على الرغم من جهود التطوير ومحاولات التطهير وخطوات التحديث، مازال فيها سم قاتل وهم زائد وضغط هائل، ومازالت لافتة "احذر! البيت فيه بعبع" لسان حال كل أسرة مصرية مبتلاة بابن أو ابنة في الثانوية العامة. فهو بيت منكوب، سكانه على رؤوسهم طير الدروس الخصوصية المتحدية كورونا وتحوراتها، ودعاء الأمهات يكاد يُسمع من خلف الأبواب وفراغ جيوب الآباء يوشك أن يُسمع له صدى صوت الفراغ، وباقي الأبناء موضوعون على خاصية "التجميد" لحين زوال الغمة وانقشاع الامتحانات، وإعلان النتائج استعداداً للمرحلة المقبلة في مكتب التنسيق واختيار الكليات ومغامرة جديدة من مغامرات ما لا يقل عن 650 ألف بيت مصري كل عام.
موسم ملبد بالهموم
في كل عام يهل موسم الثانوية العامة محملاً بالهموم ملبداً بالغيوم معبئاً بالسموم. تتعامل الأغلبية المطلقة من المصريين مع موسم الهلع باعتباره قدراً ومكتوباً، وما كتب على الجبين لا بد أن تراه العين، وذلك دون أن يتوقف أحد ليسأل نفسه، متى بدأ الهلع؟ ولماذا؟ وهل أثمر ثماراً طيبة، أم أسفر عن مهازل مهلكة؟
أفدح المهازل إقدام طالب أو طالبة على إنهاء حياته وهو في سن الـ18 بسبب الثانوية العامة. لكن ما هو أكثر فداحة أن يقال ويشاع أن طلاباً أقبلوا على الانتحار بهدف محاربة وزير أو مصارعة وزارة أو تشويه نظام أو لمجرد الإصابة بداء الـ"لايك" والـ"شير" دون تحقق أو تريث.
لم يتريث أحد قبل النقر على خاصية "شير" القاتلة على منصات التواصل الاجتماعي لتبدأ موجة انتحارات طلاب الثانوية العامة الموسمية مبكراً، وتحديداً في مستهل الامتحانات التي بدأت قبل أيام. أول الضحايا الذين زُعم أنه انتحر هو الطالب عبد اللطيف الشناوي الذي استيقظ ذات صباح ليطالع خبر انتحاره بسبب فشله في الإجابة عن امتحان اللغة العربية في الشعبة العلمية، على الرغم من أنه حقيقة في الشعبة الأدبية. صُدِم الشناوي لحظات، وظل يتأمل صورته المصاحبة لخبر انتحاره وآلاف التعليقات الطالبة له الرحمة ولذويه الصبر ولأصدقائه السلوان. بل وصل الأمر إلى درجة متابعته معركة نشبت بين المعلقين، حيث فريق أطلق عليه مسمى "شهيد الثانوية العامة" في حين اعترض فريق آخر معتبرين إياه "مات كافراً" لأنه انتحر.
وبينما يطالع أصداء انتحاره، ظل هاتفه المحمول يدق حيث الأهل والأصدقاء يتحققون من الخبر بين منتحب ومنتفض. سارع بكتابة بضع كلمات لتوضيح الموقف معلناً أنه حي يرزق، وأنه يستعد لأداء امتحان اللغة الإنجليزية. وفي المساء تكالبت برامج الـ"توك شو" على استضافة الطالب الذي اُدعي عليه بالانتحار. وخرج الشناوي يقول، "أنا عايش ولم أمت. وقرأت كما قرأ غيري خبر انتحاري مصحوباً بصوري".
جمع حليب لم يرد
والأدهى من ذلك أن عديداً من وسائل الإعلام التقليدية نقلت خبر الانتحار مصحوباً ببكائية عن حال البلاد والعباد في ظل نظام ثانوية عامة مجحف، يطلب من الطلاب كتابة جمع كلمات مثل "حليب" و"أخطبوط"، ورافعة شعار "وداعاً عصر المهنية والتحقق والتدقيق". وعلى الرغم من وقوع نحو أربعة حوادث انتحار على مدار الأسبوعين الماضيين، إلا أن موسم الثانوية العامة وصناعة الرعب حوله، جعل من حوادث الانتحار السنوية خبراً في صفحة الحوادث.
صالت الصحافة التقليدية ومعها "غروبات "الماميز" وأحياناً الـ"بابيز" (الآباء) و"اتحاد إنقاذ طلاب مصر" و"تحالف تحرير جبهة الثانوية العامة" و"ائتلاف الطلاب المعذبين في الأرض" وغيرها من قوى السوشيال ميديا الطاغية في جولات بكائية وصولات تنديدية لما وصلت إليه الاستهانة بمصائر الطلاب وأعصاب العباد ومستقبل البلاد.
