على الرغم من مرور 38 عاماً على رحيله، فإن منجز أمير شعراء الرفض المصري، أمل دنقل، لم يغب عبر قصائده التي جسدت الهم العربي، بوصف عميق من شاعر سخّر موهبته للتعبير عن البسطاء بنظرة فلسفية فريدة، جعلت من دواوينه الشعرية دساتير خالدة للمواطن العربي تُستحضر في كافة الأحداث، للمطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية."اندبندنت عربية" زارت قرية الشاعر الراحل في محافظة قنا جنوب مصر، للتعرف على كواليس نشأته وأسرار عبقريته الشعرية.
مدرسة اليتم
قال أنس دنقل، الشقيق الأصغر للشاعر الراحل، "إن اليتم كان أحد العوامل الرئيسة التي شكلت شخصية أمل، حيث توفي والده، أحد أبرز علماء الأزهر الذين حصلوا على إجازة العالمية، ولم يتجاوز عمره وقتها 11 سنة، فذاق مرارة اليتم التي أشعلت فيه حب العلم والقراءة، والبحث في القضايا الفلسفية، حيث ورث عن والده مكتبة عظيمة عكف على القراءة فيها ليلاً ونهاراً اقتداء به".
وأشار أنس، البالغ من العمر 65 سنة، "أن الشاعر الراحل تلخصت عبقريته في التعبير الصادق عن البسطاء في العالم العربي، ورؤيتهم للأحداث الجسام التي تمر بها الأمة، لذلك قصائده ما زالت محفورة في قلوب الملايين، ففي يومنا هذا ما زالت تستحضر قصيدة "لا تصالح" في الأحداث الجارية لاعتداءات القوات الإسرائيلية على المسجد الأقصى وقطاع غزة، وأصبحت قصيدة (كلمات سبارتكوس الأخيرة) شعاراً لمواجهة الاستبداد، لأنه أخلص في تجسيد هموم المواطن العربي عبر كلمات من وحي المرارة".
وأضاف عبد الناصر دنقل، ابن عم الشاعر وأحد أصدقائه المقربين، يبلغ من العمر 69 سنة، "أمل، منذ بداية المرحلة الثانوية قرر أن يكون شاعراً، فسأل أحد معلمي اللغة العربية كيف أكون شاعراً متميزاً؟ فقال له، "من أراد أن يكون شاعراً فليحفظ 1000 بيت من بطون الشعر العربي، وليدرس علم العروض"، من ذلك الوقت عكف على حفظ 1000 بيت من دواوين الشعر والأدب العربية، باتت تلك المهمة شغله الشاغل، بل كان يترك تحصيل بعض المواد الدراسية لإنجاز هدفه، بأن يكون شاعراً مثل والده، ليتمكن وهو في الصف الثالث الثانوي من كتابة الشعر العمودي، وسط إشادة من معلمي اللغة العربية".
حكاية أمل مع معمر القذافي
ذكر أنس دنقل، "أن أمل كان شاعراً وطنياً بامتياز، لا يقبل التفاوض على مبادئه مهما كان الثمن"، وتطرق إلى واقعة خصنا بها، جاء فيها، "في عام 1972 قرر الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات إحالة 63 كاتباً ومؤلفاً في وزارة الثقافة إلى المعاش، مع منع أي نشر لهم في الصحف والدوريات الحكومية والخاصة، كان على رأسهم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وأمل دنقل. وقد واجه الأخير في ذلك الوقت أزمة مادية عصيبة، بعد عام منها تلقى خطاباً فارهاً مصنوعاً من الورق المقوى ومكتوباً بماء الذهب من الرئيس الليبي معمر القذافي عبر السفارة الليبية، يدعوه فيه للإقامة والعمل في العاصمة الليبية، وإنشاء حي أدبي للأدباء والشعراء العرب المضطهدين في بلدانهم، مع تخصيص راتب مجز يختاره كل أديب كما ذكر في الخطاب، إلا أنني فوجئت خلال زيارتي لشقيقي رفضه الشديد لذلك الخطاب، فقلت له ولماذا لا تسافر إلى ليبيا وتلبي دعوة القذافي الذي قدر مكانتك الأدبية وأنت في أزمة مادية، فرد قائلاً، "مهما كان حجم الخلاف مع النظام المصري، فإن اللجوء لدولة أخرى سيكون الأسوأ، لأن التفاوض على الانتماء خسارة فادحة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد أنس، "أن الشاعر الراحل لم يسع للتكريم طيلة حياته، إلا أنه لم يكرم من الأجهزة الحكومية كما كرم غيره، في وقت ترى أسرته أن التكريم الأكبر الذي حازه، هو حب وتقدير جماهير الشعر في العالم، فسنوياً يزور قبره أدباء وشعراء ونقاد من كافة دول العالم العربي من تونس والجزائر والمغرب ولندن وأميركا وسويسرا، تعظيماً لما تركه الشاعر من إنتاج إنساني يستدعي الفخر".
عبقرية أمل دنقل الشعرية
يقول محمد أبو الفضل بدران، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة المصري السابق وأحد معاصري الشاعر، "إن سر عبقرية أمل دنقل تتمثل في أنه نموذج حقيقي للحداثة العربية التي تستهلم التراث العربي باحتراف"، مضيفاً "على الرغم من أن أمل توفي في سن 43، فإنه حفر اسمه في المكتبة الشعرية العربية، وترجمت أعماله لعديد من اللغات الأجنبية، لأنه كان يحرص أن ينطلق بشعره دائماً من عموم القضايا الإنسانية والعربية وهموم البسطاء".
وأضاف، "أن أمل حافظ على الصدق فوصل للجمهور، وحافظ على القصيدة فوصل للنقاد، وأظن أن المناخ السياسي في حقبة الستينيات والسبعينيات المتمثل في مصادرة القصائد السياسية أسهم في انتشار شعره بين العوام والبسطاء، الذين رأوا فيه الشاعر الذي يتحدث في كل شيء هم يفكرون فيه سراً، ولذلك كانت قصائده بمثابة المنشور الثوري".
وأشار حسين السمهودي، باحث متخصص في شعر أمل دنقل، إلى "أن إنتاج أمل دنقل في فترة المرض وصف بالغزارة، مقارنة مع السنوات السابقة لتلك المرحلة، فقدم في هذه المرحلة ديوانه المميز (أوراق الغرفة رقم 8)، الذي سجل فيه مرحلة مواجهة الموت والمرض على سرير الموت في معهد الأورام، على الرغم من حالته الصحية المتأخرة، بل لم يستطع المرض أن يوقفه عن الكتابة، وهذا ما وصفه عبد المعطي حجازي بقوله، (إنه صراع بين متكافئين الموت والشعر)".
وأضاف، "أن آخر ما كتب دنقل من الشعر قبل رحيله قصيدة (الجنوبي)، وتكتنف هذه القصيدة رؤية فلسفية عميقة للموت والحياة، ليرحل بعدها بساعات قليلة في 21 مايو (أيار) 1983، ويدفن في بلدته بقرية القلعة في مركز قفط في محافظة قنا جنوب مصر، طبقاً لوصيته".