتين وشوق عارم: "عندما حملت قشة ورميتها إلى باحة العش/ عادت لتجلب أخرى/ تلك عصفورة ستزقزق رغم الشتاء". هذه الطفولة تتبدَّى في هذا الكتاب طفولَتيْن: طفولة الكون وطفولة الكائن. فبعض القصائد تبدو - إذا أخذنا بتقسيم "فيكو" للتاريخ - قادمة من عصر الآلهة القديمة، ويبدو الشاعر كما لو كان شاهدًا على انبثاق العالم من العماء الأكبر، لا أحدَ يسكُنه غيرُ الشاعر الذي يمجد انبثاقه من الملاء المُعتّم ويُسمّي أشياءه. وبعض القصائد تصور طفولة الكائن الذي يدخل العالم في انشداهٍ وذهول مُتعثّراً في مسالكه يُشير ولا يتكلّم، يُومئ ولا يُفصح، غريزتهُ أساسُ إدراكه وحواسُّه سبيله إلى العالم والطبيعة.

إهاب الرمز                                                    

وتحضر المرأة في هذا الديوان ضمن احتفالية الشاعر الكبرى بالحياة، لكن المرأة هنا تختلف عن امرأة الغزليّة العربيّة اختلافَ تبايُنٍ وافتراق. فامرأة الشاعر صورة للأنثى الكونية التي فكّت بفعلها الخالِق العالم من أسْر الموت وأتاحت للطبيعة أن تتوالد وتتكاثر.

إن المرأة في شعر الحميدي حضور غامر يستوقفنا لذاته قبل أن يحيلنا على شيء آخر خارج عنه. فهي الرمز والمرموز إليه، وهي الكناية والمكنى عنه. والحميدي في ذلك يفترق عن مجايليه. إذ إن صورة المرأة في شعرهم حضور لغياب، فهي كثيراً ما تلبس إهاب الرمز وتتحول إلى فكرة مجرّدة علاقتها بالمرأة واهية أو تكاد.

إن الشاعر الحديث قد اتخذ المرأة قناعاً لمعانٍ أخفى بل أجراها في شعره مجرى المجاز، حيث "تعلق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على سبيل النقل" على حد تعبير النقدة القدماء، فتتحول المرأة، بسبب ذلك إلى "أداة أسلوبيّة" تمكن الشاعر من "الكلام بشيء وهو يريد غيره".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 أما في شعر الحميدي فقد  تحولت المرأة من فكرة غامضة غائمة إلى كيان وجسد وحياة. فإذا ما استعرنا تحليل "هيدغر" للوحة الحذاء لـ"فان غوخ" لقلنا إن الشاعر تنكّب عن المرأة­/ المعنى ونحت امرأة جديدة ألغت الحدود بين الواقع والمثال:"أسحب إليك البحر/ تخطر بين كفيك القوارب/ لكنني أخشى الركوب فقد تغور بي المسارب/ أنا لست ملاحاً/ أنا لا أميز في المحيطات العميقة".

إن المتأمل في قصائد هذا الديوان يلحظ أنها تنطوي على حوارين اثنين: حوار تعقده مع القصيدة الحديثة، وعلى وجه الخصوص قصيدة النثر، وحوار ثان تعقده مع الواقع الذي صدرت عنه. أما حوارها مع القصيدة الحديثة فيتجلى في استدعاء الأقنعة والرموز التي تنهض بوظيفة المعادل الموضوعي، مستلهمة شعراء الحداثة الشعرية العربية. وأما حوارها مع الواقع فيتمثل في الجدل الذي تعقده مع الأحداث تتشرب جوهرها العميق وتتخلى عما عداه. فالشعر، لدى الحميدي ليس تعبيراً عن حقائق الروح فحسب وإنما هو تعبير أيضاً عن حقائق التاريخ.

والواقع أن كل قصائد الحميدي الشعرية تصور حركة الروح تتأبّى على سلاسلها، وتسعى، عن طريق الكتابة، إلى استبدال زمن بآخر، ومنظومة قيميّة بمنظومة أخرى، فقدر الإنسان، في شعر الحميدي، أن يرقص داخل أغلاله، ويرفع، في قاع الهاوية، عقيرته بالغناء.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة