Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لا تأمن لمن يغريك بعرض يرفضه عقلك... وتذكر فضيحة مادوف

يجب أن نتوقع حالات مقبلة تكون شبيهة بها وبفاجعة "غرينسيل" وتأتي عبر شركات جيدة الأداء لكنها مبنيّة على رمال الاحتيال

تطلّب المخطط الاحتيالي للمخادع بيرني مادوف، استمرار حصوله على عملاء جدد كي يغطي بأموالهم وعوداً براقة أعطيت إلى من سبقهم (أ ف ب)

لا بد من أن تنهي وفاة بيرني مادوف واحداً من أكثر الأحداث تلطخاً في التاريخ الحديث للتمويل.

لكنها لن تفعل. إن وفاة مادوف في سجن أميركي حيث كان يمضي حكماً بالسجن لـ150 سنة بعدما دافع عن نفسه عبر إقراره بالذنب [أثناء محاكمته] في 2009، معترفاً بأنه أدار مخطط احتيال ممنهج عملاق، من النوع الذي يُسمّى بـ"مخطط بونزي"، يستند إلى دفع أموال يأخدها من عملاء جدد كي يقدّمها إلى عملاء سبق أن استدرجهم، بدلاً من أن تكون أموالاً من أرباح فعلية، عبارة عن تذكير حاد بحالات الفشل التي تصيب نظاماً معدّاً في الظاهر كي يمنع عمليات احتيال كهذه.

فقد تدفق نحو 170 مليار دولار عبر دفاتر شركة "برنارد إل مادوف إنفستمنت سيكيوريتيز" Bernard L Madoff Investment Securities، ومرّ كثير من هذا المال عبر مكتبها في لندن، الذي أدى دوراً محورياً في الاحتيال. وخسر حوالى خمسة آلاف مستثمر أكثر من 21 مليار دولار. وعندما أُغلِقت أعماله، بقي أقل من مليار دولار.

ولم تكُن تلك المخادعة جريمة وقعت بين عشية وضحاها، ولم تكن حدثاً يجري مرة وحيدة. لقد استمر برنامجه طيلة عقدين من الزمن على الأقل، وربما لمدة أطول. وفي النهاية، وبعدما أفزع انهيار "ليمان براذرز" الأسواق، سُدَّت الطريق أمام مادوف، إذ لم يعُد لديه ببساطة، عدداً كافياً من العملاء الجدد الذين قد يلجأ إليهم للحصول على الأموال الجديدة، من أجل إرضاء العملاء القدامى والمضي في عيش الكذبة.

وعلى الرغم من ذلك، امتلك أحد هوامش الحرية الأكثر استثنائية، إذ لم يكن معروفاً ولا يجذب الانتباه خارج قطاع الاستثمار، لكنه اعتُبر بطلاً في دواخل ذلك القطاع لأنه مدير صندوق بدا قادراً على صنع المال، وشخص يمكن الاعتماد عليه دوماً في تحقيق عوائد جيدة وثابتة.

والواقع أن كل ما فعله مادوف هو أنه قرر حجم الربح الذي أراد الحصول عليه، ثم انتقل إلى استخدام البيانات التاريخية عن تسعير الأسهم بهدف تركيب الخداع الذي اشترته شركته وباعته بالأسعار اللازمة لإنتاج رقم الربح الذي سعى مادوف إليه. وكانت وثائق التسويات مزورة وبيانات العملاء متلاعب بها من أجل إثبات الخداع.

كذلك أدار مادوف الأعمال أيضاً من خلال جذب عملاء محتملين إليها، عبر مقاربتهم وإجراء محادثة هادئة معهم والسماح لهم بدخول منجمه الذهبي الصغير، الأمر الذي جعلهم يشعرون بالامتياز والاختيار. ووقعوا بأعداد كبيرة ضحية الإيقاع الخاص بـ"العم بيرني" الدمث السلوك والهادئ الكلام والمطمئن.

وأكد المخادع أنه فعل ذلك بنفسه، على الرغم من كونه أمراً منافياً للعقل. وكذلك فرض ذلك عليه ضرورة أن يتلقّى المساعدة، وكثيراً منها. ونسج مادوف شبكته سنة بعد سنة، وصدّقه كثيرون.

وهنا لا بد من أن تجبر قصة مادوف عدداً من الناس في القلب التجاري للندن ووول ستريت وأماكن أخرى، على إلقاء نظرة فاحصة وطويلة على أنفسهم. كان دليلاً حيّاً على القول المأثور، الذي كثيراً ما يُقتبَس في جلسات التعاملات المالية، ومفاده بأنه إذا كان شيء ما "أفضل من أن يُصدَّق، سيكون كذلك عادةً". لكن في واقع الأمر، لم يسعَ أحد إلى التشكيك في أدائه [مادوف] المربح على نحو ثابت.

وإذ نأوا عن التدقيق في الأمور، فقد تدافعوا كي يستثمروا في نجاحاته [مادوف] الواضحة. والحقيقة أن الأموال في عدد من الحالات لم تكن أموالهم، بل أموال عملائهم. وهناك عبارة أخرى محبوبة في مجتمع الاستثمار تتبادر إلى الذهن، وهي "أموال الآخرين". ولو أنهم ضخّوا [إلى مادوف] مدخراتهم التي كسبوها بشقّ الأنفس، فلربما فكروا مرتين وبذلوا بعض العناية الواجبة في شأن الرجل الذي بدا عبقرياً في سوق الأوراق المالية. ولكن، ما سارت عليه الأمور فعلياً، تمثّل في أنهم لم يبالوا. وتلخّص كل ما فعلوه في فرض رسوم إدارة دسمة على عملائهم نظير ذكائهم في انتقاء مادوف.

وعندما انهارت الأعمال، تعرّض مدير صندوق أعرفه في لندن للمساءلة من قبل اثنين من عملائه البريطانيين في شأن السبب الذي جعل أموالهما تذهب إلى مادوف، ولماذا لم يُجرَ أي تدقيق. وردّ مدير الصندوق بأنه نقل أموال العميلين إلى مؤسسة أخرى لإدارة الاستثمار، وأن تلك المؤسسة هي التي وضعت أموالهما مع مادوف. وبحسب كلماته، "لا تلقيا اللوم علينا. ألقوا اللوم على تلك المؤسسة، إذ توجّب عليها أن تكون على اطلاع". كان الافتقار إلى الندم مدهشاً، لكنه جاء نموذجياً للغاية. كانت الأموال هي "أموال الآخرين".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في المقابل، يتمثّل ما سلط عليه مادوف الضوء في أنه ما دام كل شيء في المضمار يشير إلى أعلى، فالأمر على ما يرام. ولا تكون الشروح مطلوبة إلا حين يشير الخط إلى أسفل. وبعدها، يبدأ العمل على التعويض.

كم مرة يجب أن نشهد سلسلة الأحداث ذاتها؟ نحن نرى الأمر مرة أخرى، الآن مع "غرينسيل". وعندما سار أداء شركة التمويل تلك على ما يرام، أبدى كل شخص في القلب التجاري للندن والحكومة ووسائل الإعلام، إعجابه بها. وحين سار أداؤها في الاتجاه المعاكس، وقع الانفجار وانهار كل شيء. وفي حين ننكبّ حالياً على سقطة "غرينسيل"، يجب أن نبحث عن الحالات المقبلة الشبيهة بـ"غرينسيل" ومادوف، أي الشركات ذات الأداء الجيد لكن المبنيّة في شكل مماثل على رمال الاحتيال.

من الناحية النظرية، من المتوقع أن نعتمد على المحاسبين في التحقّق من دفاتر الأستاذ واختبار الأرقام والكشف على الأسس. لكن بأمانة، كم مرة يحدث ذلك؟

في سياق متصل، إن الهيئات الإشرافية ليست على قدر المهمة، وقد بيّن مادوف ذلك، ولم يتغير شيء في ما يتصل بتعزيز الثقة. لقد بدت الأرقام والسجلات التي عُرضت على تلك الهيئات سليمة. وذكر مادوف هذا، وأورد مستشاروه هذا، وحتى عملاؤه أفادوا بهذا (كانوا يتمنون له التقدم، ويتمنون له النجاح). ما الذي كان من شأنه إثارة الشبهة؟

في الواقع، اشتبه بعض العملاء في الأمر واختاروا التزام الصمت. ويقدّم هذا مثلاً آخر على السلوك المصرفي الفاضح الذي يلقي مادوف الضوء عليه، بمعنى ألا يتحدث أحد خوفاً من انقلاب قطار الأرباح وخوفاً من الوصم بالصراحة، إذ لا يقدّر القلب التجاري للندن وبورصة "وول ستريت" والمصارف والمحامون والمحاسبون وشركات التأمين ومستشارو العلاقات العامة الذين يشكلون سلسلة المشجعين والممكّنين كلها، [لا يقدّرون] أولئك الذين يطلقون التحذيرات. ومن اللحظة التي يبدأ فيها المرء العمل في أماكن كهذه، يُقَال له أن يصمت، وألا يقول شيئاً لا يحق له ذكره. وهذا يعني أيضاً أداء دور الغبي، إذ تدفع الأنباء السيئة سعر السهم إلى الانخفاض، فتضرب سمعته. هل تسمعون ما أقوله؟

ومن ناحية أخرى، تتصاحب تلك الأمور كلها مع خوف جماعي في قطاع الاستثمار من الفشل. لقد أمرتهم غريزة القطيع بأن يستثمروا مع مادوف والانضمام إلى الحفلة والانتساب إلى العصابة. لكن الذهاب إلى العكس، يدعو إلى الاستهزاء والسخرية. "هل أنتم جادون، لقد رفضتم الاستثمار مع بيرني؟".

وعند مواجهته، ولم يكُن من الممكن تجاهل المحقق، أخبرهم مادوف بأنهم قادرون على الاحتفاظ بأموالهم. وحتى في ذلك الوقت، لم يحذّر الذين انقلبوا عليه البقية، فيما عمد البعض إلى التحذير لكن ليس بالقدر الكافي. وحتى آنذاك، وضعت مخاوفهم [الذين حذّروا] موضع تجاهل إلى حدّ كبير.

وفي صورة مجملة، ربما قُصد من الحكم الطويل إلى حد لا يُصدّق الذي أُنزل بمادوف، أن يكون مشجعاً. لكن من المؤسف أن هذه القضية لم تخدم كوسيلة في تشجيع التغيير الشامل في المواقف والإصلاح الشامل. وفي غياب ذلك، سيظهر مزيد من أشباه مادوف، ربما ليس بشهيته الكبيرة، لكن سيظهر مزيد منهم. وربما ذهب [مادوف]، لكن العيوب التي كشف عنها بوضوح لا تزال موجودة.

© The Independent