Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

علي عبدالله صالح (9)

اللقاء الأخير مع الأمير.. الانتخابات .. فرج بن غانم

كان الرئيس السابق علي عبدالله صالح يدير البلاد عبر التدخل في عمل الحكومات التي يشكلها (رويترز)

دخلت على "الأمير" بقصره في الرياض، وكان جالسا على مكتبه منهمكا في قراءة ملفات موضوعة أمامه.. تركنا "المستشار" بعد أن نبهني الى ضرورة اختصار الحديث لقرب صلاة الفجر. سلمت عليه وقبل أن أجلس أمامه بادرني بـأنه كان مصرا على أن يسمع من "الرئيس" أني مبعوث من طرفه وقال (والدك أخي وصديقي وانا حريص عليك لهذا كان عليه ان يتصل بي "الرئيس").. وفجأة سألني (هل تثق فيه؟ - يقصد صالح)، ومن الطبيعي اني لم أتوقع مثل هذا السؤال، فترددت في الإجابة، وما كان معقولا ان اقبل ان أكون مبعوثا له ثم اشكك في صدقه، لكن الأمير تابع بصراحته المعهودة وتلقائيته المعروفة (انا اثق في والدك وفيك، لكنهم يقولون انه كذاب). وجدت ذلك مخرجا من الحرج، رغم أني كنت مستاء من صالح لمحاولته انكار وجودي خلال مكالمته الأولى مع الأمير، فأجبته فورا (لكنه لن يكذب عليك يا سمو الأمير)!. كان سبب تساؤل الأمير ان علاقات "الرئيس" مع الرياض كانت غير مستقرة، وتملؤها الشكوك والريبة التي تزايدت بعد غزو الكويت وحرب 1994.. بعد ذلك عرضت عليه آخر المقترحات وكان الخلاف وقتها يدور حول مسار بعض الخطوط الحدودية، وإمكانية التفاهم على استثمار مشترك في المناطق المتداخلة والمتنازع عليها.. وشرحت للأمير المقترح فلم يعلق، وقال انه سيتواصل مع "الرئيس".. ودعته وعدت الى صنعاء لأبلغ الرئيس بنتيجة اللقاء، لكني لم انقل اليه شكوك "الأمير"، وكان لقائي مع ولي العهد هو الأخير حول ملف الحدود.

خلال الفترة التي كنت اتنقل فيها بين صنعاء والرياض والبحرين (1995- 1999)، جرت الانتخابات النيابية الأولى بعد حرب صيف 94 في 27 ابريل (نيسان) 1997 بدون مشاركة الحزب الاشتراكي، وحصد المؤتمر الأغلبية المطلقة (187 مقعدا) تلاه حزب الإصلاح بفارق كبير (53 مقعدا)، وحازت الأحزاب الصغيرة على مقاعد قليلة (الناصريون 3 مقاعد وحزب البعث مقعدان)، وحصل المستقلون على 54 مقعدا انضم أغلبهم الى كتلة المؤتمر (39 نائبا).. وانعكست النتيجة باستبعاد شريك الحرب (الإصلاح) من الحكومة، لكن صالح قرر استمرار الشيخ عبدالله الأحمر رئيساً لمجلس النواب رغم انه كان يرأس حزبا صار في المعارضة، حتى لا يحدث شرخا مبكرا في العلاقة الشخصية بينهما قبل ان يتخلص من عبء ملف الحدود.

بعد الانتخابات كلف صالح الراحل الدكتور "فرج بن غانم" في منتصف مايو (أيار) 1997 لتشكيل الحكومة خلفا للراحل عبدالعزيز عبدالغني، وكان معروفا انه لم يكن منتمياً لأي تنظيم سياسي، وتم اختياره لكفاءته ونزاهته المشهودتين داخليا ودوليا، وكان "بن غانم" قد رفض عرضاً سابقاً بعد انتهاء حرب صيف 1994 لتشكيل الحكومة، ولكن صالح حرص على تكليف جنوبي من حضرموت في محاولة لتأكيد المشاركة الجنوبية في قمة السلطة، ولكنه لم يكن يحمل هذا المزاج، ولم يكن بحكم تكوينه النفسي والأخلاقي من الساعين او الراغبين في الحصول على وظيفة تركها اكثر من مرة حين كان وزيراً في الجنوب، ثم بعد الوحدة حين قرر عدم الاستمرار في حكومة حيدر العطاس في 1993 عندما شعر بعدم إمكانية احداث تغيير إيجابي.

كنت اعرف الدكتور "بن غانم" منذ كان سفيرا لليمن الجنوبي في جنيف قبل الوحدة، وربطتني به مودة وصداقة، فاتصلت به من البحرين بعد ان علمت بوصوله الى صنعاء بعد التكليف مستفسرا عن سبب قبوله للمنصب، فرد بسخريته المعهودة (يجربوني مرة ولن يكرروها)، وزاد (لا اعتقد أني سأستمر طويلا).. وهو ما حدث اذ بدأت متاعب "بن غانم" فور تعيينه لأن أسلوب عمله كان مختلفا عما هو معتاد بأن يكون رئيس الحكومة مجرد موظف كبير لدى الرئيس وهو ما رفضه "بن غانم".

قبل "فرج بن غانم" تشكيل الحكومة بمجموعة من الوزراء، لا يعرف أكثرهم شخصياً، اقترحهم صالح على أساس ان يتقدم بعدها بمقترحاته لتنفيذ برنامجه الإصلاحي، واستبدال من لا ينسجم مع أسلوب عمله، وبعد خمسة أشهر بدأ بالحديث عن تردد صالح في تنفيذ الخطوات المتفق عليها، وكان السبب انها تمس امتيازات ومصالح تضخمت على مدى عشرين عاما وكانت تمنح دون الالتزام بالإجراءات القانونية والقواعد المالية المتبعة.. بقي "بن غانم"  مصرا على  موقفه، وحين وجد عدم استجابة غادر الى جنيف دون ان يبلغ أيا من كبار المسؤولين عن خط سيره، واقام عند احد أبنائه (غسان) الذي كان يدرس الماجستير.

عاد :بن غانم" الى صنعاء، وبقي علي موقفه الرافض لأي مساومة على استقلالية قرار وسلطات رئيس الحكومة فيما يخص تسيير أعمالها ولم يكن يسمح بأي تدخل في صلاحياته، وامتنع عن تنفيذ توجيهات "الرئيس" ما لم تكن متوافقة مع القوانين وبالتفاهم بينهما، وبقي مصراً على وجوب خضوع الوزراء لسلطته وان تكون سلطات الرئيس على الجهاز التنفيذي عبر رئيس الحكومة، وهي مسألة لم يكن صالح معتاداً عليها مع من سبقوا "بن غانم" ومن خلفوه، الذين كانوا لا يرفضون أي توجيه حتى ان جاء مخالفاً للقواعد القانونية والمالية، وكان أغلب الوزراء يتلقون تعليماتهم اما مباشرة او عبر مكتب رئاسة الجمهورية وفي أحيان عديدة عبر تحويلة "الرئيس".

في تلك المرحلة طالب صندوق النقد الدولي بتخفيف الدعم عن المشتقات النفطية لتقليص عجز الموازنة العامة ولم يعترض "بن غانم" الا انه اشترط ان يكون مرتبطا بإجراءات مالية تقشفية واصلاحات إدارية شاملة. استمر "بن غانم" على موقفه رافضا كل المساعي التي بذلها "الشيخ "عبدالله الأحمر و"الدكتور" الإرياني لنزع فتيل الأزمة السياسية التي حاول صالح تجاوزها دون تقديم تنازلات لإنهائها.. وغادر ثانية الى سويسرا.

بعد شهر آخر من الغياب عاد "بن غانم" الى صنعاء، وفي اليوم التالي التقى "بن غانم" مع صالح الذي طلب منه ترأس جلسة لمجلس الوزراء لإظهار ان غيابه لم يكن بسبب الخلاف بينهما على ان يتلقيا بعدها لبحث معالجة أسباب الخلاف، الا "بن غانم" رفض بعد ان ادرك عدم استعداد "الرئيس" للتوصل الى تفاهم حول أسلوب العمل بينهما، وقدم استقالة مكتوبة أرسلها مع وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء المرحوم "احمد البشاري"، وهي سابقة في تاريخ رؤساء الحكومات منذ 1974 حيث كان معتادا ان تتم اقالتهم.

كانت حكومة "بن غانم" شاهدا على أسلوب "صالح" في العمل، وعدم تقبل التعامل مع مسؤولين لا يخضعون لسلطته المطلقة وسلطة مكتبه، ورغم كفاءة ودهاء كثيرين من الذي عملوا معه في قمة السلطة منذ ان وصل الى سدة الرئاسة، الا انهم جميعا كانوا دوما يشكلون خط الدفاع عنه تجاه خصومه ما اضعف قدرتهم على التأثير، وانحصرت مهمتهم في تخفيف الأضرار الناجمة عن سوء إدارة الدولة، ومحاولة التقليل من آثارها السلبية على تسيير المؤسسات، وانزلق كثير منهم في دورة الفساد التي وصفها أحد رؤساء الحكومات السابقين بالقول (من لم يثرِ في عهد صالح فلن يثري ابدا).

أصدر "صالح" قرارا بتكليف "الإرياني" الذي كان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية بإعادة تشكيل الحكومة في 29 ابريل 1998، وكان رافضا للموقع الا انه استسلم رغبة في عدم احداث فراغ سياسي، كما اراد إنقاذ "الرئيس" من الحرج الذي تسببت فيه استقالة "بن غانم"، ولم يخرج من الحكومة السابقة الا "عبدالله صالح سبعة" وزير المغتربين الذي رفض الاستمرار في منصبه.. ورغم محاولة المعارضة نشر نص الاستقالة الا ان "بن غانم" رفض حرصا على عدم استغلالها سياسيا ضد "صالح"، وبقي رحمه الله في صنعاء حتى العام 2003 حين عاد سفيرا في جنيف الى وقت وفاته في بداية شهر أغسطس (آب) 2007.

استمر "الإرياني" في عمله بحسب الأسلوب المعتاد قبل "بن غانم"، واقترب موعد الانتخابات الرئاسية في سبتمبر (أيلول) 1999، وكان من الضروري العثور على مرشح منافس بموجب تعديلات الدستور التي توجب وجود مرشحين على الأقل، وحاول امين عام الحزب الاشتراكي علي صالح عباد "مقبل" الحصول على التزكية المطلوبة من مجلس النواب، الا انه فشل في ذلك لأن "صالح" و"الإصلاح" لم يكونا راغبين في افساح المجال له للإعلان عن خطاب سياسي معارض ومختلف. هكذا تم اختيار "نجيب قحطان الشعبي" مرشحا منافسا لصالح، وكان المعيار انه جنوبي ونجل أول رئيس لليمن الجنوبي بعد استقلاله في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1967، وفي نفس الوقت لم يكن ممكنا ان يشكل أي ازعاج لصالح.

خلال الاستعدادات للانتخابات الرئاسية فاجأ حزب الإصلاح الجميع، فقررت الهيئة العليا (المكتب السياسي) اعتبار علي عبدالله صالح مرشحهم للانتخابات، حتى قبل إعلانه مرشحا عن تنظيمه المؤتمر الشعبي العام، ولاشك ان الشيخ عبدالله الأحمر لعب دوراً رئيسياً في اتخاذ القرار لعدم اقتناعه بغير صالح، ولحرص "الإصلاح" على عدم الابتعاد عن "الرئيس.

كانت الانتخابات عملية مكلفة سياسيا وماديا، وأشبه ما تكون بمسرحية هزلية.

 (وللحديث بقية)

المزيد من آراء