رحل في دمشق المخرج التلفزيوني محمد فردوس أتاسي (1942-2021) عن عمر قارب الـ 80عاماً، بعد معاناته من وباء كورونا، وقد ساءت حالته الصحية حتى أغمض عينيه منهياً سيرة طويلة من العمل في مجال الدراما التلفزيونية السورية منذ مطلع سبعينيات القرن الفائت.
وكان ابن مدينة حمص قد عاد إلى وطنه بعد حصوله على ماجستير في الإخراج من أكاديمية الفنون في براغ، ليقدم بداية مسرحية لصالح المسرح القومي في دمشق عام 1971 بعنوان "الغرباء لا يشربون القهوة" عن نص الكاتب المصري الراحل محمود دياب، وفيها ناقش أتاسي انعكاسات هزيمة حزيران على الإنسان العربي، لينطلق بعدها بتقديم العديد من الأعمال والسهرات التلفزيونية التي أسست لذهنية إخراجية مختلفة آنذاك. وكان من أعماله "البيادر" 1976 و"الدروب الضيقة" 1980. لكن العمل الذي لمع فيه هذا الفنان كان بعنوان "الطبيبة" 1988 من بطولة أسعد فضة وجيانا عيد، وفيه نطل على قصة طبيب يرغم ابنته الوحيدة على دخول معترك الطب، في إشارة لأهمية عمل المرأة وقدرتها على النجاح في المجتمعات الشرقية.
"نهاية اللعبة" 1990 و"العروس" 1992 كانا أيضاً من المسلسلات التي جذبت شرائح أوسع من الجمهور، وكانا بمثابة دراما سورية صرفة ما قبل فورة الفضائيات العربية. وكذلك مسلسله الباقي في الذاكرة حتى الآن بعنوان "المحكوم" 1995 من بطولة جمال سليمان، وفيه أطل الأتاسي على عالم السجون السورية عبر قصة شاب يتمكن من التغلب على ظروف السجن ونيل شهادة في الحقوق، ليخرج بعدها من وراء القضبان رجل قانون ناجح. يحسب للمخرج السوري الراحل قدرته على بناء مشهدية معتدلة ومدروسة، وبعيدة من الاستعراض المجاني، وفقاً لما يخدم رواية القصة التلفزيونية بالصور، وبعيداً من أوهام كانت قد رافقت العديد من أبناء جيله بإدخال السينما إلى التلفزيون، إذ كان الأتاسي مؤمناً بأن لكل فن شروطه الفنية الخاصة به، والتي لا يجوز أن تختلط لا في الشاشة الصغيرة ولا في الكبيرة.
مهرجانات وجوائز
وفي أرشيف هذا المخرج الكبير العديد من الأعمال التي نالت العديد من الجوائز في مهرجانات عربية ودولية كان أهمها مهرجان القاهرة للإعلام، وقد تابع وقوفه خلف الكاميرا كربّان ماهر لأعمال شرحت طبيعة المجتمع السوري في السبعينيات والثمانينيات وصولاً إلى التسعينيات مع أعمال من قبيل "مذكرات عائلة" 1998 و"ثلوج الصيف" 1999. لكن المحطة الأبرز في مسرته الفنية كان مع مسلسل "الملاك الثائر" 2006 عن حياة الأديب اللبناني جبران خليل جبران، وكتب السيناريو له الأديب السوري نهاد سيريس، وفيه تناول الأتاسي قصة صاحب "الأجنحة المتكسرة" وهجرته من جبل بشّري في شمال لبنان إلى بوسطن نهاية القرن الـ 19، وصعوده كأديب عالمي في الولايات المتحدة الأميركية. والمسلسل كان من بطولة سوزان نجم الدين وجهاد سعد ومصطفى الخاني وفارس الحلو وغسان مسعود، وجاء وقتها على خلفية أزمة سياسية بين سورية ولبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وكان باكورة الأعمال العربية المشتركة وهو من إنتاج المهندس والمنتج السوري الشهير نادر أتاسي (1919- 2016).
قدم المخرج الأتاسي سيرة حياة الرحالة العربي "ياقوت الحموي" 1998 بالاسم نفسه، وهو من بطولة جمال سليمان وتأليف السيناريست أنور تامر، وفيه تناول سيرة المؤرخ والجغرافي العربي الكبير، ودوره في إغناء الحياة الثقافية الإسلامية والعربية، ولاسيما جهوده إلى جانب الخليفة العباسي الناصر لدين الله في فترة عصيبة من حياة العرب والمسلمين، الذين وجدوا أنفسهم وقتذاك في صراع مع الفرنجة والمغول. كان الأتاسي من المخرجين الذين كان لديهم هاجس تنويري في أعمالهم، مبتعداً عن تلك الأعمال التي تعتبر التلفزيون مكاناً للترفيه والتسلية فقط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"وطن حاف" عام 2013 كان آخر أعمال هذا المخرج، وفيه حاول الأتاسي رفع سقف الرقابة عبر حلقات متصلة منفصلة كتبها السيناريست كميل نصراوي، وعالجت واقع الحرب السورية من منظور إنساني. لا يخلو المسلسل من المسحة الكوميدية الساخرة، لكنه بعد عرضه في موسم إنتاجه تم التحفظ عليه من الرقابة، ومنعه من العرض، وذلك بسبب الإسقاطات السياسية التي لعبها الأتاسي وكاتب العمل ببراعة، مبتعداً عن أن يكون طرفاً في الصراع الدائر، مما جعل الرجل يعتكف من ثم، ممهداً لعمل تاريخي كبير عن جدِّه الرئيس هاشم الأتاسي (1873-1960) والملقب بـ "أبو الجمهورية". وهو ثاني رئيس لسوريا لولايتين، وكان شاهد عصر لمراحل الاحتلال العثماني والفرنسي، والانقلابات العسكرية ما بعدها، ولعب دوراً كبيرا ً في نضال الشعب السوري لنيل الاستقلال في نيسان من عام 1946.
نعت نقابة الفنانين ووزارة الإعلام الراحل الكبير، كما نعاه العديد من زملائه المخرجين والممثلين، وعلى رأسهم المخرج هيثم حقي المقيم في باريس، وقد كتب على صفحته في "فيسبوك"، "وداعاً فردوس أتاسي. وداعاً أبو عبدو. وداعاً للصديق المخرج الذي كان أحد المساهمين في نهضة الدراما السورية، وداعاً للمحب حتى في الاختلاف، وداعاً للظريف الحمصي حتى نخاع لهجته وضحكته. يحزنني ألا أكون في وداعك كما لم أكن في وداع العديد ممن رحلوا، وتركوا في القلب غصة الفقد عن بعد، وهو فقد مؤلم حقاً، لك يا أبا عبدو الذكر الطيب، وللعائلة ولمحبيك الكثر خالص العزاء".