Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سان سانص والكونشرتو "المصري" في رحاب الأقصر

  في الذكرى المئوية للموسيقي وعازف البيانو الفرنسي العالمي

الموسيقي الفرنسي كامي سان سانص يعزف في باريس العام 1913 (فيلارمونيا باريس)

في السادس من ديسمبر (كانون الأول) المقبل تحل الذكرى المئة لرحيل المؤلف الموسيقي وعازف البيانو الفرنسي الشهير شارل كامي سان سانص  camille sainsaens الذي توفي في الجزائر عام 1921. وهو أحد أشهر رموز الموسيقى الكلاسيكية العالمية ممن كان لهم شديد الأثر في تطور الفن الموسيقي في فرنسا. ولد في باريس في 19 أكتوبر (تشرين الأول) 1835، وكانت وفاته في الجزائر، وما بين هاتين العاصمتين الفرنسية والعربية، جرت واختلطت في أنهار سيرته الذاتية كثير من مؤثرات الثقافات الأوروبية والعربية، بل والنوبية التي كانت مصدر إلهامه وما استقى منها كثيراً من "حركات الكونشرتو الخامس" الذي يحمل أيضاً اسم "الكونشرتو المصري".

قضى طفولته يتيم الأب الذي كان فقده ولم يكن بلغ من العمر ثلاثة أشهر، ليتربى في كنف الأم وخالتها، وهما اللتان تفرغتا للعناية به وتعليمه الموسيقى التي أظهر منذ الطفولة موهبة غير عادية لاستيعاب مفرداتها، وبما كان يبشر بأنه في سبيله إلى أن يحذو حذو سابقيه من رعيل الموهوبين الموسيقيين، شأن موتسارت وميندلسون وآخرين. ولم لا؟ فقد كان الأب يحسن نظم الشعر، بينما كانت أمه تجيد فن الرسم. أما الجدة عن الأم التي كانت اختارت له اسما مركباً هو "شارل كاميل" أو "شارل كامي"، فقد كانت أيضاً عازفة بيانو رفيعة المستوى. ولذا لم يكن غريباً أن تحسن تدريبه، ليُبْدِي ومنذ الصغر مستوى مبهراً في العزف على البيانو، ويحفظ عن ظهر قلب كل سوناتات بيتهوفن الاثنتين والثلاثين، ولم يكن عمره تجاوز العاشرة. وكان سان سانص التحق بمعهد الموسيقى في باريس اعتباراً من عام 1848 لمتابعة دراسة العزف على الأورغن والبيانو واستيعاب النظريات الموسيقية، ما أسهم في إعداده للعزف في الكنائس إلى جانب التأليف الموسيقي.        

قالوا عنه "إنه استطاع أن يجمع بين سرد القصة والبناء الموسيقي في وقت واحد، فجاءت موسيقاه كلاسيكية من حيث الصياغة الموسيقية، ورومانسية من حيث براعة التلوين الأوركسترالي". جمع بين دراسة العزف على الأورغن والبيانو، وتأثر كثيراً بالموسيقي المجري فرانز ليست وبمؤلفاته السيمفونية، إلى جانب تأثره ببيتهوفن وباخ وموتسارت.

لماذا "الكونشرتو المصري"؟

 تقول المصادر الموسيقية إن "الكونشرتو المصري" هو الخامس في سلسلة ما أبدع من "كونشيرتات" البيانو، بعد أن قدم الأول والثالث في ليبزيج في عامي 1865، 1869، بينما قدم الثاني والرابع في باريس 1868، و1875.

ولما كان سان سانس محباً للسفر والترحال، فقد زار عديداً من البلدان واستوحى منها بعض أعماله، التي نشير منها إلى الكونشرتو الخامس للبيانو والأوركسترا، الذي يرتبط اسمه بالأقصر، والذي يسمى أيضاً "الكونشرتو المصري"، إلى جانب مقطوعة "ذكريات الإسماعيلية" عمل رقم (100) للبيانو المنفرد، و"المتتالية الجزائرية"، وفانتازيا للبيانو والأوركسترا بعنوان "أفريقيا".

لكن تاريخ ما كتبه تحت اسم "الكونشرتو الخامس" كان تأخر كثيراً  لما يقرب من عشرين عاماً كانت تفصله عن تاريخ تأليف "الكونشرتو الرابع". لم يكن "الخامس" في حسْبَاِنه، إلى أن قُيض للموسيقي الفرنسي أن يسافر إلى الأقصر في عام 1895 لقضاء بعض الراحة في رحاب الحضارة المصرية وأصولها الفرعونية. وفي الأقصر اختار سان سانص الإقامة في إحدى عواماتها "الذهبية" التي تفترش صفحة النيل، لتوفر للزائر بين أمواجها مستقراً أوحى إليه بكثير مما جادت به الطبيعة والموقع من سكون وهدوء، مساهماً في تفسير ما اكتسبته موسيقاه من طابع محلي وتأثر بالألحان النوبية وترانيم التاريخ.

ذلك ما أوجزه النقاد الموسيقيون في ما كتبوه حول أن سان سانص كتب هذا الكونشرتو في عام 1896، وهو تاريخ يوافق الذكرى الخمسين لبداية انطلاقته الكبرى في عام 1846. وقالوا إنه أطلق عليه اسم "الكونشرتو المصري" لسببين الأول يعود إلى أنه استلهم كثيراً من مفرداته من المكان الذي كان يقضي فيه إجازته في رحاب مدينة الأقصر، والثاني لما يتسم به هذا الكونشرتو من طبيعة مصرية شرقية الطابع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن هنا قالوا "إن سان سانص حاول في الكونشرتو الخامس" إظهار الطابع المحلي للموسيقى في الألحان وفي استخدام بعض عناصر الهارموني والتعبير والتلوين. ولكنه في الواقع يقدم لنا ما تذوقه من موسيقانا في ثوب أوروبي". وقالوا أيضاً إن ذلك ما تجسد في "ذلك اللحن النوبي وما حاول تقليده من أصوات نقيق الضفادع، بما اقترب به من الطابع المصري في أداء التقاسيم".

ومن اللافت أن سان سانص لم يقتصر في إنتاجه وإبداعاته على التأليف الموسيقي والعزف كمحترف وليس مجرد هاوٍ، سواء كان على الأورغن أو البيانو، بل وتجاوز كل ذلك إلى عالم الكتابات النقدية والفلسفية والأدبية، فضلاً عن نظم الشعر وكتابة المسرحيات التي عكست كثيراً منها سعة ثقافته وواسع اطلاعه، إلى جانب إجادته فن رسم "الكاريكاتير"، ومعرفته بمبادئ كثير من علوم الفيزياء والفلك والآثار والتاريخ.

وثمة من يقول إن "التركيبة الفكرية" لسان سانص، وما اتسم به من موسوعية الثقافة، كانت وراء كل محاولاته الرامية إلى تطوير الموسيقى الفرنسية في القرن التاسع عشر والإفلات بها من ربقة تأثير الموسيقى الألمانية التي كان تأثر بها شديد التأثر. وننقل عن الدكتور زين نصار ما كتبه في كتابه "دراسات موسيقية وكتابات نقدية" حول أن، "سان سانص هاجم الموسيقار الألماني ريتشارد فاجنر عندما شعر بخطر موسيقاه وتأثيرها المسيطر على الحياة الموسيقية في فرنسا. وقد وجدت الموسيقى الفرنسية في سان سانص مؤلفاً يمتلك عدة فنية من الطراز الأول، إذ سيطر سيطرة كاملة على كل الصيغ والأساليب الموسيقية. وعلى الرغم من أنه فرنسي فقد كان عالمياً. وكان لمؤلفاته المتنوعة تأثيرها السريع في فتح آفاق أوسع للموسيقى الفرنسية، فقد نافس مؤلفي الموسيقى الألمان في ميدانهم، وبذلك شجع المؤلفين الفرنسيين الآخرين الذين رغبوا في تلك المنافسة".  

حياة شخصية

لم يحالف التوفيق العبقري الفرنسي في حياته الشخصية مثلما كان حليفه في طريق الإبداع والتميز. تأخر زواجه حتى الأربعين من العمر. اختار شقيقة أحد تلاميذه، ولم يكن عمرها يزيد على التاسعة عشرة، لكنه سرعان ما انصرف عنها إلى مزيد من الإبداع ومواصلة تجواله ورحلاته الخارجية التي طالت كثيراً في روسيا وسويسرا. رفع سقف روائعه بإنجازات جديدة تمثلت في أوبرا "شمشون ودليلة"، وكونشرتو البيانو رقم 4، أوراتوريو "الطوفان" وإبداعات أخرى كثيرة. والأوراتوريو هو "أحد أشكال المؤلفات الموسيقية الغربية، يقترب من الأوبرا من حيث الطبيعة الدرامية للموسيقى، إلا أن مواضيعه دينية، ومن أهم عناصره الإلقاء، والألحان، والكورس والأوركسترا".  

أنجب طفلين، لكنه لم يعرهما اهتماماً كثيراً. ولعله لم يكن غريباً أن تكون النهاية كارثية. وكان فقد الأول في حادث سقوطه من الطابق الرابع، ولم يكن تجاوز العامين من عمره، بينما توفي الثاني بعده بشهر ونصف الشهر، متأثراً بمرض لم يعرفوا له علاجاً. ولم يكن زواجه الثاني أسعد حظاً من الأول، حيث توفيت زوجته الثانية مع طفلها من جراء اشتعال نيران شجرة الميلاد التي التهمت الأم مع وليدها الصغير. وكان ذلك كافياً لأن يفقد العبقري الفرنسي كثيراً من وقاره واستقراره. فقد الرجل كثيراً من مكانة الماضي، وانصرف إلى البحث عن السلوى والملاذ في حفلاته مستذكراً بداياته كعازف بيانو متميز، وقائداً للأوركسترا. لكن الزمن لم يمض به طويلاً ليلحق بسابق ذويه، متأثراً بنوبة قلبية أصابته خلال إحدى زياراته الأخيرة للجزائر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة