كل المؤشرات الآتية من فيينا وطهران وواشنطن توحي بأن الأمور بين الطرفين الإيراني والأميركي قد وصلت إلى خواتيمها، بغض النظر عما إذا كانت سعيدة أو غير سعيدة. فالعودة إلى الاتفاق باتت قاب قوسين أو أدنى. والجولة الخامسة من المفاوضات لم تصل إلى طريق مسدود، بل إن المستوى الذي وصلت إليه المباحثات والمواضيع التي طرحت، أو تم التوافق على إدراجها في النص النهائي للمفاوضات يعد متقدماً. ما جعل الحاجة لدى لطرفين الأميركي والإيراني تبدو ضرورية، لوضعها أمام الجهات المسؤولة عن القرار النهائي، وأخذ موافقتها على ما تم التفاهم عليه وعلى آليات تنفيذه.
هذه التطورات تعني أن المفاوضين الأميركي والإيراني قد أنهيا الجولة الخامسة من التفاوض بنتائج إيجابية، وأن الجولة السادسة المرتقبة التي قد تعقد في الأيام المقبلة لن تستغرق كثيراً من التفاوض والبحث، خصوصاً أن كل فريق مفاوض سيحمل معه الرؤية والموقف النهائي من المسائل المتبقية. ما يجعل إمكانية التوقيع على الصيغة النهائية للاتفاق الجديد في توقيت يسمح للنظام في طهران توظيفه داخلياً في المعركة الانتخابية، من دون أن يكون للرئيس حسن روحاني وفريقه القدرة على استخدامه للتأثير على مسار عملية الاقتراع، كون المتوقع هو الإعلان عن هذا التوقيع عشية الانتخابات التي ستجري يوم 18 يونيو (حزيران)، أي في مرحلة الصمت الانتخابي التي لا يحق فيها لأي طرف أن يمارس أي نوع من الدعاية السياسية الانتخابية.
أوساط مقربة من مركز القرار الإيراني ومواكبة لمفاوضات فيينا، تؤكد أن التوقيع على الاتفاق سيجري يوم الخميس في السابع عشر من يونيو. ما يعني أن مهمة الفريق المفاوض الذي عاد إلى طهران حاملاً معه النص النهائي لورقة الاتفاق الجديد، سيضع نتائج مباحثاته والنقاط العالقة أو المعلقة أمام المرشد الأعلى علي خامنئي وفريقه الذي يتولى مهمة رسم المسار التفاوضي، ليأخذ القرار النهائي الذي سيسهل عملية التوقيع، وانطلاق مرحلة جديدة من التفاهمات الإيرانية الأميركية.
يبدو أن ما يحرص عليه النظام وقيادته في المفاوضات النووية، مسألتان أساسيتان، لا تتعلقان بالمسار التفاوضي أو حجم التنازلات التي ستقدم على طاولة التفاوض إن كان من جانبه، أو ما قد يقدمه الجانب الأميركي، بل تتعلق الأولى بالمسار الداخلي للمعركة الانتخابية والانتقال في السلطة الذي ستخرج به صناديق الاقتراع. أي إن ما يريده النظام هو الانتهاء من التفاوض في ظل الحكومة الحالية القائمة برئاسة حسن روحاني التي تقود المفاوضات بإشراف وزير الخارجية محمد جواد ظريف، بحيث يأتي الرئيس الجديد الذي ستختاره الدولة العميقة إلى السلطة التنفيذية من دون أي قلق في شأن تحديات الاستمرار بالتفاوض. والمسألة الثانية هي أن النظام سيكون قادراً في مرحلة ما بعد الاتفاق، ومع الرئيس الجديد وفريقه الإداري والدبلوماسي، على أن يتعامل مع النتائج وما تحمله من وعود بالانفتاح الاقتصادي، وعلى تحميل الحكومة السابقة مسؤولية ما قد يظهر من نقاط ضعف وتنازلات قدمتها إيران على طاولة التفاوض، وصولاً إلى تفعيل الدعوة التي يرفعها بعض المرشحين حالياً إلى ضرورة منع المسؤولين الحاليين، كروحاني وفريقه السياسي والاقتصادي، من السفر إلى الخارج ومحاكمتهم بسبب السياسات الاقتصادية والنووية التي مارسوها خلال السنوات الثماني الماضية.
وإذا ما استطاع النظام إبعاد التأثيرات الإيجابية للمفاوضات النووية وقطع الطريق على استخدامها في المعركة الرئاسية، فإنها تشكل الهاجس الأبرز له في كيفية توظيفها في المرحلة المقبلة لإبعاد الاهتمامات الشعبية من قرارات إقصاء جميع المرشحين الإصلاحيين ومعهم المحافظين أو المحسوبين على المحافظين المعتدلين من السباق الرئاسي لمصلحة المرشح الذي يريده في رئاسة الجمهورية المقبلة. في ظل الأصوات التي خرجت في الأسبوعين الماضيين، ورفعت الصوت عالياً وصوبت انتقاداتها نحو قرارات مجلس صيانة الدستور على خلفية إقصاء المرشحين، محذرة من حصول "انحراف" عن الأسس التي قام عليها النظام، وشكلت هويته السياسية منذ تأسيسه لتكرس التوازن بين طرفي المعادلة "الجمهورية والإسلامية" لمصلحة تكريس سلطة دينية مطلقة تحول العملية الانتخابية إلى مجرد آلية تنحصر مهمتها في "الكشف" عن المرشح الذي يفترض أن يتم اختياره، وتحويل الاقتراع إلى عملية جبرية غير اختيارية، وتوسيع قاعدة هذا الكشف بعدما كان محصوراً في شخص ولي الفقيه أو ولي أمر المسلمين. ما يساعد مستقبلاً على تسهيل خفض سقف الشروط المطلوبة لهذا الموقع المتقدم على رأس النظام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الدور الديني أو "الغيبي" المطلوب من رئيس الجمهورية المقبل، بدأت تتوضح معالمه ومعالم المسار الذي يتخذه أو سيتخذه النظام في المستقبل. وقد برزت أولى مؤشراته في كلام عضو مجلس خبراء القيادة محسن آراكي، الذي اعتبر أن السلطة في إيران هي امتداد لسلطة الرسول وأئمة الشيعة ووصلت إلى ولي الفقيه. وما أكده ممثل ولي الفقيه في محافظة خراسان، رضوي علم الهدي، وكذلك أحمد خاتمي عضو مجلسي خبراء القيادة وصيانة الدستور، هو أن عدم المشاركة في الاقتراع يعد كفراً، إضافة إلى الفتوى الأخيرة للمرشد الأعلى الذي اعتبر أن الاقتراع بورقة بيضاء "حرام" إذا أثر على مشروعية النظام.
إلا أن هذا التوجه بدأ يأخذ طابعاً عاماً مسيطراً على خطاب كثير من رجال المؤسسة الدينية المشاركين في مواقع القرار، خصوصاً في مجلس خبراء القيادة الذين تقع عليهم مسؤولية اختيار خليفة المرشد ومحاسبته، إذ أكد محمد مهدي مير باقري أن "أي مرشح لا يستطيع أن يقود البلاد في اتجاه عصر الظهور (ظهور المهدي) يجب ألا يترشح للانتخابات"، معتبراً أن المرشد الحالي خضع لاختبار دقيق من قبل الزعيم المؤسس السيد الخميني في مسألة تعاطيه مع رئاسة مير حسين موسوي للحكومة، عندما كان رئيساً للجمهورية، إذ قبل به على الرغم من عدم رغبته في العمل معه. ما جلعه مؤهلاً لموقع القيادة والسير في اتجاه تحقيق الهدف في بناء دولة إمام الزمان.
بغض النظر عمن سيكون رئيساً للجمهورية، وبغض النظر أيضاً هل سيكون الرئيس المقبل مرشحاً لتولي خلافة المرشد، أو ستنتقل لشخص آخر، فإن المهمة الأساس في تكريس خطاب داخلي للقاعدة الشعبية، هو أن هذه القرارات والإجراءات، هي بمثابة التمهيد لمرحلة بناء الدولة الإسلامية بقيادة الإمام الثاني عشر لدى الشيعة، في حين أن الخطاب الخارجي سيذهب نحو مزيد من التسويات الدولية والإقليمية بالاستفادة من نافذة الاتفاق النووي الجديد التي فتحتها الإدارة الأميركية في التوقيت المناسب للنظام.