Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإيدز وكورونا: حياة بين جائحتين

مع دخول الجائحة سنتها الثانية تكتب روبين غورنا عن حياتها في ظل جائحتين خلال الـ50 سنة الماضية

رباط أحمر على صدر عامل مهاجر في حملة توعية حول أعراض نقص المناعة -الإيدز في الصين في 2005 (غيتي)

الأوبئة الجديدة تتطلب منا التواضع والفضول والأمل. في الخامس من يونيو (حزيران) 1981، نشر "المركز الأميركي للسيطرة على الأمراض" CDC تقريره الأول عن ظهور المتكيسة الرئوية الجؤجؤية pneumocystis carinii pneumonia [التهاب رئوي]، إذ أصابت خمسة رجال مثليي الجنس في لوس أنجليس، كاليفورنيا. وفي الخامس من يناير (كانون الثاني) 2020 نشرت منظمة الصحة العالمية تقريرها الأول عن التهاب رئوي مجهول السبب، أصاب 44 مريضاً في مدينة ووهان الصينية. ومع دخولنا الآن عامنا الثاني في ظل الجائحة الجديدة "كوفيد-19"، فإننا نبلغ أيضاً العقد الخامس لجائحة أخرى، كنت قد نشأت شخصياً في ظلها. على هذا المنوال تتابع حياتي تحولاتها التي لا تني تتوقف بفعل هاتين الجائحتين المختلفتين، وفي بعض النواحي المتشابهتين، على نحو غريب. وقد استندت ردود فعل عديدة على "كوفيد"، بذكاء، إلى دروس من الماضي، وهذا ما ينبغي أن يحدث في الجوانب الأخرى من ردود الفعل المذكورة.

أنا، منذ البداية، كنت مذهولة بهذه الجائحة الجديدة الناشئة بسرعة، وبأوجه الشبه القائمة، بالنسبة للعلم والسياسة والناس، بينها وبين ما عايشته قبل عقود. من ثم، في شهر مايو (أيار) 2020 – في آخر الموجة الأولى من الجائحة – أصبت بعدوى "كوفيد-19". وفي خضم إصابتي رحت أفكر بأوجه التشابه والاختلاف بين ما يحدث راهناً وبين ردود الفعل العالمية والمحلية تجاه مرض الإيدز، والدروس التي ما زال أمامنا الوقت الكافي لتعلمها.

وكنت، بعد خمس سنوات من بداية تلك الجائحة الأولى (الإيدز)، قد وجدت نفسي في خطوط المواجهة الأمامية، حيث تملكتني الحماسة للتطوع في جمعية "تيرينس هيغينس ترست" Terrence Higgins Trust (جمعية بريطانية نشطت في مكافحة الإيدز). وكطالبة مندفعة ومثالية تعلمت الكثير من أشخاص استثنائيين (رجال في الغالب) ساهمت نضالاتهم مساهمة فعالة في الكفاح العالمي نصرة لحقوق المثليين. وكان مصدر كبير من الطاقات المكرسة لتحقيق التغيير في ذلك المجال، قد جاء من أناس يعانون مرض الإيدز ونقص المناعة المكتسبة، مثل مجموعات الدعم البريطانية (التي بمعظمها لم تعد موجودة) كـ"فرونتلاينرز" Frontliners، و"بوزيتيفلي وومين" Positively Women، و"بلاكلاينيرز" Blackliners. فقد انضم الناس إلى تلك المجموعات آنذاك سعياً للحصول على المعلومات وإشهار التضامن (مع المصابين)، ثم ما لبثوا أن نحّوا جهودهم نحو حملات المناصرة والتأييد (مناصرة المرضى والمصابين ودعمهم)، فواجهوا مظاهر الإهمال وتدني الخدمات (الصحية). وأدت طاقاتهم الثورية والمركزة في ذلك الوقت إلى إلهام وبلورة أفكاري المتعلقة بكيفية حصول التغيير. كما ساهم مرض الإيدز آنذاك في اجتذاب متطوعين شديدي الالتزام، وناشطين حاذقين بمختلف المستويات المتعلقة بمكافحة المرض، إذ اتحد هؤلاء جميعاً ضمن مهام بث الوعي في مواجهة مخاطر الإصابة، وفي مقارعة أهوال شيطنة وتقبيح المرضى والمحتضرين (جراء الفيروس)، بيد أن الأمر لم يكن على هذا النحو بالنسبة لـ"كوفيد".

بحسب تجربتي الشخصية، فإنني عندما لم أتمكن من التعافي من أعراض "كوفيد"، قمت بالبحث على الإنترنت عن دعم أتلقاه من آخرين، وحين وجدت مجموعات افتراضية تضم آلاف الأشخاص، سرعان ما بدأت في مشاركة ما كنت تعلمته شخصياً في حياتي من الجائحة السابقة (الإيدز). وفي الحقيقة لاقى نداء التوعية المعتمد ضد الإيدز، "لا غنى عنا فيما يخصنا" Nothing About Us Without Us، أصداءً وآذاناً صاغية عند أشخاص يعانون "كوفيد" المديد (لفترة طويلة). ففي شهر أغسطس (آب) 2020، انضممت لبعض تلك المجموعات بغية تقديم دليل وشرح لـ"الهيئة البرلمانية البريطانية متعددة الأحزاب" (All Party Parliamentary Group) عن "كوفيد"، بالتالي قمت بوضع لائحة مطولة من المطالب رفعناها إلى "هيئة الصحة والرعاية الاجتماعية" (في البرلمان البريطاني). وعملت الهيئة المذكورة على مساءلة وزير الصحة، مات هانكوك، في قضية غياب الخدمات. وعلى الأثر، نتيجة لذلك، سارع الوزير إلى إعلان تخصيص 10 ملايين جنيه استرليني لإنشاء عيادات لإصابات "كوفيد" المديد (طويل الأمد). الأمر يبدو جيداً، لكن الآن في بريطانيا هناك مليون شخص مصاب بـ"كوفيد" طويل الأمد (وفق مكتب الإحصاءات الوطنية ONS). هذا يعني أن هناك 10 جنيهات استرلينية فقط لا غير، مخصصة للشخص الواحد.

يشعر كثيرون منا بالحنق جراء عواقب نقص التمويل. فهناك لوائح انتظار طويلة ومفرطة، ومظاهر رعاية قاصرة، وحملات توعية غير كفؤة، وأشياء أخرى على هذا المنوال، لكن، وعلى عكس ما حدث خلال جائحة الإيدز، لم تظهر قوة ناشطين حيوية تسعى للتغيير. لماذا؟ واقع أن الإعياء الكبير يمثل العارض المحدد لـ"كوفيد" المديد [طويل الأمد] لا يساعد كثيراً في هذه المسألة [يزيد الطين بلة]. كذلك، فإن قليلين منا كانوا في حالة تواصل قبل حلول أعراض "كوفيد" (المديد) فينا وتباطؤ انحسارها – ما عدا مئات آلاف العاملين في خدمات الصحة والرعاية (إذ اكتشف مكتب الإحصاءات الوطنية في الآونة الأخيرة أنهم، وللمفاجأة، يحملون الأعباء الأكبر لـ"كوفيد" المديد هذا). ومن الصادم مشاهدة الإهمال الذي يواجهه الكثيرون ممن يعانون الأعراض طويلة الأمد إثر أصابتهم أثناء أعمالهم [دوام العمل]. وأصيب أشخاص، خصوصاً من السود وذوي الأصول الآسيوية، بالعدوى، بسبب "أدوات وقاية شخصية" غير ملائمة، وغالباً ما أجبروا على العودة إلى وظائفهم وأعمالهم باكراً (قبل تعافيهم التام)، أو جرت إحالتهم إلى التقاعد عنوة، بدل تقديم الدعم لهم ومنحهم فرصة للعودة التدريجية إلى العمل. وكما تذكر صوفي التي تعمل ممرضة توليد حين تقول، "لم أمت جراء "كوفيد"، بيد أنني لم أتحسن"، فإن السمات المتأصلة للعاملين في الرعاية الصحية تشمل إيلاء الأولوية لاحتياجات الآخرين. ومع اختلال موازين القوى والخوف من التعامل مع أرباب العمل، تتصرف الفئات والمجتمعات المهنية على نحو مختلف تماماً عن تصرف الفئات المرفهة.

التقيت بصوفي من خلال "فريق دعم (مصابي) "كوفيد" المديد Long Covid Support Group، وذلك ضمن جهود مشتركة لتشجيع الأشخاص المتحدرين من أصول أفريقية للمشاركة في اجتماعات فرق عمل مكافحة "كوفيد" المديد التابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية NHS والتحدث مع المشرفين الصحيين عن ما يمرون به. جميع الأفراد منا، الذين تولوا دور "تمثيل الفريق" كانوا من البيض، وبعضنا خشي أن نكون نحن، كنساء بيض (من الطبقة الوسطى)، قد حظينا بامتياز الحصول على المساعدة وإسماع أصواتنا، فيما تكبدت جماعات وأوساط أخرى ضريبة الموت بصمت والمرض المستفحل. وقرابة مطلع شهر مايو (أيار) 2020، كان مكتب الإحصاءات الوطنية ينشر دراسات إحصائية دقيقة تتعلق بالآثار المتفاوتة لـ"كوفيد-19" على المجتمعات والأوساط السوداء والآسيوية في بريطانيا (مقارنة بآثاره على الأوساط الاجتماعية البيضاء). وقد استلزمت سياسات الحكومة وتوجيهاتها شهوراً كي تتلاءم مع نتائج ومعطيات تلك الإحصاءات. كما أنني لست متأكدة من تلقي الأوساط الاجتماعية هذه المعطيات الكافية (للتعامل مع المشكلة). الأمر ذاته حصل في الفترة الأولى لظهور الإيدز، إذ إن الجماعات ذات الأصول الأفريقية والكاريبية، المهمشة وغير المرئية منذ زمن طويل، والخائفة من الارتدادات العنصرية في أغلب الوقت، تأثرت أيضاً بالفيروس على نحو غير متوازن [غير متكافئ قياساً إلى غيرهم من السكان]، حيث ساهم الفقر في التسبب بتلك التأثيرات الكبيرة وتجسيدها في نواحٍ مختلفة.

من ناحية أخرى، فإن علم الأوبئة مهم جداً في حالة الأمراض المعدية. في سنة 1986، جاءت التقارير الأسبوعية المبكرة التي تعلقت بتزايد أعداد المصابين بـ"أتش أي في" HIV لتقلقني وتذهلني، فرحتُ أتابعها عن كثب، مدققة في كيفية انتشار الوباء بين النساء في المملكة المتحدة. علم الأوبئة يشكل قصة تحر مدهشة، وهو الآن علم يمارس من خلف المكاتب في كافة أنحاء وسط إنجلترا، حيث يقوم الناس بمساءلة "عروض شرائح" (معطيات) كريس ويتي المسائية. وفي كتابه الصادر سنة 1987 المعنون "والفرقة تابعت عزفها" And the Band Played On، يصف راندي شيلتس (الصحافي من سان فرانسيسكو الذي توفي جراء مضاعفات الإصابة بالإيدز سنة 1994، عن عمر الـ42) وبتفصيل دقيق الجهود اليومية التي بذلها علماء الأوبئة في محاولة تقصي اتجاهات المرض مع بداية الوباء. وفي شهر يوليو (تموز) 1981، بعد أربعة أسابيع من صدور التقرير الأول، وجد علماء "مركز السيطرة على الأمراض" CDC أيضاً، 20 رجلاً في نيويورك مصابين بنفس الأعراض، وكما علق راندي شيلتس بحدة: "هؤلاء لم يكونوا جميعاً يأكلون من نفس المطعم". علم الأوبئة مذهل، وله أيضاً وجه سياسي.

في السياق عينه جاءت مقالة لاري كريمر الغاضبة "1112 والتعداد مستمر" 1112 and Counting لتبدل مسار التعامل مع مرض الإيدز في الولايات المتحدة، حيث وثقت التزايد الدؤوب لمعدل الوفيات في أوساط الرجال مثليي الجنس. ومناشدات كريمر المؤثرة للرجال المثليين لفهم وقع المرض في أوساطهم، اقترنت بتجاهل أبدته السلطات المولجة في الأصل مهمة حمايتهم، وذلك قاد إلى تأسيس فريق الناشطين "أكت آب" ACT UP (ائتلاف المتضررين من الإيدز لإطلاق قوتهم – وهذا ما تم بالفعل). جاء في السطر الافتتاحي لمقالة كريمر: "هذه المقالة إن لم تخيفكم حتى الموت، فإننا في ورطة فعلية." ومقالة لاري كريمر هذه في الحقيقة تشكل نموذجاً في استخدام علم الأوبئة لرفع الصوت والمطالبة بالأفعال (يا ليتني كتبت مقالة شبيهة بها في مايو 2020). إنها قصة أعاد روايتها بمهارة ديفيد فرانس (مع الاستفادة من خبرة ثلاثة عقود إضافية) الذي عرض ما اتسمت به ردود الفعل الأولية لهيئات الصحة العامة والسلطات السياسية من بطء وخوف وإجحاف. اليوم في حقبة "كوفيد"، سارع علماء الأوبئة القلقون (من الحال) إلى وسائط التواصل الاجتماعي، وأنشأوا "هيئة حكماء (استشارية) مستقلة" وغردوا (على تويتر) رافعين الصوت للهدف ذاته. واتسمت ردود فعل سياسية كثيرة تجاه "كوفيد-19" بالبطء وعدم الكفاءة، لكن ولأسباب مختلفة، فإن العديد من تلك الردود يشهد في الوقت الحالي مراجعة عبر المساءلات السياسية والإعلامية. وبات التاريخ المبكر لـ"كوفيد" يقدم سلفاً كحالة دراسية ونموذجية واضحة لكيفية تشابك السياسات وقضايا الصحة العامة (في بلدان كثيرة جرى إعطاء الأولوية للشعبوية والاقتصاد، على حساب الصحة العامة)، تماماً مثلما يظهر الإيدز استحالة الفصل بين مسائل حقوق الإنسان وبين قضايا الصحة العامة.

في المملكة المتحدة، قام سياسيون لا يتمتعون بفهم كافٍ في العلم وقضايا تعزيز الصحة العامة ببث رسائل متناقضة ومربكة حول "كوفيد"، وكثيراً ما ساهموا في تقويض دور المراجع الصحية الأساسية – الدور الذي كان له أهمية كبرى خلال السنوات الأولى لأزمة الإيدز، حين برز سريعاً السير دونالد أتشيون كمصدر للمعلومات والإرشادات العلمية الموثوقة. ومنذ البداية كان التعامل مع الإيدز شهد مقداراً هائلاً من رهاب المثلية والوصم بالعار تجاه من نسميهم اليوم (بتهذيب) الفئات المهمشة أو الفئات المعنية بالمرض (التي ينتشر المرض في أوساطها)، أي أولئك الذين كانوا أكثر هشاشة تجاه "أتش أي في"، ومن ضمنهم الفئات الحيوية والمتنوعة لعمال الجنس، ومتعاطي المخدرات، والرجال مثليي الجنس الذين كانوا يواجهون سلفاً مظاهر التهميش والتجريم ومشاعر الكراهية. وكان على هذه المجموعات التعامل مع ذلك الواقع، كما يذكر الناشط الأسترالي آدم كار في مطلع سنة 1984، إذ يقول: "كنا الأشخاص الوحيدين الذين نملك القدرة على منع (انتشار) الإيدز، وذلك مثل قوتنا الأمضى وورقتنا الرابحة. الأطباء لا يمكنهم إيقاف الوباء، وكذلك العلماء والحكومة، إلا إذا ساعدونا نحن في مهمة صده. الرجال المثليون فقط، بأنفسهم، يمكنهم وضع الأمر تحت السيطرة، ولدينا الوسائل للقيام بذلك. وإن قمنا علناً بالتعاهد لتحقيق هذا الهدف، وإن تمكنا من تحقيقه، فإننا لن ننجح في إنقاذ أنفسنا كأفراد من كارثة الوباء المميت وحسب، بل جميع أوساطنا. وستكون الارتدادات السياسية لانتصار كهذا مفيدة لنا بمقدار ما كان يمكن لعواقب فشلنا في التحرك أن تبدو كارثية بلا أدنى شك".

وفي سنة 1998 انتقلت إلى أستراليا كي أترأس "الاتحاد الأسترالي لمنظمات (مكافحة) الإيدز"، على أمل التعلم من ردود الفعل العالمية الأمثل تجاه الإيدز. وليس من قبيل الصدفة أن تكون دول عديدة ناجحة في التعامل مع "كوفيد"، سبق وتصرفت بطريقة جيدة تجاه الإيدز. وتدرك كل من أستراليا ونيوزيلندا أهمية التعاون واتخاذ القرارات الشاملة، والاهتمام بمختلف الأوساط، وتواصل الحكومات مع الفئات المتضررة بطرق مباشرة وصادقة. في المقابل فإن مظاهر الفشل (الكثيرة) بتعامل السلطات الهندية مع "كوفيد" تضمنت أيضاً "عدم اجتماع فرق العمل لمواجهة "كوفيد-19" طوال أشهر حتى أبريل (نيسان) الماضي".

تتطلب التحديات الجدية التي تواجهها الصحة العامة إدارة سليمة وقيادة سياسية فعالة. وتبدو المسارات الصادمة للأوبئة في بلدان يرأسها قادة شعبويون – أمثال بولسونيرو، وجونسون، ومودي، وترمب – متعارضة تماماً مع المسارات الناجحة التي تسلكها بلدان لديها في موقع القرار أشخاص رصينون وعميقو التفكير. ومن غير المصادف أن يكون بحث أجري في 35 بلداً قد وجد أن البلدان التي تقودها نساء "تكبدت معدل وفيات أكثر انخفاضاً، وكانت أشد فاعلية وأسرع حركة في عملية تسطيح منحنى الوباء (الحد من انتشاره)، حيث بدت معدلات الوفيات اليومية هناك أقل من باقي البلدان". واحتلت رئيسة وزراء نيوزيلندا، ياسيندا آرديرن، المرتبة الأولى في هذا الإطار، حيث بقي معدل وفيات "كوفيد" في هذا البلد تحت معدل 1/100000 (واحد من مئة ألف)، فيما بلغ معدل وفيات "كوفيد" في بريطانيا بالمقابل 190/100000 (مئة وتسعون من مئة ألف). وقبل حلول اليأس بنا أمام هذه المعطيات، ثمة أمل حقيقي للتغيير. فحيث تخطئ الحكومات، يبقى هناك إمكانات لتصحيح المسار. والولايات المتحدة أظهرت هذه الإمكانية بوضوح حين انتقلت البلاد من (إدارة) ترمب إلى (إدارة) بايدن – وهذا الأمر يذكر بالتحولات الشاملة في تعامل جنوب أفريقيا مع الإيدز عندما بلغت السياسات الإنكارية الإجرامية لفترة حكم مبيكي وتشابالالا - مسيمانغ نهايتها، وحلت مكانها السياسات الفعالة القائمة على الأدلة وجهود مضاعفة العلاجات والخدمات التي اعتمدها الرئيس موتلانثي، ووزيرا الصحة في عهده، هوغان وموتسواليدي.

إن سياسات الصحة العامة الناجحة تعتمد على عمليات تواصل ومداولات جيدة، وهذه قد تتمثل بما قدمته آرديرن من إعلان مطمئن، لكن حازم، لتدابير الإغلاق لمواجهة كورونا – حيث شبهت في خطابها الرسمي لإعلان تلك التدابير العاملين في المهن الأساسية بـ"أرانب الفصح" و"جنيات الأسنان". طبعاً كانت هذه بادرة طريفة من أم شابة تحب التعامل مع الأطفال باهتمام، بيد أن مقاربتها في الحقيقة أصابت ما هو أعمق وعبرت عن تقدير صادق للجهود اللازمة لدعم الناس في تلبية متطلبات غير واقعية وسط تحديات غير مسبوقة.

وفي السابق كانت الحملات المبكرة لدعم مرضى الإيدز قد شهدت نجاحاً ملحوظاً لأن الرجال المثليين تحدثوا مع بعضهم بعضاً بلغة صريحة، متناولين الأخطار التي يواجهونها، كما دعوا بعضهم بعضاً لاتخاذ الاحتياطات اللازمة في مواجهة تلك الأخطار غير المسبوقة. أما حملات مواجهة "كوفيد" في بريطانيا بالمقابل، فقد جاءت صادمة لمدى افتقارها إلى التركيز على ديناميات انتشار الفيروس، واقتصار تشديدها بشكل مضخم على القيود والمعاقبة. من جهتها، كانت الحملات المتعلقة بالـ"أتش أي في" (الإيدز) وورشات عمل "الجنس الآمن" قد ركزت على جعل الممارسات الجنسية الآمنة تبدو أكثر إثارة (من الناحية الجنسية)، وشجعت الناس على القيام بأشياء غير بديهية، وزودتهم بتوصيفات تفصيلية عن الأسباب التي تجعل من أفعال محددة آمنة أو غير آمنة، كما أمنت للناس المعلومات والمهارات لاتخاذ قرارات ذكية في ظروف وأوضاع غير متوقعة.

وكما حدث بالنسبة للإيدز، تلقى كل بيت (في بريطانيا) "نشرة من الحكومة بالمستجدات ذات الأهمية المتعلقة بفيروس كورونا"، لكن في شهر مارس (آذار) 2020 لم يكن الناس قد تسلموا أكثر من نشرتين لتحذيرهم (أي لتحذير كل بيت وعائلة في البلاد) من الخطر الداهم المحدق بالصحة العامة. وكان 10 آلاف شخص على الأقل، حتى ذلك الوقت، قد فارقوا الحياة جراء "كوفيد"، بينما في سنة 1986، حين أقنع وزير الصحة نورمان فولير رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر بإرسال منشور "لا تموتوا بفعل الجهل" Don’t Die of Ignorance، كان هناك 275 فرداً تم تشخيص إصابتهم بالإيدز. وعلى الرغم من أن الحال لم يكن مثالياً، فإن الناس تلقوا على الأقل المعلومات الأساسية عن طريقة انتشار الـ"إتش أي في" وعن كيفية تلافي العدوى، وذلك من خلال معلومات صريحة وصلتهم تتعلق بـ"الممارسات الجنسية الخطرة"، وبمسألة "مشاركة الإبر" (لحقن المخدرات في الجسم وغيرها من الممارسات). في المقابل، فإن "معلومات" سنة 2020 (المتعلقة بـ"كوفيد") جاءت مثقلة بالقيود والشعارات – ولم يتخللها سوى محاولات بسيطة لشرح كيفية انتشار فيروس كورونا، وذلك في غياب الإرشادات المتعلقة بما يمكن للشخص أن يفعله غير المكوث في المنزل، إن أصيب بالفيروس. كذلك فقد علا صوت الملصقات المرافقة (لنشرات التعليمات) لتقول: "إن خرجتم من البيت، يمكنكم نشر الفيروس، وسيموت الناس"، لكن في الواقع ماذا يمكنك أن تفعل إن أصبت بالفيروس؟ الجواب: "التزم البيت." الوقاية أمر أساسي طبعاً في حالة الأمراض شديدة العدوى، وهذا ينطبق بالنسبة للإيدز، بيد أن الرسائل والنشرات (المتعلقة بكورونا) فشلت في الانتباه إلى أن هناك، بين الذين يتلقونها، أشخاصاً أصيبوا لتوّهم (بالفيروس)، أو أشخاص تعافوا منه. وهكذا، فإننا مكثنا في المنزل، وتحاشينا تلقي العناية. كثيرون منا اشتد عليهم المرض، والقليلون تلقوا العلاج. والآلاف ماتوا، وما كان ينبغي أن يموتوا.

من اللافت أن مقداراً كبيراً من التغيير في السلوكيات قد حدث سريعاً خلال الجائحتين (الإيدز وكورونا). وإزاء طول إقامة "كوفيد"، فإن التركيز على التجريم (تجريم من يخالف القيود)، والافتقار إلى الانتباه للكيفية التي يقوم بها الفيروس في الانتشار، يشكلان تحديين كبيرين وشاملين. الرسائل والمنشورات غير المتوازنة لن تحقق سوى الفشل إن ترك الأفراد (كالطلاب مثلاً) ليخمنوا بأنفسهم تدابير تقليص الأخطار، والتعرض إلى الغرامات إن خمنوا بطريقة خاطئة. لم ينفع التجريم أبداً في مواجهة مرض الإيدز، وهو يبقى بنفس المقدار فوضوياً وغير فعال في وقف انتشار كوفيد. لا يمكن تخويف الناس إلا لوقت محدود (إن أمكن ذلك في الأساس)، إذ كما حدث مع الإيدز، حين نضجت المعلومات عنه وانتشرت، فإن المجموعات تبدأ في تعديل وتكييف رسائلها لتعزيز التوعية الصحية. وفي العقد الثاني من عمر ذلك الوباء، إذ غدا الحصول على فحص الـ"أتش أي في" HIV وعلى علاجاته أسهل، قامت بعض أوساط المثليين بتبني طريقة الـ"سيروسورتينغ" serosorting، التي تعني (مثلاً) أنه لو حصل الرجلان على فحص "أتش أي في" سلبي، فإنهما سيتوقفان معاً عن استخدام الواقي الذكري (فيما بينهما) – ويعودان إلى استخدام الواقي إن مارسا الجنس مع آخرين حاملين (أو يشتبه بحملهم) الـ"أتش أي في".

هذه الاستراتيجية ليست مثالية، بيد أنها تشكل مثالاً جيداً لكيفية تقليص الأخطار، بدل إزالتها كلياً (الأمر الذي يعد مستحيلاً) – وهي استراتيجية جوهرية للتعايش مع جائحة طويلة الأمد. وفي الآونة الأخيرة قامت مديرة "مركز السيطرة على الأمراض" CDC (في الولايات المتحدة)، روشيل والينسكي، بالطلب من الناس مراجعة أفكارهم وتجربتهم (في سياق جهود التقليل من الأخطار) والتعليق على ما إذا كانوا يريدون الاستمرار في ارتداء الكمامات على ضوء الانتشار الكبير للقاحات. وقد ذكرت والينسكي في هذا الإطار: "إن كانوا تلقحوا ولا يرتدون الكمامات، فإنهم بأمان، لكن، إن لم يتلقحوا ولا يرتدون الكمامات، فهم ليسوا في أمان".

بموازاة ذلك، وفيما تخفف المملكة المتحدة من قيود الإغلاق، بدأت رسائل بوريس جونسون وتوجيهاته تتضمن إشارات غير واضحة في هذا الإطار عبر كلامه عن "الوثوق بقيام الناس باتخاذ قراراتهم الذاتية". وهذا على نحو غريب لا يمثل فقط كلاماً استعلائياً، بل لن يكون مصيره سوى الفشل نظراً إلى أن الحكومة (البريطانية) حتى هذه الساعة لم تمنح الناس معلومات واضحة عن طريقة انتشار الفيروس أو عدم انتشاره، إذ مع الرسائل المتعلقة بالصحة التي تطرح على الناس مطالب معقدة، تقوم الدول ببذل ما بوسعها للتعاون مع مواطنيها بهدف بلورة فهم مشترك للسبب الذي يستدعي سلوكيات مختلفة. وما تفيدنا به تجربة الإيدز، هو أننا مقصرون تجاه "كوفيد" في هذا الجانب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن دواعي السرور أن هناك ناحيتين تبدو فيهما ردود الفعل على "كوفيد" متأثرة بتجربة مواجهة الإيدز، إذ إن التطورات السريعة والجهود المتضافرة التي أدت إلى لقاحات فعالة (ضد كوفيد) استندت إلى تعاون دولي ممتاز كان حققه الباحثون العلميون في الإيدز بعقد التسعينيات. وثمة أمل حقيقي أيضاً في أن يتحقق حصول الدول الفقيرة على اللقاحات، لأن الناشطين اليوم يقومون بالبناء على ما لم نحققه على نحو ناجز في الماضي. فكلتا الجائحتين شهدتا مظاهر لا مساواة وانقسام دولي قبيح، حيث تحملت الدول الأفقر أعباء المرض الفظيعة ولم تتمكن من تغطية نفقات التدخلات الطبية التي انتشلت الدول الأغنى من ذروة التخبط. وفي حالة الإيدز كان هناك تفاوت شامل من ناحية العلاجات (بين الدول الفقيرة والدول الغنية). أما في حالة "كوفيد" فالأمر كله يرتبط باللقاحات. وعلى مدى السنة الماضية لم ينفك الناشطون، الداعون للمساواة في توزيع اللقاحات، عن مطالبة الدول الكبيرة وذات النفوذ بالتنازل عن اتفاقات الـ"تريبس" (الجوانب المتعلقة بالتبادل التجاري لحقوق الملكية الفكرية TRIPS)، وذلك يمثل حلاً بنيوياً للتفاوتات الاقتصادية التي تجعل الجائحات تستفحل بين أفقر شعوب عالمنا. وكانت الطاقات جامحة في هذا الإطار، فراح بريدي الإلكتروني يفيض ببيانات ورسائل للتوقيع، ومقالات محتدمة كتبها مدافعون من جميع القارات تشرح عن التفاصيل الدقيقة المعقدة التي قد تؤدي بالمفاوضات الدولية الحاذقة إلى إنقاذ حياة ملايين البشر. وقليلون منا كان قد توقعوا التغريدة الحكومية الأميركية الرسمية يوم الخامس من مايو (أيار) الماضي، التي كتبتها مندوبة التجارة الأميركية السفيرة كاثرين تاي، حيث ذكرت: "تدعونا هذه الأوقات والظروف الاستثنائية إلى اعتماد تدابير استثنائية. الولايات المتحدة الأميركية تدعم التنازل عن حقوق حماية الملكية الفكرية المرتبطة بلقاحات "كوفيد-19"، وذلك للمساعدة في إنهاء الجائحة، وسنشارك بفاعلية في مفاوضات منظمة التجارة العالمية @WTO كي نساهم في تحقيق هذا الهدف".

يشكل هذا الأمر خير مثال على ما يمكن أن تحققه الحملات الحقوقية الذكية – التي لا تعرف الكلل. فمنذ أكثر من عقدين انتبه ناشطون أذكياء في حملات مكافحة الإيدز – أمثال الناشطين المثابرين إلن تهون وجايمي لوف – إلى أن إحدى أسهل الطرق لتوصيل الأدوية إلى الفقراء قد تتمثل بكبح الشركات من زيادة أرباحها (بالتالي تخفيف التكلفة على البلدان الفقيرة) عبر تقاضيها ثمن حقوق الملكية الفكرية التي استخدمت في تطوير تلك الأدوية وإنتاجها. أما الشركات فرأت أن عدم تلقيها تعويضات على تكلفة حقوق الملكية سيمنعها من تطوير منتجات جديدة.

إلى ذلك، اعتبرت الرؤية المقابلة أنه في خضم حالة طوارئ صحية عالمية، حيث لا تتوافر الأدوية (في حالة الإيدز) أو اللقاحات (في حالة "كوفيد") لمعظم الشعوب الفقيرة، على منظمة الصحة العالمية أن تفرض على الشركات التخلي عن رسوم وأرباح حقوق الملكية، هذه الأخيرة التي تضعها تلك الشركات الكبيرة ضمن تكلفة منتجاتها الجديدة، إذ إن الـ"تريبس" (الجوانب المتعلقة بالتبادل التجاري لحقوق الملكية الفكرية) تمثل جانباً من القانون الدولي الذي ينظم تقاضي الأرباح.

في هذا الإطار، فإن ذاك التحول في الموقف الأميركي لصالح مناصرة التخلي عن الـ"تريبس" يصيب شركات إنتاج الدواء الكبرى في الصميم، لأن التخلي عن الحقوق المذكورة يمنح الشركات المحلية (الصغيرة) قدرة الحصول على المعادلات والتركيبات المطلوبة لإنتاج اللقاحات والأدوية، وتصنيعها بسرعة وبكلفة زهيدة، إذ قبل عقدين كانت شركات الأدوية المحلية في جنوب أفريقيا بدأت بتصنيع الـ"أي آر في" ARV (المضاد للفيروسات العكسية) لمعالجة ملايين المصابين بالـ"أتش أي في" (عددهم اليوم في هذا البلد 7.7 مليون شخص). وقامت شركات الأدوية (الكبرى) التي طورت عقاقير الـ"أي آر في" وتملك رخصتها، بمقاضاة الرئيس نيلسون مانديلا آنذاك، حيث اعتبرت الشركات المذكورة أن جنوب أفريقيا تقوم بانتهاك ومخالفة قانون الـ"تريبس" عبر تصنيع الـ"أي آر في" محلياً (من دون ترخيص ومن دون تسديد تكلفة حقوق الملكية، ما يعني عملياً سرقة "الوصفة"). ورد مانديلا معتبراً أن شركات الأدوية الكبرى تحقق أرباحها على حساب الفقراء، وأنه ينبغي السماح للدولة التي تضم أكبر عدد من مصابي الإيدز في العالم القيام بتصنيع الأدوية لشعبها من دون دفع تكلفة حقوق الملكية للشركات الكبرى. وفي النهاية انتصرت جنوب أفريقيا (في تلك المعركة القضائية).

من هنا، فإن خلف الشعارات السريعة مثل "أقراص (دواء) لا أرباح" Pills not profits تكمن تفاصيل معقدة تتعلق بالقانون الدولي واختلال موازين القوى، وهذه الأمور كلها تتحكم في المفاوضات الدولية وبواقع الحاجة إلى توصيل التكنولوجيا ونقلها، إضافة إلى ضرورة رفع القيود القانونية. جنوب أفريقيا والهند في هذا الإطار تبقيان صاحبتي الفضل في عملية إعادة التوازن المتخذة لصالح الدول المحتاجة إلى تأمين المنتجات الدوائية (أي تقليدها وإنتاجها من دون حقوق ملكية)، لكن لغاية 5 مايو (أيار) الماضي كانت الدول الغنية مستمرة في تأييد الشركات الكبرى عابرة الجنسيات بالاحتفاظ بحقوق الملكية. وبدل التوصل إلى حل بنيوي، ركزت تلك الدول على نموذج "كوفاكس" Covax، الذي يعد أكثر من أي شيء آخر نموذجاً خيرياً، ويمثل برنامج تعاون دولي لتسريع تطوير وإنتاج لقاحات "كوفيد-19" ونشرها في العالم على نحو متوازن. و"كوفاكس" هذا هائل ومؤثر، لكنه مثل كل البرامج والصيغ الصحية الدولية، كـ"الصندوق الدولي لمكافحة الإيدز، والسل، والملاريا"، سيبقى على الدوام أسير الجغرافيا السياسية المعقدة لقضايا الصحة العالمية.

لكن، هنا تكمن روعة وقوة تداعيات القرار الأميركي المعلن، وذلك أعادني إلى سنة 1998، عندما جرى انتخابي أول رئيسة مشاركة لـ"مؤتمر الإيدز الدولي" International Aids Conference. ففي شهر يوليو (تموز) اجتمع في جنيف تحت شعار "رأب الصدع"  10 آلاف من العلماء مختلفي الاختصاصات، ومن صناع السياسات والناشطين (كان معي ابناي التوأمان اللذان لم يبلغا آنذاك من العمر عاماً واحداً). جائحة "كوفيد" التي نحيا في ظلها اليوم بدأت في عالم شديد التقارب والتواصلية، بينما مواجهة الإيدز بدأت قبل أن يكون لنا بريد إلكتروني وهواتف محمولة ووسائط تواصل اجتماعي، نتداول عبرها الأفكار ونبث الرسائل الحقوقية ونبعثها في ثوانٍ إلى بلدان أخرى. نمت مظاهر المواجهة العالمية مع الإيدز على نحو عضوي، وانبثقت من عالم سبق ظاهرة التواصلية، كما خرجت من كنف المجموعات المهتمة بالأنشطة الترفيهية والخيرية التي راحت تنشر المعلومات والمصادر (في الثمانينيات مثلت ملصقات لمؤسسة مكافحة الإيدز في سان فرانسيسكو مصدر المعلومات الأمثل للرجال المثليين، وذلك بعد أن نشرتها مؤسسة "صندوق تيرينس هيغينس للدعم" وأعادت صياغتها على شكل لاصقات تحوي رقم هاتف محلي لطلب المساعدة). ومع التوسع والانتشار السريع للوباء، نمت ظاهرة التواصل في جميع المستويات، وغدت مؤثرة، وقد شكلت المؤتمرات الدولية لمكافحة الإيدز ركيزة محورية للتواصل والتبادل العلمي وتصميم السياسات والتحركات، وذلك قبل تمتعنا بسرعة وسهولة الوسائط الحديثة التي يتيحها عالمنا الافتراضي.

في هذا الإطار أيضاً، كانت الـ"هارت"، أو "العلاجات شديدة الفاعلية المضادة للفيروسات العكسية" (Haart)، قد قدمت للعالم في "المؤتمر الدولي لمكافحة الإيدز" سنة 1996 تحت الشعار المتفائل "عالم واحد، أمل واحد". وكان واضحاً على نحو مؤلم أن ذلك الإعلان الاستثنائي والاختراقي (للعلاجات المذكورة) لم يحمل الأمل سوى لجزء واحد من العالم. وبعد مضي عامين عاد لنا الأمل بإمكانية استخدام المؤتمر للعمل على تحقيق التغيير، بيد أن مجلة "لانسيت" The Lancet ساءلت إن كان لذلك المؤتمر "القدرة على إقناع صناع الدواء بأن أسعارهم بالغة الارتفاع"، وقد استنتج ريتشارد هورتون (كاتب المقالة في "لانسيت") في السياق: "لا نعتقد" (لن يتمكن المؤتمر من إقناع مصنعي الأدوية). وكالعادة، كان هورتون محقاً للأسف، إذ على الرغم من الجهود الهائلة، لم نتمكن من دعوة ولو ممثل واحد من قطاع إنتاج الدواء للتحدث علناً في مؤتمرنا، مع أننا قمنا بمناقشة المسألة مراراً خلال العديد من الفرص. فهم (قطاع إنتاج الدواء) فضلوا الاجتماع خلف الأبواب مع مسؤولي الأمم المتحدة، كوفي أنان وبيتر بايوت. وأذكر ترؤسي لجلسة حيوية وغنية بالتفاصيل خلال المؤتمر، حيث قام جايمي لوف وآخرون بإطلاق دعوة محمومة للنضال، وشرحوا كيف يمكن لقانون حقوق الملكية، خصوصاً مسألة التخلي عن الـ"تريبس"، أن يؤمن "العلاجات شديدة الفاعلية المضادة للفيروسات العكسية" Haart للدول الفقيرة، أسرع بكثير من أي برنامج خيري. لم تتوقف هذه الدعوات أبداً (للتخلي عن الـ"تريبس" وتجاوز قانون حقوق الملكية)، بيد أنني بقيت، في معظم الوقت، خائفة من أن تكون تلك الدعوات مجرد أوهام يتوهمها النشطاء. وقبل ثلاثة أشهر تلقيت اتصالاً من النائب في البرلمان (البريطاني) غاريث توماس، الذي كنت عملت معه سنة 2005 بوزارة شؤون التنمية الدولية DFID، حيث قمنا برفع مستوى جهود المملكة المتحدة في مكافحة الإيدز. هل على تذكيره بتلك النقاشات المعقدة التي خضناها في شأن الـ"تريبس"؟ وفي 20 مايو (أيار) الماضي قامت حكومة الظل المعارضة في بريطانيا (من حزب العمال) بتوجيه رسالة إلى وزيرة التجارة في الحكومة الراهنة، ليز تروس، تقترح عليها فيها خطة من عشر نقاط لرفع الإنتاج والتوزيع العادل في العالم للقاحات "كوفيد-19"، والبلوغ بذلك التوزيع إلى حدوده القصوى. المنظمات الناشطة ذاتها التي كانت قبل 15 عاماً ثابرت على إسماع وزيري (غاريث توماس) مسألة توصيل علاجات الـ"أتش أي في" إلى الدول الفقيرة، تعود اليوم للمطالبة بتكثيف الجهود في مكافحة الجائحة الجديدة.

يمكن رصد التشابهات والصلات المختلفة بين الإيدز و"كوفيد" بمستويات عديدة في الثقافة والمجتمع والسياسات. ومن تلك الصلات، التشابه في الموقف بين مناصري عدم استخدام الواقي الذكري ومناصري عدم استخدام الكمامة، والفرص المتشابهة لإطلاق رسائل بسيطة وواضحة (ارتدوها في الداخل!) – لكن مقابل هذا يبقى هناك تقصير من الناحية الثقافية في حالة "كوفيد"، إذ إن تعلم العيش بأمان أمام الفيروسين (الإيدز و"كوفيد") يعد أمراً مشجعاً جداً. فكما جعلنا الجنس الأمن أكثر إثارة ومخاطبة للرغبة، وكما قام مصنعو الواقي الذكري بتطوير أنواع منه مختلفة الألوان والنكهات، فإن الانفجار المدوي لتصاميم الكمامات ومبيعاتها ولأصناف كريم الأيدي لتخفيف الآثار الجانبية للتعقيم الشديد، قد جعلت من تغييرات السلوك أموراً مرغوبة. ويمكن النظر إلى هذه الأمور في مقابل جميع المعلومات المضللة وغير الدقيقة التي من شأنها التسبب للناس ببعض الجنون – سواء تمثل ذلك بالهلع من التقبيل (كم من الساعات قضيتها في التسعينيات وأنا أصف تكثف الـ"أتش أي في" في لعاب الفم؟) أو الممارسات المتطرفة المتمثلة بغسل الطعام قبل إدخاله إلى البيت بمواد التنظيف وتركه خارج الباب لثلاثة أيام. الحاجة الطاغية لمزاوجة البحث السلوكي والنفسي الاجتماعي واعتماده في ردود فعل متعددة المستويات، مثل أمراً حققناه باكراً وبسرعة خلال مقارعة الإيدز، لكن هذا لا يحدث بالنسبة لـ"كوفيد". وليس ثمة أي إدماج ذي قيمة لأشخاص مرضى بـ"كوفيد" في أي جهود مكافحة – عالمية أو محلية – للوباء، على عكس ما حصل بالنسبة للإيدز، حيث مثل إدماج المصابين مسألة غير قابلة للمساومة.

الحاجة لانتشال النشاطية العلاجية وإطلاقها، والموازنة بين التركيز على الوقاية وبين إلحاح التدخلات المبكرة واعتماد العلاجات الأفضل، هي أمور ما زالت متأخرة عما ينبغي أن تكون عليه (بالنسبة لـ"كوفيد"). التطورات على صعيد اللقاحات كانت مهمة بالطبع، وسريعة على نحو لم يكن متوقعاً – على العكس مما حدث بالنسبة للإيدز، إذ بعد 40 عاماً ما زالت اللقاحات تراوغنا وبعيدة المنال. إلا أننا بطيئون على نحو غريب في تحقيق علاجات لـ"كوفيد". وأنا أبقى مصدومة من واقع أنه بعد مضي عام من الأحاديث الصاخبة عن علاجات "كوفيد"، ليس ثمة اليوم في متناول ملايين الأشخاص منا الذين يعيشون تحت وطأة "كوفيد" المديد، أي من العلاجات المذكورة. في الثمانينيات والتسعينيات طالب مصابون بالإيدز بالوصول إلى العقاقير الاختبارية كي يحظوا بفرصة نجاة، بينما في عام 2020 فإن رئيساً بارزاً واحداً فقط تلقى حقنة من عقار اختباري مضاد لـ"كوفيد". وبدا أنه تعافى بسرعة، لكن ماذا عن بقيتنا؟ هل كان يمكنني تلافي 10 أشهر تعيسة من المشكلات الصحية والتوقف عن العمل، لو كانت العقاقير الاختبارية متوفرة؟ وماذا عن الأطباء وممرضي التوليد والممرضين العامين واختصاصيي التخدير، وجميع العاملين في مجال الصحة، الذين تلقوا تدريباً مكلفاً والمستميتين للعمل، لكن العالقين في مناخ من العدوى بفعل عملهم، ولا يُقدّم لهم شيء سوى العلاجات الطبيعية عبر الإنترنت. أما على صعيد التعاون الدولي فإن الأنظار كلها كانت (على نحو مفهوم) شاخصة نحو اللقاحات، وذلك من دون تخصيص أي تمويل أو طاقة بموازاة هذا لمسألة العلاجات – من أجل الملايين منا المصابين بـ"كوفيد" المديد، والملايين الآخرين الذين سيصابون به، هذا الأمر ينبغي أن يتبدل.

كما ينبغي لجهود مكافحة "كوفيد" ولردود الفعل عليه أن تنتبه للدور المحوري لمسألة حقوق الإنسان في جهود مكافحة الإيدز، ويجب التعلم من ذلك. النقاشات حول "جوازات سفر اللقاح"، والحاجة إلى تلقيح كوادر معينة من الموظفين، ومقاربة قضية التجريم، كلها أمور يمكننا فهمها أكثر عبر مقاربتها من خلال المناقشات المعمقة بأوساط خبراء الإيدز حول كيفية التوصل إلى إقرار هذا الحق، وموازنة "الحقوق والمسؤوليات"، وحول كيفية تحفيز الناس لتحقيق تغيير فعال في سلوكياتهم بدل اقتصار الأمر على معاقبة مخترقي القيود والتدابير. الأمر عينه ينطبق في سياق الجهود لمعالجة ظاهرة الوصمة (التي تحل بمصابي الوباء)، والمنطق المختلف جداً لمظاهر التمييز التي واجهها الكثيرون منا. وعلينا تعلم استخدام اللغة السليمة – منظمة الصحة العالمية تطلب في هذا الإطار عدم تسمية الأمراض أبداً بأسماء أمكنة وبلدان وشعوب. فنحن توقفنا بسرعة عن تسمية الإيدز بـ"غريد" Grid (العبارة التي تعني "نقص المناعة المرتبطة بالمثليين" Gay Related Immune Deficiency)، وعلينا أن نتعلم التحدث عن الـB 1.617.2 (المتحور ديلتا من "سارس كوف 2"، الفيروس الذي يتسبب بـ"كوفيد-19"، وهو ظهر لأول مرة في الهند في أواخر سنة 2020) – إلا إذا أردنا أن نرى تصاعداً في جرائم الكراهية بأوساط الجماعات الهندية تماماً كما شهدنا ذلك في أوساط الجماعات الصينية إثر قيام قادة بالتحدث بغباء عن "فيروس ووهان" وعما هو أسوأ من ذلك.

لقد صدمت خلال الأيام الماضية بقراءة خبر وفاة زميل رائع توفي فجأة بفعل "كوفيد"، وقد فضلت عائلته الإشارة إلى تدهور وضعه نتيجة حالة صحية مختلفة عن "كوفيد". اجتمع كثيرون منا (مع احترام التباعد وتدفق حركة الأشخاص وعدم الانحصار في مكان واحد مغلق) لوداع زميلنا، متبعين طريقة للقاء الوداعي كنا طورناها على مدى العقد الماضي لوداع أصدقاء فقدوا حياتهم بفعل الإيدز. ومع استمرار أرقام الإصابة في الارتفاع من دون هوادة، علينا التعلم من الماضي، وينبغي إيجاد طرق ذكية لتحمل الخسائر والفواجع المتعددة التي تتكبدها الجماعات والبلدان ونحن نواجه "كوفيد" وآثاره المتباينة. الجماعات التي واجهت (وتواجه) الإيدز اعتادت على هذا، إذ قبل الـ"هارت" Haart (العلاجات شديدة الفاعلية المضادة للفيروسات العكسية) كان لدينا الـ"كويلت" Quilt (أو "اللحاف"، مشروع لتذكر وتكريم ضحايا الإيدز، وهو عمل يزن 54 طناً ويمتد على مساحة واسعة، ويعد أكبر عمل حرفي شعبي في العالم) الذي راح يتوسع ويمتد مع مرور الوقت لنتذكر ولا ننسى الخسارات المستمرة. وعلى مدى الأعوام قمنا بتبني إيقاعات وطقوس ولقاءات للأصدقاء تخلق أجواءً احتفالية. ربما لم يكن الأمر مثالياً كونه ردة فعل على جائحة هي الإيدز، بيد أن الأوساط التي أصابها هذا الوباء تمثل الجيل الأول منذ الحربين العالميتين الذي واجه فقداناً جماعياً بهذا الحجم. فنحن لدينا حكايات نرويها، وأفكار نشاركها.

بالنسبة لي وعلى صعيد شخصي جداً أرى أن هناك أهمية خاصة لنشاطية (حركة مطلبية) ذكية تكون أكثر تركيزاً على فكرة العلاج (والعلاجات – أي الأدوية التي تحمي ومن الوباء وتعالجه على المدى الطويل). وأنا كنت قد انخرطت تماماً في نشاطية المطالبة بعلاجات للإيدز في الثمانينيات والتسعينيات، وقمت كناشطة، بالمدافعة عن أصدقائي – خاصة النساء – الذين يعيشون مع فيروس "أتش أي في". وفي إحدى المراحل أذكر السؤال الذي راح يطرحه الناس، وهو "كيف سيؤثر الـ"أتش أي في" على الأشخاص في فترة 20 سنة؟ وذاك أمر كان مجهولاً حينها بفعل الأمر الواقع، تماماً كما هو الحال بالنسبة لتاريخ "كوفيد" الطبيعي ومراحله المستمرة اليوم. من يعلم كيف ستبدو عليه سنوات عشر إضافية من "كوفيد" المديد؟ في الوقت الحالي أشعر بالسرور إزاء "وثبة التلقيح" الهائلة التي تحققت، وأنا ما زلت أعاني من أعراض المرض. وفي غياب أي فعل بحثي مرتبط باللحظة الراهنة، وأي نشاطية واضحة ومطالبة مركزة من قبل الناشطين الذين واجهوا تجارب مماثلة، فإننا بحاجة للعثور على طرق ذكية تساعدنا كي نحيا مع تعقيدات مزعجة لمرض أو وباء غير معروف سيأتي في المستقبل. ومع المرض أو الوباء الجديد نحن لا نعلم شيئاً، لحين يعلن عنه، لكن مع هذه الجائحة لدينا الكثير كي نتعلمه مما حصل قبل أربعة عقود. الأوان لم يفت بعد للتعلم من ذلك التاريخ، ولتلافي تكرار جوانبه الأسوء.

روبين غورنا هي رئيسة دائرة "التعددية والإدماج" في جامعة برايتون كوليدج، وركن من أركان "هيئة الخبراء في حقوق الإنسان والجنس" في "لجنة المراجعة التقنية" لـ"صندوق الدعم الدولي من أجل مكافحة الإيدز، والسل، والملاريا". وقد عينت منذ سبتمبر (أيلول) 2020 عضواً في فريق عمل مواجهة "كوفيد المديد" ضمن هيئة الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات