Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ثورات صنع التاريخ وقوى "تأجيل التاريخ"

من الظلم للشعوب تجاهل ارادتها واتهام انتفاضاتها بأنها تدار من قوى اقليمية ودولية

شباب الجزائر لا يريدون إعادة إنتاج النظام لنفسه (أ.ف.ب)

اللعبة واحدة، وإن تعدد اللاعبون وتنوّعت الوسائل:

الطريق مفتوح لأنواع الصراع على السلطة ومسدود أمام بناء الدولة. كل حراك شعبي يصطدم بقوى وظروف وحسابات تمنعه من الذهاب الى النهاية في التغيير. وكل "ستاتيكو" يسقط تحت ضغط الشارع والزمن وانتهاء الوظيفة والصلاحية يعاد انتاجه بوجوه جديدة وشعارات براقة أو تصبح الفوضى هي البديل. هذا ما رأيناه في الموجة الأولى من الانتفاضات التي بدأت في تونس وشملت حلقاتها مصر وليبيا واليمن وسوريا. وهذا ما يتكرر في الموجة الثانية التي لا تزال هادرة في السودان والجزائر. ومن الظلم للشعوب تجاهل ارادتها واتهام انتفاضاتها بأنها تدار بـ"الريموت كونترول" من قوى اقليمية ودولية ضمن اللجوء التقليدي الى "نظرية المؤامرة" لتفسير كل ما يحدث. لكن من خداع النفس التقليل من أدوار الأطراف الداخلية والخارجية التي تعمل لتوظيف الإنتفاضات، سواء بالدعم أو بالعداء، في خدمة أهداف ومصالح لا علاقة لها بالأهداف والمصالح الشعبية والوطنية.

وليس مجرد استنتساخ تعابير كان الدافع الى تسمية الانتفاضات ثورات و"الربيع العربي" على غرار ثورات "ربيع الشعوب" في أوروبا. فالمصير متشابه: ثورات "ربيع الشعوب"، التي جرت في بلدان أوروبية عدة في القرن التاسع عشر واجهت حتى بعد نجاح بعضها ولاسيما في باريس تحالف قوى الأنظمة القديمة ضدّها بحيث افشلتها وأعادت انتاج نفسها بشكل آخر.

ولا شيء يكشف عمق ما حدث أكثر من معادلة مستشار النمسا مترنيخ الذي كان وراء نظام القائمقاميتين، في جبل لبنان وهي: "الحلف المقدس كان لمصلحة أوروبا لا لمصلحة المتحالفين، إذ سقط الذين وقعوه، وبقيت الممالك والامارات والمستعمرات" وثورات "الربيع العربي" في العقد الثاني من القرت الحادي والعشرين واجهت عنف الأنظمة وتقدم قوى التطرف باسم الدين الى المواجهة والتحول الى حروب اهلية أو استعادة العسكر للسلطة.

تونس التي كانت شرارة الثورات جاءت تجربتها واعدة: الجيش بقي على الحياد، فهرب الرئيس وانهار النظام، ثم تسلم الحكم تحالف بين حركة النهضة الإسلامية وقوى علمانية. وهي بدت استثناء من القاعدة. لكن الاستثناء في الشكل لا في الاساس إذ تكاثرت الخلافات السياسية والإنشقاقات الحزبية، وبقيت الثورة عاجزة عن التنمية الاقتصادية ومحاربة البطالة وبناء دولة فعلية.

في مصر تنحّى الرئيس مبارك وسلم السلطة الى الجيش. ثم نجح الأخوان المسلمون في "السطو" على الثورة والوصول الى رئاسة الدولة قبل أن يستعيد الجيش السلطة في ثورة اكملت الأولى.

في ليبيا سقط القذافي تحت ضربات الثوار والحلف الأطلسي، ثم تحول البلد ساحة حرب أهلية، تدعم كل طرف فيها قوى إقليمية ودولية، حيث لا نظام ولا دولة، ولم يكن هناك نظام ودولة.

في اليمن انقلب الحوثيون بمساعدة ايران على التسوية ومخرجات الحوار الوطني، وتدخل التحالف العربي بقيادة السعودية للدفاع عن الشرعية. ولا أحد يعرف متى تنتهي الحرب الأهلية وكيف.

في سوريا واجه النظام الحراك السلمي بالعنف ثم كانت "عسكرة" الثورة قبل أن يسود شعار "الأسلمة" و "التطييف" وتتقدم قوى التطرف على قوى الاعتدال إذ جاء متطرفون من نحو مئة بلد، وتدخلت ايران وتركيا وروسيا وأميركا مباشرة في الحرب، كما لعبت قوى إقليمية اخرى أدوارًا غير مباشرة، والحرب مستمرة بعد دخول عامها الثامن.

في السودان سقط الرئيس البشير بقوة الحراك الشعبي والجيش، ولولا الحراك الشعبي لما تحرك الجيش. لكن النظام لم يسقط بعد حيث "دولة الحزب" متجذرة على مدى ثلاثين عامًا. قوى الحرية والتغيير مصرة على تحقيق أهداف الثورة، والمجلس العسكري يريد الاحتفاظ بالسلطة الفعلية وتسليمه المدنيين السلطة الشكلية. وأخطر ما يحدث هو أن تكرر الأحداث تأكيد قول جيمس روبرتسون آخر حاكم إداري بريطاني للسودان وهو: "السودان بلد صعب لا يحكمه الا نبي أو غبي".

وفي الجزائر سقط رأس النظام وبقيت "الدولة العميقة". والذهاب الى انتخابات رئاسية من دون مرحلة انتقالية يتم خلالها ترتيب دستور جديد لنظام جديد وجمهورية جديدة هو اعادة انتاج النظام لنفسه، حيث السلطة مستقرة في يد الجيش.

وليس في هذا المسار ألغاز، لا ثوار يستطيعون تحقيق أهداف الثورة، ولو استوطنوا الشارع. ولا نظام يقبل التغيير الجدي، ولو سقط رأسه. فكل نظام يريد حاكمه السلطة مدى الحياة، ويتصرف على أساس أن وصوله الى الحكم هو "نهاية التاريخ". وكل قوة خارجية تتدخل ضد الحراك الشعبي أو معه تعمد لمنع الثوار من صنع التاريخ وإقامة دولة وطنية مدنية ديمقراطية.

فاللعبة إسمها "تأجيل التاريخ". والحيلة هي تجميع القطع المتناثرة من "الستاتيكو" لاعادة انتاجه بشكل يبدو جديدًا.

وهذا ضد منطق الحياة. إذ حتى فرنسيس فوكوياما الذي اصدر كتاب "نهاية التاريخ" كتب منذ مدة مقالًا تحت عنوان "مستقبل التاريخ" وقال "إن التاريخ لا ينتهي لأن العلم الطبيعي المعاصر لا ينتهي".

وفي قراءته لما حدث لـ"ربيع الشعوب" قال ماركس "إن الناس يصنعون تاريخهم، ولكن ليس على هواهم أو في ظروف يختارونها بل في ظروف تواجههم مباشرة من الماضي."

المزيد من آراء