Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"فروسية ريفية" لماسكانيي الأوبرا التي نبعت من أرض صقلية

يوم عرف كوبولا كيف يبرر أخلاقيات المافيا الصقلية في خاتمة ثلاثيته

كان بياترو ماسكانيي في السابعة والعشرين من عمره حين لحن "فروسية ريفية" (غيتي)

كان من اللافت أن يكرس المخرج فرنسيس فورد كوبولا القسم الأخير من فيلمه "العراب – 3" لأحداث تدور خلال ما لا يقل عن ثلث ساعة سينمائية بالغة الأناقة والقوة، لتقديم أجزاء من عرض أوبرالي يقدم فوق خشبة صقلية هو عبارة عن تقديم لأوبرا شديدة الخصوصية الصقلية، "فروسية ريفية". وكانت الحجة السينمائية هنا هي أن من يقوم بالدور الأساس في العرض ليس سوى طوني ابن مايكل كورليوني الابن الأصغر لـ"العراب" فيتو كورليوني. وكانت زعامة العائلة قد آلت إلى مايكل بعد موت أخيه صوني وأبيه منذ القسم الأول من الثلاثية، وتبين عدم قدرة أخيه الأكبر فريدو على إدارة شؤون العائلة، كما يعرف متابعو الثلاثية وهم كثر في العالم.

توليف متواز

المهم أن وجود الأوبرا في الفيلم الذي حققه كوبولا بعد عقدين من النجاح الساحق الذي ناله الجزآن الأولان من "الثلاثية" كان مدهشاً حتى وإن لم يعجب كثراً من الذين فضلوا دائماً الجزأين الأولين. لا سيما أن السيناريو استخدم العرض الأوبرالي كما استخدم في الجزء نفسه وبالتوازي أحداثاً جليلة جرت في الفاتيكان ووقائع تاريخية لإخراج ثالث الثلاثية عن السياق الأميركي الذي كان طغى على "العراب – 1" و"العراب – 2".

لكن، هذا ليس بيت قصيدنا هنا. ما يهمنا هو تلك الروح الجديدة التي نفخها الفيلم في الأوبرا التي سرعان ما باتت منذ عرضه واحدة من أشهر الأعمال في تاريخ النوع. وربما يعود هذا إلى الطريقة التي بها استخدم المخرج العرض في توليف متواز سار قدماً مع التحضير الذي تقوم به عصابة منافسة لآل كورليوني بغية التخلص من العائلة وارتكاب مجزرة خلال تقديم الأوبرا، وكذلك الإجراءات المضادة التي يرتبها ابن أخ مايكل والقائم على أمنه للحيلولة دون ذلك.

ويقيناً أن ذلك التوليف المليء بالتشويق الذي تقاطع مع الأحداث الفاتيكانية كما مع ما يجري على الخشبة، كان عملاً فنياً بديعاً. لكنه، وفي الوقت نفسه، رسخ الأوبرا في ذهن الجمهور دافعاً الملايين إلى التعرف أكثر عليها خارج إطار الفيلم. لكن بعد التساؤل عن السبب الذي جعل كوبولا يختار "فروسية ريفية" كجزء من فيلمه.

تبرير لا يخلو من منطق

وربما كان الجواب بديهياً، فـ"فروسية ريفية" هي في الأحوال كافة واحدة من أكثر الأوبرات الإيطالية ارتباطاً بالذهنية الصقلية ناهيك عن استلهام ماسكانيي ملحنها الموسيقى الشعبية في الجزيرة في موسقتها وهي موسيقى تلعب دوراً كبيراً في حياة الإيطاليين، وكنا قد تعلمنا ذلك أيضاً من خلال أنواع معينة من السينما الإيطالية، ولكن بخاصة من خلال الموسيقى التي لعبت دوراً كبيراً، بتوقيع إنيو موريكوني في ثلاثية "العراب" بشكل عام.

 

ولنضف إلى هذا تلك الذهنية الخاصة التي تعبر عنها "فروسية ريفية" باشتغالها على أخلاقيات تحاول دائماً أن توجد نوعاً من علاقة عضوية بين الحياة العامة للصقليين والحياة الداخلية لعائلات المافيا مبررة بشكل عام ما تقترفه تلك العائلات بوصفه "ضرورة" اجتماعية وجزءاً من "تقاليد" لا تمت إلى الأحكام الأخلاقية بصلة. وربما يكون واقع أن "فروسية ريفية" مقتبسة في الأصل عن قصة قصيرة للكاتب الصقلي جوفاني فيرغا، قد لعب دوراً أساسياً في هذا. ففيرغا معروف بكتاباته الشعبية التي تلامس تاريخ الطبقات الأكثر هشاشة في مجتمع الأطراف الإيطالية، هو الذي اقتبس عنه لوكينو فيسكونتي واحداً من أول أفلامه، "الأرض تهتز" الذي افتتح ما سيسمى "الواقعية الجديدة الإيطالية" بحديثه عن ثورة صيادين على أوضاع اجتماعية تدمرهم.

أسئلة الأميركية الحائرة

من هنا تتخذ أوبرا "فروسية ريفية" تلك الدلالة التي تكاد تكون تبريرية مثيرة بذلك اهتمام ثلاثية العراب تحديداً لهذا البعد الذي قد يكون فيه إجابة عن التساؤلات المستنكرة التي دائماً ما طرحتها "كاي" حبيبة مايكل ثم زوجته ثم مطلقته الأميركية التي كانت تراقب بعين الغضب صعود حبيبها في سلم الزعامة المافيوزية غير مدركة أن ثمة "في الذهن الإيطالي" علاقة بين الإجرام والأخلاق العائلية.

ومن هنا يبدو واضحاً أن اختيار كوبولا لهذه الأوبرا لم يكن مجانياً. فعم تتحدث بعد كل شيء؟ على عكس كثير من الأوبرات الإيطالية الكبرى، لا تدور أحداث "فروسية ريفية" لا في الماضي البعيد ولا في القصور ولا حتى في أماكن استثنائية. بل هي تدور في منطقة ريفية شعبية من مناطق صقلية، وعند نهايات القرن التاسع عشر، أي في الزمن نفسه الذي لحنها فيه ماسكانيي لتقدم للمرة الأولى عام 1890 على مسرح "كوستانزي" في روما محققة نجاحاً هائلاً وعدداً من الجوائز جعلها تنتقل بسرعة إلى العديد من الصالات الإيطالية والفرنسية، لكنها غالباً ما كانت، لكونها مؤلفة من فصل واحد لا يتعدى تقديمه الساعة ونصف الساعة، تقدم في عرض مزدوج مع أوبرا ريفية مشابهة للملحن ليونكافالو، لكنها تنال غالباً من التصفيق ما يجعل ابن السابعة والعشرين الذي كانه ماسكانيي يوم لحنها، يتفوق على زميله المخضرم. ويقيناً أن ذلك النجاح يعود إلى حسن استخدام ملحن "فروسية ريفية" للغناء الشعبي الإيطالي بشكل لا مثيل له.

غرام وانتقام

تتحدث "فروسية ريفية" في فصلها الوحيد الطويل وفي اليوم الوحيد الذي تدور فيه الأحداث الرئيسة، يوم عيد الفصح، عن توريدو ابن صاحبة النزل لوتشيا الذي يعود إلى القرية بعد انتهاء خدمته العسكرية ليجد في انتظاره مفاجأة غير سارة: لولا حبيبة صباه التي كان قد اتفق معها على الزواج اقترنت في غيابه بسائق العربة آلفيو. لكنه بعد الصدمة الأولى يكاد يقبل الواقع الجديد معزياً نفسه بغرام آخر يجمعه هذه المرة بالحسناء سانتوتسا التي يعدها بالزواج. لكن توريدو لم ينس لولا تماماً بل ها هو يعود إلى الالتقاء بها سراً، ما يثير بعض الشكوك لدى سانتوتسا. وهذا ما يقودها إلى زيارة النزل لتلتقي أم توريدو في وقت كان هذا قد أعلمها أنه ذاهب إلى بلدة مجاورة لشراء النبيذ للنزل.

لكن سانتوتسا تفاجأ بأنه لم يبرح القرية بل شوهد حتى في جوار بيت آلفيو. وبعد قليل يصل توريدو معلناً غضبه لمطاردة سانتوتسا له فيطردها بعنف بينما تعبر لولا المكان متجهة إلى الكنيسة. ولا يكون من سانتوتسا إلا أن تشعر بالإهانة فتتجه إلى حيث تلتقي آلفيو، لتخبره أن زوجته تخونه مع توريدو، فيقرر آلفيو الثأر لشرفه المهدور. وهكذا لاحقاً حين يكون الجمع في الحانة، ويكون توريدو قد انضم إليهم بعد ما التقى لولا في الكنيسة، يقدم توريدو مشروباً مجانياً لجميع الحضور طالباً منهم أن يشربوا نخب لولا وجمالها.

لكن آلفيو يرفض ذلك بل حتى يدعو توريدو إلى المبارزة، فيقبل لكنه يتوجه إلى أمه الجاهلة بكل شيء حول الأمر سائلاً إياها أن تباركه، وأن تعتني بسانتوتسا إن أصابه مكروه. هنا تتنبه الأم إلى خطورة الأمر، وتحاول ثني ابنها عما يتجه لفعله، لكنه لا يلين، فالشرف هو الشرف. وهكذا يتجه إلى قدره حيث لا نلبث أن نسمع وسط صخب الموسيقى صراخاً يعلن موت توريدو في المبارزة، في صرخة تحولت يومها إلى نوع من شعار شعبي: "أنو أماتزاتو توريدو!" (لقد قتلوا توريدو)، على وقع موسيقى تراجيدية عرف كوبولا كيف يستخدمها على أي حال في مشهد قتل ابنته على درج المسرح بعد انتهاء العرض الأوبرالي في فيلمه، وهو المشهد الذي يختتم الفيلم والثلاثية جميعها رابطاً بين ما تريد الأوبرا قوله وما يريده الفيلم في نهاية الأمر.

حكاية أجواء

كما أشرنا، كان بياترو ماسكانيي (1863 – 1945) في السابعة والعشرين من عمره حين لحن "فروسية ريفية" التي كانت أول عمل كبير ينجزه بعد ما درس في كونسرفاتوار ميلانو، لكن نجاحها مكّنه من أن يكرس حياته لكتابة أوبرات ستحقق بدورها نجاحات كبرى، لكن منها ما لم ينل نجاحاً يضاهي ما حققته "فروسية ريفية" ذلك العمل الذي لم يكن ما يهم فيه أحداثه ولا الرسم الموسيقي لشخصياته الرئيسة، بل بالتحديد الأجواء التي رسمها بشكل بالغ التكثيف من خلال شخصيات درامية تنتمي، كالموسيقى التي استخدمها، إلى الأرض الصقلية والتراث الشعبي في ارتباطه بأخلاقيات تبدو في نهاية الأمير شديدة الخصوصية، لا شك أن فرنسيس فورد كوبولا قد أبدع بدوره في التعبير عنها في ثلاثيته التي رسم فيها تواصل الذهنية والأخلاق الصقلية حتى لدى مهاجري الجيل الثالث في أميركا.

المزيد من ثقافة