Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشاعر التونسي صبري الرحموني…  يتسلَّح بالهشاشة

"كتاب الرجل المغناطيس" يمثل واقع االتجربة العربية الشابة

غلاف الكتاب (اندبندنت عربية)

أحياناً يتساءل المرء من أين تأتي الكتابة وإلى أين تذهب؟ يتساءل عن منبعها ومصبها. مرة قال إدوارد الخراط: "أكتب لأني لا أستطيع أن أتحمل أهوال العالم بمفردي". يتعلق الأمر هنا بالرغبة في تقاسم الهمّ الوجودي مع الآخر، قارئ الشعر. تأتي الكتابة في الغالب من هذه التجاذبات التي تقع بين الشاعر والعالم. لكننا أحياناً نقرأ نصوصاً نحسّ أن العالَم هو الذي تسرّب إليها، وأن صاحبها يحاول أن يضع آثار المحيط الخارجي في هذه النصوص، وفي حياة كاتبها. هذا ما ينطبق على تجربة الشاعر التونسي صبري الرحموني في عمله الشعري الأول "كتاب الرجل المغناطيس" الصادر مؤخراً عن دار نقوش عربية، بدعم من مهرجان سيدي بوسعيد.

يبدو العنوان مدخلاً أساساً لفهم التجربة، إنه يحيل على كائن يقف مثل المغناطيس وتنجذب إليه أشياء كثيرة من العالم الخارجي وتترك أثرها فيه، الأثر الذي يسعى في نصوص الكتاب للتعبير عنه شعرياً. رجل يحسُّ هو، ونحس معه نحن أيضاً، أنه لا يريد أن يخبرنا عما قدّمه هو لهذا العالم، لكنه يريد في المقابل أن يخبرنا عما فعله العالم بحياته، رجل هشّ متأثر وجالب لكل الأشياء التي تتحرك خارج حياته، ثم فجأة تنجذب إليه وتغير مجاري هذه الحياة، تحفرها أكثر وتغير وجهاتها أحياناً، وتدفع بصاحبها إلى الضياع والشتات في حالات كثيرة.

يبدو خطاب الفجائعية حاضراً في كتاب الرجل المغناطيس منذ السطر الأول في النص الأول "عائلة الرجل المغناطيس": "جدي كان الفرح". إن جملة كهذه تنبئ بما قد آلت إليه الأمور بعد الفعل الماضي الناقص. فما سيتوقعه المتلقي هو النفي، إذ ستقابل "كان" جملة منفية "لم يعد". ينتقل الشاعر من الجد إلى الأب الذي يرفعه إلى مصاف مختلفة عن التي يضعه فيها أولئك المحيطون به. ثم يصل إلى الأم التي ترِدُ في النص كمعادل موضوعي للحرية: "أمي هي الحُرية. كلُّ صفعة في مخفر وتنهيدةٍ في سجن، كلُّ مُحتَجَزٍ في الحدود ومرفوضٍ في سفارة، كانوا كُلُهم ضربات إزميلٍ تَنحَتُ رُخامَ جسدي في رَحِمِها. وما أنْ أكملَتْ تُحْفَتَها حتى قَبَضَتْ على شوكِ الفلاة وأنْزَلتني هادراً، رافعاً علامة النصر وهي تقول:

انطلق أيُّها الغامض

انطلق أيُّها الحُر".

أما حضور الإخوة فيبدو غامضاً وعابراً، ثمة علاقة غير واضحة، مبنية في الغالب على التوتر، لذلك ربما سيجد الشاعر في كلب العائلة بديلاً عما كان ينتظره من أقربائه. ستكون الكلمة الرديفة لهذا الكائن هي الحب: "الحُبُّ كان كلبَ العائلة. نَبَحَ نبحَ… نبحَ بلا جدوى... وفي ليلةٍ باردة غادرَ بيتنا إلى الشوارع أينَ قَتَلَتْه شرطةُ البلدية مع الكلاب التي بلا أهل".

يمكن اعتبار النص اللافت "قميص بولندي" عودة إلى "الأدب العُمّالي"، لكنها عودة مذهلة، حيث يضعنا الشاعر أمام مشاهد متخيلة ومستعادة. فما إن أرتدى قميصاً عمالياً اشتراه من سوق الملابس المستعملة، حتى تلبسته روحُ صاحبه، الذي يفترض أنه مات في إضرابات السككيين خلال السبعينات. وتحت وقع هذه الحالة من التقمص والتماهي سيقوم الرحموني باستعادة شعرية لزمن "الرفاق" و"الأناشيد الحمراء".في نص "مانفيستو الرجل المغناطيس" يصدر الكاتب بالفعل بيانه، البيان الشعري إذا جاز التعبير، حيث تصير الكتابة موضوعة للكتابة نفسها. ينصرف الشاعر للبحث في أسباب الكتابة وسياقاتها وجدواها ومواضيعها، فنحس كما لو أنه يوجه رسائل إلى من يرغب في أن يكتب، لكنها رسائل خالية من الحماس وروح التوجيه، كما لو أن الأمر يتعلق برسائل تنعى الكتابة وتبشر بلا جدواها، وتقف ساخرة على أبواب مؤسساتها. أما موقفه من الكتّاب فيصرفه في هذا المقطع:

"لا تصادق كُتَّاباً  ولا تهجرهم

كن معهم كضوء بعيد في صحارى موحشة 

اقترب إذا ابتعدوا وابتعد إذا اقتربوا
 
ولا تنسَ مطلقاً أنّك أرنب برّي في ثلْمٍ
 
والجميع يتخيلونك على مائدة".

إن التشبيهات التي يوردها الشاعر لنفسه وظيفتها هي أن تقربه من القارئ، وتضع إحداثيات له، تحيل في الغالب على هذه الورطة الوجودية التي ألفى نفسه فيها.  فمرة يشبّه نفسه بالرجل الذي رفض النبي نوح أن يحمله معه في سفينته، ومرة بالكلب الذي عُثر عليه مقتولاً وعالقاً عند سد الوادي الكبير. في حالات كثيرة يمارس الشاعر السخرية والتهكم على نفسه، يبدو ذلك، بالنسبة إليه، الرد الأنسب في مواجهة قسوة الحياة وعبثها. إنه يفضل أن يستهزئ من ذاته، ومن محيطها، بدل أن يواصل التذمر والتشكي بلا جدوى.

في "كتاب الرجل المغناطيس" يرفع الشاعر راية الهزيمة في هذا العالم ذي الأضواء الطاغية التي تؤذي العين والروح معاً. لم يعد الشاعر قادراً على أن يقف على خط الممانعة، ومواجهة العالم أو الاشتباك معه، أو على الأقل مقاومته:

"لم أَعُدْ ملكاً لنفسي. لقد انتهى بي الأمر إلى الرَّجل المغناطيس

ونحوي تندَفِعُ مسامير الطبيعة الغامضة".

في قصيدة "عودة إلى سدوم" لخليل حاوي يقول: "عدتُ بالنار التي من أجلها عرضتُ صدري عارياً للصاعقة". هذا ما يفعله صبري الرحموني، إنه يواجه أهوال العالم بهشاشته، وبصدر عارٍ، لكنه لا يعود بالنار، ولا يفكر في الظّفر بها.

المزيد من ثقافة