Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سومر شحادة يروي مشاعر الفقد لدى الأجيال السورية

"الهجران" الفائزة بجائزة نجيب محفوظ تدخل متاهة الحرب التي يتشابه فيها الجميع

لوحة للرسامة هيا حلاو (صفحة الرسامة على فيسبوك)

يشق الكاتب السوري الشاب سومر شحادة طريقه في عالم الرواية العربية الواسع، ويخلق لنفسه رويداً رويداً هالة جميلة بعد روايتين، الأولى بعنوان "حقول الذرة" الحائزة جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي، والثانية بعنوان "الهجران" التي نالت أخيراً جائزة نجيب محفوظ لأفضل عمل عربي في دورتها الثالثة، وهي الجائزة التي يقدمها المجلس الأعلى للثقافة في مصر،  المختلفة عن تلك التي تقدمها الجامعة الأميركية في القاهرة التي تحمل الاسم نفسه.

يختار الكاتب السوري الشاب أن يفتتح سرده في روايته "الهجران" (دار التنوير) بالموت. موت عزيزة أم الراوي زياد، الشاب الخجول، وموت عبدالله شقيق جوري محط الكلام والإعجاب ومحور الأحداث إلى حد ما. وليس هذا الخيار الروائي اعتباطياً، بل يلقى صداه في جملة تلفظها إحدى الشخصيات عندما تقول، "ما هذه السورية التي لم يعد يغادرها الموت؟" (ص: 77) ويبدو من الجلي للقارئ أن الكاتب يتمكن من توظيف المآسي والمعارك الدائرة في سوريا لغايات سردية في خلفية العمل الروائي الزمانية والمكانية، من دون أن يدخل في شؤون السياسة والأيديولوجيا وتبني رأي معين أو منطق معين. فبين رجل عجوز أناني تخلى عن معتقداته، وابن خسر والده بسبب معتقداته بالذات، وأم تنتظر أن يكبر ابنها هي التي فقدت حب حياتها في السجن، وجندي شاب إنما هرم ومكسور بسبب ما لقيه من وحشية وقسوة وموت، وفتاة هائمة على وجهها من دون بوصلة، مدينة وفضاء روائي محفوفان بالحزن والفراغ والهجران.

يتمكن هذا الكاتب المقيم في سوريا من إنشاء بناء سردي متماسك، في ظل حرب دائرة، موظفاً الحرب لطرح أسئلة إنسانية وجودية في الأخلاق وعلم الاجتماع، كمسؤولية الجندي المأمور في تنفيذ أوامر القتل، ودواخل هذا الجندي الذي دُمر لكمية الجثث التي رآها، إضافة إلى السؤال الأعظم الذي بتنا نراه أكثر وأكثر في الأدب العربي المعاصر، الذي طرحته الكاتبة الفلسطينية الشابة شذى مصطفى في روايتها "ما تركتُ خلفي"، وهو، القضية أم الإنسان؟ هل تستحق الأوطان أن يموت المرء من أجلها؟ هل تستحق الأيديولوجيا أن يضيع الإنسان حياته وعائلته في سبيل الدفاع عنها؟ وما قيمة هذه الحروب بعد سنوات عندما يهدأ كل شيء، ولا يبقى سوى الموت والصمت والفقدان؟ يقول الراوي الذي فقد والده شتاء عام 1982 مقتولاً في سجنه، "كل تلك المعارك اندثرت ولم تغير شيئاً، بل لم تترك أي أثر خارج تاريخ لا يعرفه سوى الذين كانوا ضحاياه. لكنها أخذت والدي!! فهل كانت تضحيته بلا معنى؟" (ص: 32)

شعور عام بالفقدان

يلاحظ القارئ أن الشعور بالهجران والفقدان يسيطر على الأجيال كلها، ويتجلى ذلك من خلال الوصف والحوارات وكلمتي "الهجران" و"الفقد" اللتين تتكرران مرات متعددة في النص، كقول الراوي مثلاً، "الحياة تستمر، والفقدان هو من أكثر الأمور التي تحدث للناس." (ص: 37) كلمات موزعة ضمن السرد تطعن القارئ خناجر، وتلفت انتباهه إلى فداحة الحياة المقولبة ضمن موت وفراغ لا مفر منهما.

فالستيني الآتي من الخارج والستينية التي انتقلت من حلب إلى اللاذقية، كلاهما يعانيان من الهجران والحزن والحنين لسوريا القديمة، واللاذقية التي كانت زاخرة بالوجوه الحبيبة. وكذلك هي حال الأجيال الشابة التي تفقد جوهرها بسبب ما يحصل من معارك وعنف. وقد يكون المثالان الأبرز لهذين الجيلين المنكسرين، هما الأم عزيزة والجندي عبدالله اللذان يشعران بالهجران والفقد والفراغ، ويجلبان الموت إلى نفسيهما، فيختارهما شحادة بالتحديد ليكونا الشخصيتين اللتين يُفتتح السرد بموتهما.

ولا يمكن ألا يتوقف القارئ عند شذرات الجمل الفلسفية أو الإنسانية التي تُثري السرد بوقائع حياتية من دون أن تحمله أكثر مما يحتمل، كقول الكاتب في نوع من الاستباق السردي أو التعميم الواقعي، "يجهل الطفل أن ذلك الخوف المجهول المديد صار فرداً في الأسر السورية كافة". (ص: 25). كلمات قليلة منثورة على مدار السرد كمثل ما سبق، تقرب القارئ من الشخصيات وتجعل الفضاء السردي المشحون بالقلق والخوف والحزن والوحدة فضاءً إنسانياً ملموساً وواقعياً وغير مفتعل بتاتاً.

جزالة وتعمق في الوصف

يتمكن سومر شحادة من تعزيز العمق النفسي لشخصياته وشعورها بالانكسار والفراغ والتيه عبر الرجعات إلى الوراء والوصف السلس الذي يؤم النص، والذي يجعل القارئ متآلفاً مع الشخصيات وطباعها والصراعات التي تمر بها. ولا يتكلف شحادة في سرده الصدف الروائية، ولا يصطنع أحداثاً أو أزمات، بل نراه يسير بنصه بسردية جزلة تجعل الرواية مقتطفًا من الحياة، وكأن القارئ يسترق النظر إلى مشهد من حيوات تدور في اللاذقية من دون وجود هامة كاتب مسيطر على الأحداث ومسير لها.

وتلتقي هذه الجزالة في السرد مع التعريف الذي يقدمه الناقد الأكاديمي لطيف زيتونة للرواية فيقول، "الرواية، في صورة عامة، نص نثري تخيلي سردي واقعي غالباً يدور حول شخصيات متورطة في حدث مهم، وهي تمثيل للحياة والتجربة واكتساب المعرفة..." (معجم مصطلحات نقد الرواية، ص: 99). فيجسد شحادة سوريا اليوم بنسائها ورجالها وجنودها وشبابها في رواية لا تصبو إلى تلقين القارئ حقيقة الوضع الراهن، بل تسير به في تفاصيل الحياة اليومية وأحداثها بنوع من التأمل الفكري الذاتي اللذيذ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن الجدير بالذكر أن سرعة السرد ثابتة، والوصف مستقر متسلسل لا يقفز ولا يفتعل مشاهد غير واقعية، بل تتكامل الفصول من وجهات نظر مختلفة لتشكل المشهد الروائي العام. ويمكن للقارئ اللبيب أن يتنبه إلى أن الراوي زياد هو الوحيد الذي يروي بصيغة المتكلم "أنا"، بينما الأصوات الروائية الأخرى الخاصة بجوري الفتاة الفاتنة وعادل الفنان المشهور العائد إلى سوريا، فيتم سرد وجهة نظرهما عبر ضمائر الغائب. والموضع الوحيد الذي يفلت السرد فيه من زمام زياد ويصبح هو الآخر ضميراً غائباً، هو في الفصلين 13 و14 من السرد، وهما الفصلان اللذان يشتد الهجران فيهما على زياد، فكأن الهجران والحزن سلباه القدرة على السرد وعلى الإمساك بدفة الكلام.

"الهجران" رواية جميلة جزلة لراوٍ شاب واعد يملك نَفساً سردياً سلساً واقعياً، يتقن مهارة توظيف الواقع في خدمة العمل الروائي من دون افتعال أو تصنع، لتبقى سوريا بسنواتها الحمراء الإطار الجغرافي الذي يحكم على الشخصيات جميعها بالخسارة، فالشخصيات تدور فارغة مهجورة "في بلد يجعل من ناسه قساةً وجلادين، بالقدر الذي جعل منهم عشاقاً ومحترفي حنين وحزن". (ص: 105)

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة