Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مقاربة لتفسير السلوك السياسي بطريقة أكثر واقعية

كثير من الأطراف الدولية والإقليمية لا يمتلك شجاعة الاعتراف علناً بأنه ليس لديه فكر ولا أدوات في مواجهة أزمات الشرق الأوسط

ينتقد الكثير تصدر بعض قضايا الشرق الأوسط الرأي العام وخفوت أصواتها فجأة  (أ ف ب)

الملاحظ في كثير من اللقاءات الفكرية والأكاديمية والندوات السياسية، أنه كثيراً ما يدور نقاش حول تراجع اهتمام دولة عظمى أو قوى دولية أو إقليمية بقضايا ما لصالح أخرى، بل أحياناً يثار جدل حول بعض هذه الأبعاد؛ على سبيل المثال مدى أولوية الشرق الأوسط وقضاياه بالنسبة للولايات المتحدة، وأحياناً يكتسب الأمر مسحة انفعالية وكأن تراجع الاهتمام يمثل إهانة لمن حدث تراجع في العناية بهم. وأذكر نقاشاً كثيراً ما يدور حول الاهتمام بالقضية الفلسطينية في العالم، والمنطقة العربية بشكل خاص، وكذلك حول مدى اهتمام واشنطن بالشرق الأوسط بشكل عام، وبأدوار الفاعلين الإقليميين وبالتبعية بقضايا المنطقة، بينها أيضاً تراجع الاهتمام الدولي والعربي بالشأن اللبناني.

وفي الحقيقة، إن المقاربة التي أود طرحها هنا هي أن الخبراء والساسة قد يندفعون في تعميمات وافتراضات تجاه هذه المسألة، بينما الواقع والدوافع قد تكون أبسط بكثير في الممارسة العملية، وهذا ما يسبب المفأجاة أحياناً، دون أساس حقيقي. ولعلي أبدأ بالقضية الفلسطينية، فمنذ شهور قليلة كنا نتحدث بلغة آسفة شديدة حول تراجع الاهتمام بهذه المسألة، وبمعاناة شعبها، ثم تفجرت الأمور وعادت إلى بؤرة الأحداث، ليبدأ الحديث مجدداً. كيف أن من كان يتصور بها التراجع عليه أن يراجع نفسه الآن؟ وفي الحقيقة أن كلا الرأيين يتضمن كثيراً من المبالغة، ومن يراجع تاريخ هذه القضية في العقود الأخيرة سيكتشف أن الاهتمام بهذه القضية كان يشهد كثيراً من الصعود والهبوط، وأن الفارق منذ الربيع العربى يكمن في تعدد بؤر النزاع والأزمات، وأن هناك الكثير الذي سحب البساط من هذه القضية، وإن كان هذا ليس السبب الوحيد، وسأعود لهذا فيما بعد.

ولعلي أبدأ من إطار عام، وهو أننا نتناسى أحياناً أن كل من يتعاطون بهذا الأمر هم بشر، سواء كانوا صانعي قرار أو كتاباً وباحثين أم متابعين أو مواطنين يعطون الشأن العام وقضايا السياسة الخارجية أو الداخلية اهتماماً بقدر تأثرهم إذا انتبهوا لهذا، يسري عليهم ما نعرفه جميعاً في حياتنا بدرجات مختلفة، فعندما يسير شخص في طريقه لشراء سلعة ما، أو لزيارة قريب أو صديق وتصدمه سيارة أو تصيبه آلام مرضية، فليس أمامه سوى تغيير مساره لمواجهة الأزمة الجديدة الأكثر إلحاحاً.

ولأن أبرز ما نواجهه في عالمنا العربى المعاصر هو تعدد بؤر الأزمات وشكوى الجميع من ضعف الاهتمام بالشعوب التي تواجه هذه المحن، كانت هناك شكوى فلسطينية منذ بدء الربيع العربي، ولا تزال مستمرة بشكل أو آخر. فالكثيرون قلقون من عودة تراجع الاهتمام قريباً. واليوم يشكو ملايين السوريين من أن العالم نسيهم، لا هم غيروا نظام الحكم، ولا أعادوا اعتراف وقبول العالم بالنظام القائم. لا حدثت تسوية، ولا يريد خصوم النظام احتفال النظام ومؤيديه بالنصر، ولا تزال هناك أراضٍ شاسعة محتلة من أطراف عديدة، بالتالي مفهوم أن يخرج كاتب وشخصية سورية معروفة لتسجل أن قمة "بوتين - بايدن" لم يخرج عنها شيء ملموس بشأن بلاده، ومن وجهة نظر كثير من الشعب السوري، الذين يتعاطفون مع القضية الفلسطينية، أن هذه القضية سيتواصل الاهتمام بها، بينما أزمة سوريا وشعبها لا يريد أحد أن يتحدث عنها. الشيء نفسه يمكن أن نتوقعه في اليمن الذي يبدو في طور ركود سياسي حقيقي، ومن يتابع المحطات التلفزيونية المختلفة سيفاجأ بعوالم غير متطابقة إلى حد التناقض أحياناً.

أعرف صديقاً يمنياً يسألني كلما كتبت عن أزمة من أزمات المنطقة: أين اليمن؟ وأعرف اتهامات يمنية لها وزنها ضد مدى الاهتمام العربى وتفاوته بشدة زمانياً ومكانياً بأزمتهم ومعاناتهم وتشتت ملايين منهم، ولديهم انطباعات مماثلة تجاه الاهتمام الدولي والأممي بهم، وتركيزه على الجوانب الإنسانية دون نجاح يذكر للجهود السياسية التي بذلت وتطرح من وقت لآخر لتحريك الموقف دون جدوى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذه الشكوى اللبنانية التي سمعتها من كثير من أصدقائى اللبنانيين، في الحقيقة تتجاهل ثقل وعدد الأزمات الأخرى ومدى إلحاحها على المنظومة الدولية والإقليمية كلها، وتشتت كل المعنيين سابقي الذكر من صانعي قرار وإعلام ومواطنين في متابعة كل هذا الحراك الكبير، وبطبيعة الحال، فإنه حتى في ظل وجود مؤسسات قوية سيصطدم الأمر في النهاية بصانع قرار واحد، أو مؤسسة صنع قرار واحدة.

ويضاف إلى كل ذلك في المثال السابق في شأن من صدمته سيارة فحول طريقه من شأن ما إلى معالجة أزمة أكثر الحاحاً، وهي عندما لا يعرف المرء ماذا يفعل للتعامل مع هذه المشكلة؟ وفي تقديرى الشخصي إن ما نحن بصدده الآن من الأطراف الدولية والإقليمية أنها لا تعرف طريقاً محدداً وناجحاً لما يجب عمله لحل أو التعامل مع هذه الأزمات.

على سبيل المثال في الأزمة اللبنانية، هناك أطراف إقليمية وأخرى دولية، وبينها طرف رئيس مسيطر، وهو إيران، ولكنه أيضاً مكبل من خلال حليفه "حزب الله" بتحالف معقد مع التيار الوطني الحر التابع لرئيس الجمهورية الحالي ميشال عون، ويقوده جبران باسيل. ويجيد الطرف الأخير تعقيد المشهد ويدرك حاجة "حزب الله" له، مثلما يحتاج إليه الأخير بالضبط، وحيث تتداخل قوة وضعف إيران في مشهد توازنات إقليمية معقدة تبدو الأطراف الأخرى التي تحاول إخراج النظام من ورطته مشلولة اليد، أو لا تملك أدوات كافية لإخراج تسوية.

وفي سوريا من يعوق إعلان نصر روسيا وحلفائها من القوى الغربية ليست لديه أدوات كافية، ولا رغبة حقيقية لاستئناف مواجهة شاملة جديدة لا يريدها أحد، وقد تكون مكلفة للغاية مادياً وبشرياً، واللاعب الرئيس في هذه الجبهة المعارضة للنظام السوري؛ أي تركيا، يعرف حدود قدراته ويراهن على أمر آخر؛ توسع إقليمي ملاصق لحدوده، والاحتفاظ بورقة الميليشيات المتطرفة في يده ليستخدمها في التوازنات والصراع الإقليمي للحصول على مزايا ومكاسب في ملفات أخرى كـ"ليبيا" اليوم، وربما ساحات أخرى غداً.

وفي ظل هذا تقف الأطراف الراغبة في عمل تسوية ومخرج لامتداد الأزمة السورية عاجزة لأنها لا تملك أدوات كافية للتعامل مع هذه الأزمة، بالضبط مثل الذي صدمته السيارة وتمكن من إدارتها دون إصلاحها ولا ضمان أن تتمكن من السير بعد عدة أيام، لأنه لا يملك المال ويذهب للتبضع وشراء بعض الخبز، أو لتسوية أمر يمكنه القيام به مؤجلاً ما لا يستطيع القيام به، هنا أقول إنه إذا كان ليس كل البشر يعترفون بأنهم لا يقوون على مواجهة أزمة ما في لحظة ما، إلا أن الأصعب أنه لا ساسة ولا دول تعترف بذلك علناً.

وأختتم بأن دروس الحرب الإسرائيلية الأخيرة تؤكد هذا، صحيح أن العالم كله أرهقه استمرار القضية الفلسطينية دون حل، وتعدد بؤر الأزمات والتحديات، ولكن أيضاً الكل يدرك أنه لا يملك بعد أدوات فرض وإنهاء هذه الأزمة. ربما يتوهم اليمين الإسرائيلي المتطرف ذلك إلى أن يكتشف أن الأمر أعقد بكثير من هذا. وقياداتهم أيضاً لديهم من العناد والصلف ما يجعلهم لا يرون مدى تعقد الأمر، أو لا يجسرون على إعلان هذا، خشية تأثر مشروعهم، ومثلهم في ذلك مثل عشرات الساسة النقيض، الذين يدعمون الحقوق الفلسطينية، ولكنهم لا يعرفون على الأقل حتى الآن ماذا يفعلون؟ ولكنهم لا يستطيعون الإفصاح عن هذا، وقليل منهم من يملك الحكمة والخيال للتفكير في ترتيبات أو حلول مرحلية تعد لما هو أبعد من هذا.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل