Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لعبة الإسلام السياسي في ليبيا!

كان العقيد القذافي يميل مع ميل الرياح ويتقنع بقناع المرحلة

سعى القذافي كثيرا ليكون إماماً للمسلمين (رويترز)

من التكفير إلى التوريث!

كنتُ في القاهرة مطلعَ التسعينياتِ من القرن الماضي، في سهرةٍ مع ثلةٍ من الأصدقاء الكُتابِ والصحافيين من المصريين والليبيين، وفي بدء السهرة اتصلتِ الجريدة الاقتصادية التي يعمل فيها الصديق الشاعر (محمد صالح) طالبين منه الحضورَ العاجل. ذهب مضطرباً وقلقاً من أن يخسر السهرة ونخسر شِعره وخفة روحه، لكنه لم يغبْ كثيراً، وفور عودته عاش نوبة من الضحك، معلقاً وموجهاً الكلام إليّ، بأننا في ليبيا نعيش مسرحية كوميدية تقتل من الضحك. وبيّن لنا أنه استُدعيَ لأجل حضور المؤتمر الصحافي الذي عقده (موسى كوسا) رئيس المخابرات الليبية حينها وتغطيته، ثم لخص المؤتمر، ما أحضر له صحافيون مصريون وعرب وأجانب ومن كل الوسائل الإعلامية، ولم يتجاوز نصف الساعة، بأن السيد (كوسا) قال مهتاجاً: ليبيا في خطر، وبالتالي المنطقة، وعلى الخصوص جنوب أوروبا، فقد هرب سجناء من الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، فيما استولى زملاؤهم على سجن بوسليم في العاصمة طرابلس، ما استدعى غلق الحدود، وإعلان حالة الطوارئ في البلاد!

وهذه الجماعة المقاتلة وغيرها من التيار الإسلامي كالإخوان أخرجوا من السجن، بعدها بسنوات قليلة، في حفل تلفزيوني على الهواء مباشرة، وتحت إشراف شخصي لوريث العرش الثوري! سيف الإسلام القذافي. خرجوا من السجن مُعلنين التوبة والمصالحة مع نظام القذافي، من كُفرَ من قِبلهم، وأما المسكوت عنه في هذا الإعلان فهو مُباركة مشروع التوريث، أي أضغاث أحلام معمر القذافي: (الجماهيرية القذافية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى!)، وعليه مُنحوا تسهيلات مالية، فقاموا بالعمل في مجالات تجارية متعددة بخاصة في مجال الإلكترونات والاتصالات، وحتى في المجال التعليمي، حيث أنشأوا مدارس وكليات... وهلمجرا، وترتب على ذلك أنهم اتخذوا موقفاً رافضاً في الفترة الأولى من ثورة فبراير(شباط) 2011 ضد نظام القذافي.

القذافي مُنشئ الجماعة المقاتلة!

جاهد الملازم أول معمر القذافي، عقب انقلابه العسكري في سبتمبر (أيلول) 1969، ليكون إماماً للمسلمين، فأمّ صلاة الأعياد في الساحات، وجعل من القرآن شريعة للمجتمع، وأنشأ جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، وصكّ ضريبة للجهاد تُخصم من دخل الليبيين حتى الساعة!، ثم ركّز على مهاجمة الاتحاد السوفيتي الدولة الكبرى الملحدة، وادعى أنه المفكر الثائر صاحب النظرية العالمية الثالثة، التي تجزم بأن الدولة تنشأ ببعدَين هما الدين والقومية.

وقد اعتقد أنه بهذا، يكون الوريث الشرعي للمملكة السنوسية التي انقلب عليها! ويجذب إليه (الإخوان) ومن ينسج على منوالهم، وقد ضمّ نفراً منهم إلى الجمعية التي أنشأها لأجل الدعوة...، وعلى الرغم من ذلك، فإنه في أول خطاب له صرّح بأن (من تحزّب خانَ)، حيث كقومي ناصري، وكوريث مخلص للفاشية الإيطالية! لم يقبل بأي تحزّب كان، لكن هذا لم يمنع أنه في المهد، مهّد لوضع (الإخوان) في الشبكة المشتركة.

وإن كان العقيد القذافي يميل مع ميل الرياح ويتقنع بقناع المرحلة، فإن هذا لم يمنع (أمين القومية العربية) أن يدعم، في ثمانينيات القرن الماضي، الثورة الإسلامية الإيرانية في حربها ضد العراق. وعند اللحظة ذاتها هذه، سهّل السبل لمشاركة الولايات المتحدة، في حربها الدينية ضد إمبراطورية الإلحاد السوفيتية في أفغانستان، وعليه أتاح السفر والمشاركة في تلك الحرب المقدسة لصغار الشباب الليبي، الذين عاشوا في ظله مسغبة القمع وضيق ذات اليد، وإذلال التجنيد العسكري في المدارس.

سيناريو التسويق فبدء النهاية!

هذه العملية التاريخية، أيّ الحرب الدينية لدكّ الإلحاد السوفييتي، مكّنت تيار الإسلام السياسي من الانطلاق، فبلور الخطاب الحربي/ الجهادي في صيغة ساذجة تُطلق الأحكام المطلقة، والمقولات القطعية الأولية والجازمة، تحت شعار (الإسلام هو الحل).

وفي هذه اللحظة الاستثنائية، أنشئت في أفغانستان الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وهي جماعة صغيرة اتخذت من الجبل الأخضر، وبعضاً من شوارع مدينتَي بنغازي ودرنة، ساحةً لقتال الطاغوت القذافي. ودرنة المدينة الليبية الصغيرة، باتت أكثرَ مدينة في العالم، تزوّد التيار الإسلامي المسلح في حربه العراقية بالمقاتلين، ضد المنشأ الأصل الحليف السابق، الولايات المتحدة، وذلك بحسب ما جاء في مجلة نيوزويك، مع أخذ تعداد السكان في الاعتبار.

ولقد عُقد ذاك المؤتمر الصحافي، الذي أشرت إليه في القاهرة، ليسوّق القذافي نفسه كنظام مهدّد من إرهاب هذه الجماعة، وقد تكون مصالحة النظام، بُعيدَ هذا المؤتمر مع الجماعة ومجمل التيار الإسلامي، كما مكافأة لمهمة غير مستهدفة، وكذلك لرفض (الإخوان) المشاركة في مؤتمر المعارضة الليبية، الذي عقد في لندن العام 2005، والمطالِب بإسقاط النظام، وللمرة الأولى تُنقل فعالياته عبر الأقمار الصناعية، ويشاهد الليبيون أن لديهم معارضة، وإن كان محل إقامتها في الخارج.

إن سيناريو هذه اللعبة في ليبيا، يُوضح أن مسألة التيار الإسلامي السياسي مسألةٌ يشوبها الغموض، وأن خطاب هذا التيار البسيط وحتى الساذج لا يقدّم أيّما قدرٍ من التوضيح، بل يدلّل على قطيعة ومفارقة بين الأطروحة شبه الفكرية الدينية وبين العملية السياسية. وكأن اللبوس الدينيّ كما تكتيك في العمق، وأن لا إستراتيجية سياسية واضحة لهذا التيار، إلى درجة أن مسألة الاستيلاء على السلطة ليست مسألة تخصّ الهدف الأسمى له، بقدر ما تخص الأفراد الطموحين فيه. وهذا ما يجعل من جماعة، كالإخوان، جماعاتٍ متنوعةً بل ومتضاربةَ الأهداف، لها مهمة تؤديها ثم يحين انتهاؤها متى ما أُنجزت هذه المهمة. واليوم في ليبيا يبدو أن هناك إجماعاً حول انتهاء هكذا مهمة، ولذا لم تستطع الأمم المتحدة بإرادة الدول الكبرى، أن تعقد اجتماعاً في مجلس أمنها، لإصدار بيان يطالب بوقف إطلاق النار في ليبيا، ما هو عادة بيانٌ شكليٌ ليس بالضرورة أن يُطبّق، كما أعتيد من تاريخ بيانات جمعية الأمم المتحدة ومجلس أمنها، ومِن ذا ومِن غيره، يبدو أنه يتمّ في ليبيا وضع اللمسات الأخيرةِ لإنهاء هذا المشروع المسمّى، الإسلام السياسيّ.

المزيد من آراء