طول البلاد وعرضها ومن فيها صنعوا من "حليب" و"أخطبوط" و"انتحار أبنائنا" ترنداً تصدر البحث والتدوين والتغريد والـ"لايك" والـ"شير"، حتى حانت اللحظة الحاسمة، لحظة الكشف عن أن الامتحانات خلت من أي حليب أو أخطبوط. كما أن حوادث الانتحار المشار إليها اتضح أن أغلبها لم يحدث، وأن من تردد انتحارهم أحياء يرزقون.
"عودة المنتحر إلى الحياة" تحولت إلى عنوان لتدوينة كتبها وزير التربية والتعليم والتعليم الفني طارق شوقي، بعدما تواترت أخبار "السوشيال ميديا" المحملة بأخبار انتحار الطلاب خوفاً من نظام الامتحانات الجديد، أو إخفاقاً في حل أسئلة أو استجابة لضغوط موسمية تتفاقم بفعل فاعلين. كتب شوقي، "نشرت تدوينات على السوشيال ميديا تؤكد انتحار هؤلاء الشباب لعجزهم عن إجابة امتحان العربي، دون أن يشير أي بوست عن اسم أي منهم أو مدرسته أو حتى المدينة التي يقيم فيها. ثم فوجئ الجميع بخروج بعضهم للتعليقات الساخرة على البوستات التي تؤكد انتحارهم. والمؤسف أن يتسابق بعض الصحافيين للتعليق، وكأنها حقيقة، ويسهمون في خلق رأي عام عن صعوبة الامتحانات".
الامتحان صعب وطويل وقصير
"الامتحان، صعب، أو طويل، أو قصير، أو من خارج المنهج، أو غير متوقع، أو في مستوى الطالب فوق المتوسط، أو صادم، أو بحاجة إلى تفكير. قائمة طويلة جداً من الشكاوى المزمنة تغلف امتحانات الثانوية العامة في كل عام على مدار عقود، حتى باتت من الأخبار المتوقعة على صفحات الجرائد والمواقع وأثير الشاشات. لكن التجويد في الأعوام القليلة الماضية أملى على عديد من وسائل الإعلام سكب الوقود على النار، وإذكاء موجات الهلع ودوائر الفزع، حيث الصور الأكثر مشاهدة والفيديوهات الأكثر تداولاً لطالبات مغشي عليهن وطلاب محطمين يائسين وآباء بائسين وأمهات مولولات وسيارات إسعاف ترفع الأشلاء من على أبواب اللجان.
أبواب لجان الثانوية العامة مشبعة بحديث "المجموع". و"المجموع" ليس فقط حصيلة جمع درجات الطالب في نهاية الامتحانات، لكنها حصيلة شقاء الأهل لسنوات بين المدارس والمراكز والبيوت، والأهم إنها الحصيلة التي تحدد مصير الطالب في مكتب التنسيق بناء على مدى قربه أو بعده من معجزة إحراز الأرقام النهائية، أي "تقفيل الامتحانات".
تقفيل الامتحان
"تقفيل الامتحانات" إحدى أبرز لعنات الثانوية العامة المتحولة غولاً ينهش الأعصاب ووحشاً يلتهم الأرواح. ما يزيد على عقدين شهدا تحول "المجاميع" (جمع مجموع بالعامية) إلى منظومة قائمة بذاتها تحدد مصائر الطلاب افتراضياً. تقول الأسطورة، إنه كلما حفظ الطالب عدداً أكبر من صفحات الكتب المقررة، وهو العدد الذي يتناسب طردياً وكم الدروس الخصوصية التي يحصل عليها، كلما أحرز عدداً أكبر من الدرجات، وكلما زادت الدرجات كلما قربته من كليات القمة مثل الطب والهندسة والاقتصاد والعلوم السياسية والإعلام. هذه الكليات تضمن كلاسيكياً مستقبلاً باهراً لخريجيها، حيث المال الوفير والـ"برستيج" الكبير (المكانة الاجتماعية) والسعادة الأبدية. لكن الأسطورة تحجرت عند هذا الحد، إذ إن الحجة والبرهان والعين المجردة والتجارب الشخصية تثبت جميعها، أن كليات القمة لا تضمن بأي حال من الأحوال التربع على القمة أو حتى الاقتراب منها. وعلى الرغم من ذلك، يبقى معظم الآباء والأمهات أسرى الأسطورة، ومن ثم أبناؤهم وبناتهم من طلاب وطالبات الثانوية العامة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العقدان الماضيان شهدا تفشي ظاهرة "تقفيل الامتحانات" وإحراز نسب مئوية تفوق المئة في المئة، وذلك بعد إضافة مواد المستوى الرفيع مثل اللغة الإنجليزية وغيرها. وكانت النتيجة إحراز آلاف الطلاب نسباً مئوية مثل 96 و97 و98 في المئة، وعلى الرغم من ذلك عدم القدرة على اللحاق بركب كليات القمة!
أساطير ومفاهيم
عن أساطير "كليات القمة" و"تقفيل الامتحانات" و"الامتحان خارج المنهج" وغيرها من المفاهيم التي همينت على الثانوية العامة حتى حولتها إلى وحش يدعو إلى انتحار الطلاب، ويصيب الأهل بانهيارات نفسية وأسرية، ويستدعي قوات من الجيش والشرطة لنقل أوراق الامتحانات، ويستنفر خبراء تكنولوجيا الاتصالات لإيقاف محاولات اختراق مواقع الوزارة، وتسريب الامتحانات، وتوفير "خدمات" الغش الإلكتروني.
قال وزير التربية والتعليم والتعليم الفني طارق شوقي في تصريحات صحافية، "إن 30 في المئة من الطلاب كانوا يحرزون مجاميع تفوق نسبة الـ95 في المئة من قبل، لأن الجميع كان متآلفاً مع الأسئلة التقليدية التي ترد في الامتحانات التي كان معظمها يقيس قدرة الطالب على الحفظ، وليس التفكير ولا تحتاج إلى مهارة". وأضاف، "الطلاب الذين يخضعون للامتحانات حالياً لديهم مهارة كبيرة وحصلوا على تعليم جيد، والدليل قدرتهم على الدخول على منصات رقمية. وأناشدهم عدم قياس الامتحانات بالمسطرة القديمة. كما أتمنى ألا يضغط عليهم أولياء الأمور مستخدمين المسطرة نفسها".
ومضى شوقي شارحاً ما يقصد بقوله، إن الغرض من الامتحان هو التمييز بين الطالب المجتهد وغيره ، وإنه لا يقاس بقدرة الطالب على حل جميع الأسئلة من قبل كل الطلاب. وقال موجهاً كلامه للطلاب، "انسوا الثقافة التي اعتدتم عليها القائمة على تقفيل الامتحان، باعتبارها علامة على الإنجاز الجيد. ركزوا فقط على حل أكبر عدد من الأسئلة بإجابات صحيحة، وليس الإجابة على كل الأسئلة بغض النظر عن خطأها أو صحتها". ثم وجه كلامه لأولياء الأمور والمعلمين والمراقبين قائلاً، "ليتنا نحاول توفير أجواء الهدوء للطلاب وإتاحة الأجواء المناسبة لهم لحل أكبر عدد ممكن من الأسئلة بطريقة صحيحة، وعدم التركيز إطلاقاً على كم الدرجات".
منظومة متوحشة
يبدو الكلام سلساً ومقنعاً ومنطقياً، لكنه في منظومة الثانوية العامة التي توحشت وأصبحت كياناً قائماً بذاته اسمه "بعبع الثانوية العامة" يبدو شبه مستحيل. فإذا توافر أب وأم من النوع النادر الذي يتعامل مع الابن في الثانوية العامة باعتباره في سنة دراسية عادية وعلى قناعة بأن العلم ليس حفظاً للكتب بقدر ما هو مهارة تفكير وقدرة على التفكير النقدي، فإن عناوين الصحف والمواقع وبرامج الـ"توك شو" لها مفعول السحر الأسود.
يقول حازم حسين (45 سنة) (مهندس) وهو أب لابنة في الثانوية العامة، إنه وزوجته تعاملا مع ابنتهما باعتبارها في عام دراسي كغيره من الأعوام، "لكن فوجئنا بأننا محاطون بأجواء إعلامية تدعو إلى الانهيار العصبي، وكأننا مقبلون على حرب تقرير مصير. والحقيقة أنه حتى لو كان الطالب محتفظاً بهدوء أعصابه وعلى قناعة بأنه سيدخل امتحاناً عادياً لا يستحق الاستنفار، فإن كل ما حوله يجذبه إلى الانهيار النفسي".
نصائح للانهيار
عناوين الصحف هذه الأيام عامرة بـ"10 نصائح تمنع إصابتك بانهيار عصبي ليلة الامتحان"، "المكونات الغذائية الأساسية لطلاب الثانوية العامة في أسبوع ما قبل الامتحان"، "أستاذ طب نفسي يوجه رسالة لطلاب الثانوية العامة"، "خبير مناعة يحذر طلاب الثانوية العامة من أثر التوتر في الجهاز المناعي"، "أربع نصائح للتغلب على نوبات هلع الثانوية العامة"، "خمس نصائح للتعامل مع التعرق الزائد وتسارع نبضات القلب أثناء الامتحان"، "ست نصائح للوقاية من نسيان المعلومات"، "سبع طرق لحفظ أكبر كم من المعلومات في أقل وقت".
الحوارات واللقاءات تجرى على قدم وساق مع أطباء نفسيين وأساتذة علم نفس وخبراء تغذية ومناعة موجهة لطلاب الثانوية العامة. الجميع يتعامل مع الثانوية العامة وامتحاناتها باعتبارها فترة مرضية صعبة، أو حالة وبائية مريعة أو ابتلاء من السماء للعباد المؤمنين.
العباد المبتلون بالثانوية العامة لهم كذلك أدعية خاصة بهم، لا تحفل بها منصات التواصل الاجتماعي من قبل، متبرعون وجدوا في الأكف المرفوعة إلى السماء وسيلة لمساعدة الطالب في لجنة الامتحان فقط، ولكنها تسللت إلى صفحات الصحف والمواقع الخبرية الكبيرة التي باتت شريكاً متحالفاً في تجذير منظومة البعبع الذي يحتاج أدعية خاصة بعضها متاح على الهواتف المحمولة حيث الدقيقة بجنيه.
الغالبية في الثانوية العامة ما زالت تتمنى النجاح، ومنهم ما يتمنى التفوق والاقتراب من الدرجات النهائية ولو أكد الوزير أنها ذهبت إلى غير رجعة. لكن هناك من يتمثل غاية مراده وكل أمنياته في القدرة على الغش ونقش الإجابات بعد النبش في صفحات التسريب ومنصات حجز الامتحانات بإجاباتها مسبقاً!
غروبات الغش والغشاشين
الطريف أن "غروبات الغش" باتت مسمى متداولاً ومفهوماً ومقبولاً، ولا يعني بالضرورة سباً أو شتماً. صفحة مثل "تشاومينغ يغشش ثانوية عامة" على "فيسبوك"، التي وعدت بامتحان الفيزياء كاملاً بالإجابة، قبل موعده على "واتساب" بالحجز المسبق، تعرف نفسها بأنها صفحة "خدمة عامة" وتضع شروطاً للاستخدام، منها عدم التطاول أو استخدام ألفاظ خارجة على الآداب تقدم خدمة التسريب والغش بأولولية الحجز.
ظاهرة "تشاومينغ" المرتبطة بتسريب امتحانات الثانوية العامة ظهرت خلال العقد والنصف الماضيين، وخضعت لكمّ مذهل من التسييس والتنظير، لكنها تبقى محاولات حثيثة لتسريب الامتحانات وبيعها للغشاشين من طريق الأهل الممولين لعملية البيع بغرض ضمان مجموع كبير، وكلية قمة ومستقبل في علم الغيب. فتارة المسربون هم فاسدون يحاولون إسقاط الدولة، وأخرى هم علمانيون يحاولون إسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين، وثالثة هم منتمون للجماعة يعملون على هدم النظام الجديد، وهلم جرا.
محاولات التسريب
هذه الأيام، محاولات التسريب جارية، وجولات القط والفأر بين المسربين وصفحاتهم والراغبين في شراء الامتحانات وإجاباتها وبين الدولة ممثلة في وزارتي التعليم والداخلية. لكن يظل الجانب الأخلاقي غائباً في ملحمة تسريب امتحانات الثانوية العامة. فلا المسرب يعتبر عمله ضد الدين والأخلاق، ولا الطالب الباحث عن المسرب يعتبر ذلك غشاً ووقاحة، ولا الأهل الممولين لعملية الشراء يعتبرون تمويلهم إفكاً وضلالاً.
وتظل أسطورة الثانوية العامة وبعبعها يقاومان رياح التغيير التي تسيرها وزارة التربية والتعليم. وعلى الرغم من النحت في صخر التعديل المعرفي والتغيير النقدي، وإعادة رسم ملامح الغاية من التعلم والامتحان، لكن مازالت مقولة "يوم الامتحان يكرم المرء أو يهان" تتسيد، ومازالت "شيماء" تقفز من الطابق السادس عشية امتحان مادة "الميكانيكا" خوفاً وذعراً، ومازال "يوسف" يفكر في الانتحار، لأنه أخفق في الإجابة عن السؤال الرابع.
المثير هو أن وباء كورونا وهلع الإصابة ورعب الفيروس تضاءلت وتقزمت تماماً أمام وباء شهادة إتمام الثانوية العامة وهلع الغش والغشاشين ورعب الامتحانات. وصارت امتحانات الثانوية العامة الدائرة رحاها هذا العام أحادية الهلع، هلع الامتحان بديلاً عن الوباء.