Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رواية "السراب" لنجيب محفوظ على درب فرويد

كامل رؤبة لاظ الذي "قتل" أمه ثم روى لنا حكايتهما في تفاصيلها الغريبة

حين أنجز نجيب محفوظ "السراب" كانت الحياة الأكاديمية المصرية مزدحمة بالدراسات النفسية (موقع غيتي)

لم يكون غريباً لدارس الفلسفة الذي كانه نجيب محفوظ، قبل غوصه في الكتابة الروائية وهو الذي كتب عشرات المقالات العلمية والفكرية تمهيداً لكتاباته القصصية والروائية، أن ينهمك أواخر سنوات الأربعين في كتابة تلك الرواية التي قد تكون، في واحد من أبعادها، ترجمة أمينة لبعض أهم النظريات الفرويدية. ونعني بها روايته "السراب" التي أصدرها عام 1948 مباشرة بعد "زقاق المدق" و"خان الخليلي" وقبل "بداية ونهاية" على مشارف اشتغاله سنوات طويلة على "الثلاثية". ففي الأعوام التي أنجز فيها "السراب" كانت الحياة الأكاديمية المصرية مزدحمة بالدراسات النفسية ترجمة وتأليفاً، لا سيما على يد مجموعة كبيرة من أساتذة تحلقوا من حول "جمعية عين شمس لعلم النفس" كما من حول من سيصبحون أساطين في هذا العلم وليس في مصر وحدها، حيث نعرف مثلاً أن واحداً منهم وهو مصطفى صفوان سيصبح لاحقاً في باريس أحد أركان المدرسة الفرويدية الفرنسية المتحلقة من حول جاك لاكان. ولقد أبدع كبار علماء تلك التيارات في إصدار كتب جعلت علم النفس والتحليل النفسي في متناول القراء العرب بما في ذلك تلك الدراسات البديعة والمتنوعة حول التحليل النفسي والفن.

القاهرة بين ثورتين

من هنا، من الواضح أن اهتمام نجيب محفوظ ينضوي ضمن هذا الإطار العلمي- التاريخي. وهو اهتمام لن يبارح الأدب القصصي والروائي المحفوظي لسنوات طويلة حتى وإن كان قد وصل إلى ذروته في تلك الرواية، "السراب"، التي نبادر هنا للقول إنها رواية مظلومة. ففي السياق المحفوظي، هناك عادة روايات تحسب من قمم الكاتب، مثل "الثلاثية" و"أولاد حارتنا" و"الحرافيش"، وحتى تلك التي تعتبر نوعاً من التأريخ للحياة الاجتماعية القاهرية مثل "زقاق المدق" و"بداية ونهاية" و"القاهرة الجديدة"...، وهناك في المقابل، الروايات التي يعتبرها النقد "أقل شأناً" باعتبارها كتبت على عجل ربما لتتزامن مع أوضاع سياسية واجتماعية معينة. ومن أهمها الروايات "النفسية" و"البوليسية" التي ازدهرت في سنوات الستين وربما تحت تأثير الكتابة السينمائية في مسار عميد الرواية العربية. وفي هذا السياق، قد تبدو "السراب" خارج التصنيف، لا سيما أن كثراً من الذين كتبوا عنها نظروا إليها على أساس أنها تجربة في "كتابة الرواية الجنسية" مركزين على فردية بطلها و"غرابته" وخروج موضوعها نفسه عما هو مألوف في المواضيع المحفوظية. ولنقل هنا إن تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي في الستينيات قد أمعن في تهميشها وإخراجها عن السياق المحفوظي.

مكان ما في السياق التاريخي

غير أن دارسين أكثر جدية وفي مقدمتهم الدكتور عبد المحسن طه بدر في كتابه "الرؤية والأداة"، ومحمود أمين العالم في كتاباته عن محفوظ، وكذلك غالي شكري وجورج طرابيشي، عرفوا كيف "يعيدون" إلى "السراب" قيمتها، بل كما فعل صاحب "الرؤية والأداة"، حتى مكانتها في السياق التاريخي لمجتمع القاهرة الذي ينتمي إلى ما كان محفوظ يسعى إلى رسمه حتى إنجازه "الثلاثية". ولقد تمكن بدر من ذلك في تحليله العميق الذي فسّر كيف أن الرواية تبدو في ظاهرها مبتعدة عما تناوله محفوظ في رواياته القاهرية الأخرى من تأريخ للتبدلات والتصدعات الطبقية في مصر بين ثورتي 1919 و1952، ودائماً من خلال حكايات تدور من حول جملة شخصيات وعائلات وعلاقات بحيث تبدو سلسلة الروايات تلك، ودائماً في إشاراتها الواضحة إلى الإطار المكاني والزماني الذي تدور فيه الأحداث وكأنها مساهمة الفن الروائي في التأريخ لقاهرة ما قبل 1952. من هنا، حتى وإن لم تبد "السراب" معنية بذلك التاريخ بل حتى هلامية من ناحية تحديدها الزمني ومنفلشة، إذ تتابع أحداثاً تجري خلال ثلاثين عاماً، ومن خلال فرد واحد هو الراوي نفسه وبطل الأحداث، كامل رؤبة لاظ، فإن الكاتب عرف من خلال تلك الغرابة الأسلوبية، كيف يدمج الرواية في التاريخ القاهري بل يرمي هنا وهناك إشارات على لسان راويها الذي يبدو غير مهتم بدلالة تلك الإشارات، تدلّ على ما يبدو واضحاً وصريحاً في الروايات القاهرية الأخرى: الزمن المحدد للأحداث؛ الطبقة المحددة التي ينتمي إليها البطل إنطلاقاً من اسمه التركي؛ تبدل الذهنيات من حوله من دون أن يصيبه شيء من ذلك التبدل خلال ثلاثين سنة؛ وانهيار الطبقة التي ينتمي إليها من دون ارتباطه المباشر هو بتلك الطبقة....الخ.

عقدة أوديب

غير أن هذا كله لا يصلنا نحن القراء بصورة مباشرة، بل على هامش الحكاية الرئيسية التي على الرغم من كلاسيكية موضوعها وخطّية الأحداث وتركيزها من البداية إلى النهاية على شخصية رؤبة لاظ الذي يروي لنا ما يصارحنا به منذ السطور الأولى كيف أنه "قتل" أمه معرباً عن دهشته لامتشاقه القلم هو الذي لا عهد له بالكتابة كي يروي حكايته. والأدهى من هذا أنه يكتبها بلغة بالغة العمق والأناقة على الرغم من جهله وعاديته، وبأسلوب يتعمق في التحليل الفرويدي لعلاقته بأمه، تلك العلاقة التي حتى وإن كان هو لا يفقه لها وصفاً إصطلاحياً، نراه يعطينا كل الدوافع والمبررات لتسميتها العلمية الفرويدية من جانبنا: عقدة أوديب.

عالم التحليل النفسي

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نعم في هذه الرواية العائلية بامتياز دنا نجيب محفوظ، ولكن على لسان بطله الجاهل والمعتبر أحد ضحايا تلك العقدة الفرويدية الشهيرة وقد تترجمت هنا في عمل إبداعي نادر، دنا من صلب لعبة التحليل النفسي بأكثر وأفضل مما فعل أي كاتب حاول سلوك الطريق نفسه. بل في لحظات بدا محفوظ وكأنه يترجم النظرية التحليلينفسية العلمية إلى لغة أدبية همها أن تخدمها بشكل لم يخدم به أي عمل أدبي أي نظرية علمية حتى ذلك الحين، لكن قوة لغة الكاتب الإبداعية وإتقانه لعبة رسم الشخصيات أنقذاه من تلك "الخطّية" التي كان في إمكانها حقاً أن تقضي على ما في العمل من قوة إبداعية. فمحفوظ الذي بدا هنا تجريبياً إلى أبعد الحدود وممسكاً بموضوعه بقوة مدهشة، ومطّلعاً، كمثقف وكاتب كبير، على الحداثة الروائية في العالم، تمكن في "السراب" من أن يضبط إيقاع عمله ويعيد روائيته إلى الصواب، إذ راحت تبدو في لحظات وكأنها تفلت من بين يديه. فتيار الوعي الذي لجأ إليه أحياناً والقفزات الميلودرامية التي عرف كيف يرسمها ثم يتجاوزها في أحيان أخرى وصولاً إلى النهاية المفتوحة التي أوقف محفوظ الرواية عندها في السطر الأخير، والحوارات المشغولة بعناية... كل هذا عرف كيف يبعدنا عن "خطية" الأحداث التي بدت في لحظات مجرد ترجمة للنظرية الفرويدية: أحداث ذات بؤرة مركزية هي علاقة كامل رؤبة لاظ "المرضية" بأمه التي استعاضت به عما خسرته في الحياة فأنشأته متعلقاً بها فيما تمكن أبوه الغائب من إخصائه وصولاً إلى غوصه في حيلة جنسية مرضية يستعيض فيها عن توقه إلى أمه بالعاهرات رافضاً الربط بين الحب والجنس إلى درجة أنه حتى حين يقع في غرام الصبية الحسناء الفاضلة، رباب، بل يتزوجها، يجد نفسه عاجزاً إلا عن الغرام بصورة أفلاطونية.

فات الأوان!

والحقيقة أن كامل حين يدرك في نهاية الأمر مأساته بكل وضوح ويكتشف أنه إنما كان دائماً ضحية تعلقه بأمه، سيكون قد فات الأوان: سيكون قد أدى برباب إلى سلوك حياة جنسية في معزل عنه تنتهي بموتها؛ كما سيكون قد بات قادراً على التخلي عن أمه حتى عبر إزاحتها من الوجود، ولو رمزياً. ما يؤدي إلى موتها الذي سيعتبر نفسه مسؤولاً عنه، بالتالي يخبرنا في بداية الرواية أنه هو الذي قتل أمه. فهل يمكننا القول إن تلك الإزاحة للكائنين اللذين أحبهما من الوجود، وفي يوم واحد قد أوصلته إلى الشفاء؟ ليس هذا مؤكداً طالما أن نجيب محفوظ في ابتكار أسلوبي مدهش، رسم لنا كل ما يفتح المجال أمام "شفاء ما" ثم ترك النهاية مفتوحة... في لعبة أدبية قد تكفي وحدها لإعطاء "السراب" مكانة متقدمة ليس في المتن المحفوظي وحده، بل حتى في المتن الروائي العربي بشكل عام. وهذا ما يحدو بنا إلى اعتبار "السراب" في طليعة الروايات المحفوظية المظلومة.

المزيد من ثقافة