"30 حاسة جديدة - مختارات من قصيدة النثر السعودية"، عنوان لافت لأنطولوجيا شعرية جمعها وأعدها الشاعر والكاتب السعودي محمد خضر الغامدي، وصدرت حديثاً عن نادي الطائف الأدبي ودار ميلاد، محتوية نماذج منتقاة بعناية لأبرز أصوات قصيدة النثر في السعودية خلال خمسين عاماً مضت. وهم أولئك الشعراء الذين أضاءوا الحواس بالانتقالات الفجائية الحادة والانزياحات الجمالية المدهشة، محدثين حراكاً ملموساً في المشهد الشعري السعودي، بالتوازي مع تحولات الكتابة في العالم العربي.
تكمن أهمية هذا الإصدار في تعزيزه التجارب الجديدة في السعودية، وتعميقه الرؤى المبتكرة والمفاهيم الطليعية في الإبداع، إلى جانب تأريخه للون أدبي تندر الأعمال التخصصية التي تتناوله باستفاضة. ومن جهة أخرى، فإن انفتاح المختارات على عدد كبير من الشعراء، غير البعيدي الصلة، فنياً، بعضهم عن بعض، أمر إيجابي في تجسيده أبرز السمات والملامح والخصائص المميزة لقصيدة النثر السعودية عبر موجاتها المتلاحقة.
خطوات شائكة
اعتمد محمد خضر الفهرست الأبجدي الحيادي في ترتيبه أسماء الشعراء المشاركين في المختارات، ولم يلجأ إلى المعيار الزمني، على الرغم من توقفه عند الأسبقية التاريخية، بإشارته في تقديم الأنطولوجيا إلى الدور الريادي للشاعرة فوزية أبو خالد في منتصف السبعينيات. لكنه أراد تقديم حالة قصيدة النثر السعودية عبر أجيالها المتتالية ولحظاتها الممتدة، ككتلة وهج واحدة، متدفقة، مترابطة، معبّرة عن أفق مشترك بشكل مغاير، ورؤية مختلفة، رغم الفروق الطبيعية بين الأفراد، والمراحل.
هكذا، افتتحت المختارات بنصوص إبراهيم حسن، واختتمت بياسر العتيبي، وما بينهما تجاور الشعراء: أحمد الملا، وإيمان الطنجي، وزياد السالم، وسمر الشيخ، وصالح الحربي، وعبد الرحمن الشهري، وعبد الله السفر، وعبد الله العثمان، وعبد الوهاب العريض، وعماد العمران، وفوزية أبو خالد، وماجد الثبيتي، ومحمد الحرز، ومحمد الدميني، وهدى المبارك، ووفاء الراجح، وغيرهم، ممن خاضوا بجسارة معركة تفجير الفعل الشعري كنشاط حيوي على الأرض، في أعقاب تجربة قصيدة التفعيلة الحداثية في السعودية، التي غرست بذوراً تشكّل وعياً جديداً بالكتابة الأدبية والخبرة الحياتية في آنٍ.
يبني محمد خضر انحيازه الأكبر لقصيدة النثر، دون غيرها، على كونها الصدمة الأكثر تأثيراً في الفضاء الإبداعي السعودي على وجه العموم. فعلى الرغم من تماسّها مع التراث الشعري السابق في بعض المظاهر، خصوصاً قصيدة التفعيلة التي رفعت راية التحرر النسبيّ عن المقدّس التقليدي، فإن قصيدة النثر السعودية في جوهرها، كنبض فردي هامس، قد وُلدتْ بلا ذاكرة ولا آباء في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وأنجزت خطواتها الأولى الشائكة بتواكبها وتفاعلها مع التجارب المنتشرة آنذاك في المجلات والصحف الثقافية في العالم العربي، وكذلك في دواوين الشعراء الذين كانوا قد بدأوا يحتلون مواقع مشرقة في أكثر من سماء عربية، كما في لبنان وسوريا والعراق ومصر وغيرها.
بزغ هلال قصيدة النثر السعودية على استحياء، وظلت محدودة في البداية، وتُكتب في فترات زمنية متباعدة، وتصطدم مع كثير من الجدل المثار حولها. وتجلّت الظاهرة في عام 1975، بإصدار الشاعرة فوزية أبو خالد أول مجموعة شعرية كاملة تنتمي إلى هذا النسق الجديد تحت عنوان "إلى متى يختطفونك ليلة العرس؟". وكانت الثمانينيات هي مرحلة الشد والجذب والتثبيت في المشهد، والتسعينيات هي مرحلة الرسوخ والتمكن والانتشار، عبر عدد كبير من الإصدارات الشعرية. ثم بعد ذلك، انطلقت قصيدة النثر إلى مزيد من التحقق والاتساع، حتى أحدث تمثلاتها في اللحظة الراهنة.
مشاغبات مثمرة
قد تحيل نصوص المختارات، المنتمية إلى أزمنة وتجارب متباينة، إلى اتّسام كل مرحلة وكل صوت شعري ببصمة مفارقة وعلامة دالة على تساؤلات تلك المرحلة وهواجس ذلك الصوت، في إطار ظروف ومتغيرات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية ومعلوماتية وغيرها. لكن المشترك هو الغالب دائماً في النماذج الكثيرة لقصيدة النثر السعودية، التي يمكن وصفها بأنها قصيدة المشاغبات المثمرة، بل إنها قصيدة الأخطاء المقصودة، بمعنى كسر القديم، ومخالفة الأعراف السائدة، وخلخلة الذائقة النمطية وبوصلة التوقعات. أو كما يقول الشاعر ماجد الثبيتي في نصّه المدرج بالأنطولوجيا، واصفاً هذا الشعر الذي يكتبه هو ورفاقه بأنه "مجرد تصديق بريء بقصص شعبية قديمة مذهلة، لم يكن إرثاً عائلياً قديماً، مجرد خلل جيني أثار استغراب الأهل والأقارب"، ويستطرد قائلاً "لم أكن شاعراً، أنا مجرد خطأ شعري!".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في مجملها، ككيان واحد منسجم، ظلت قصيدة النثر السعودية الطاقة الموجودة بذاتها، المعبرة عن اليومي، والمعيش، والذاتي، والفرداني، واللا مألوف، والمتنافر، والفوضى الخلاقة، وأسئلة الحياة الجديدة، والنأي عن القضايا الكبرى، واتحاد المتناقضات، والقطيعة مع جماليات التناغم وسلطة التراتبية المركزية الشعرية، ذاهبة من شعرية الشكل إلى الموقف والحالة.
في قصيدة الشاعر محمد خضر "الحرية"، يتحدث عن "الفراشة التي دخلت من نافذة المطبخ، وكانت تحوم لأيام في كل الغرف، وترتطم بالسقف كلما حلمت بالهواء"، وتلك هي روح المشاغَبة المثمرة التي يراها ويتكئ عليها في سائر انتقاءاته لنصوص المختارات.
هموم فردية
إن مثل هذه الكتابة المراوغة، هي التي ترفض أن تركن إلى ما يحد أفقها، أو تخضع لأي شكل ثابت، فقد تُكتب بأدوات السرد، أو السطور القصيرة والشذرات، أو النصوص الطويلة، وغيرها. وهي متقاطعة كذلك مع فنون أخرى، فقد تتماهى مع الفن التشكيلي، ومع الأفلام السينمائية، والفلسفة، والفوتوغرافيا، ولا تكف عن التجريب المستمر، بمقترحات جمالية متجددة، ومغامرات تجريبية لا تتوقف، كتلك اللحظة الشعرية العجائبية التي يقترحها الشاعر إبراهيم حسن: "يمكن أن تكون شاعراً دون أن تكتب حرفاً واحداً/ هل جرّبت المشي بجانب قطة تقطع الطريق العام؟! هذا الذعر الخفيف المشترك بينكما، وابتسامتك لها حين تقفزان على الرصيف... بتعب".
وتوغل نصوص مختارات قصيدة النثر السعودية في الهم الخاص، متحللة تماماً من الشعارات والتوجهات الجماعية. فهي قصيدة الفرد في تشتته وتمزقه وغوصه في ذاته، مفتشاً ومتسائلاً عن كل شيء، حتى ولو بحجم ندبة صغيرة، كتلك التي يحكي عنها بنزعة سردية الشاعر أحمد الملا في قصيدته "تلك النَّدبة"، المثبتة في الأنطولوجيا: "يصحو أمام كل مرآة عابرة/ يتفحّص خدَّهُ بحثاً عنها/ جازماً أنها علامة يُعرف بها وتكاد تكونُ وشمَه/ يحاول معرفة حادثها، الذي تركها ظاهرة للعيان/ نسي العلة وبقي الأثر/ الندبة تدلّ عليه، حين انحفرَت أسفل عينه/ ورويداً رويداً ضعفتْ ملامحه حتى غلبتْهُ كله/ أزاحت اسمه عنه، وبقيت الندبة كنيتَهُ التي لا يُعرف إلا بها!".