Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمد إبراهيم طه يُعرّي دواخل النفس في مرآة السرد

قصص "الأميرة والرجل من العامة" عن الفقد والحزن الشفيف

لوحة للرسام حسام بلان (صفحة الرسام على فيسبوك)

حين يمارس الحب شططه، ويسلك القلب طريقه بمنأى عن بوصلة العقل؛ تقع الأميرة في حب رجل من العامة، وتقع في النفس دهشة، تلحُ الأسئلة: هل ستتقاطع المصائر؟ هل تتلاشى مسافات المستحيل؟ أم سيكون الفراق خاتمة الحكايات، والفقد تيمة تجمعها؟

بعنوان شائك يثير مثل هذه الأسئلة هو "الأميرة والرجل من العامة" (دار النسيم – القاهرة)؛ توّج الكاتب المصري محمد إبراهيم طه مجموعته القصصية، لكنه لم يترك قارئه كثيراً في هذه الحيرة، وإنما عاجله بخيط يهدي إلى الجانب الذي انحاز إليه، عبر استهلال بإهداء لتلك التي "لم تأتِ".

قسّم الكاتب مجموعته إلى قسمين، سلك في كليهما طرقاً شائكة، فاشتبك خلالها إما مع المرأة كما في القسم الأول "أيام العباءة الفوشيا"، وإما مع العالم كما في القسم الثاني "أسباب للشروع في البكاء". لكن القصص جميعها تقاطعت في طغيان الحالة الشعورية ذاتها من الفقد والحرمان والغياب.

 في مرمى النظر

في قصته "أيام العباءة الفوشيا" يصدّر الكاتب منذ الوهلة الأولى حالة من الضبابية والالتباس، إذ يمضي فوق خيط رفيع مفخّخ بالألم؛ يفصل بين المتناقضات، بين عقل وعاطفة، قبول ورفض، جائز ومستحيل، بين غرق ونجاة، لتشتعل حالة من صراع داخلي لدى الراوي المدجّج بعشق أخت زوجته. تلك التي سبقها إليه أحدهم، ثم عادت أرملة بعد زواجه من أختها التوأم، ليبدأ شقاؤه الذي يبلغ مبلغه بين إتاحتها واستحالتها في الوقت نفسه. فبينما يظن أنه يقيم إليها جسراً؛ تقيم المقادير سياجاً من المحارم، وعبر هذا الصراع يقبض الكاتب على مشاهد لا تُرى من داخل النفس الإنسانية ويصبغها بإمكانية الرؤية، فيصبح جحيم الشخوص وما يعتمل في دواخلها؛ في مرمى النظر.

تستمر التيمة الرئيسية من الفقد واستحالة الوصول، وتخيم ظلالها على أجواء بقية قصص المجموعة، ففي قصته "التفاتة أخيرة"، تضع المقادير حائلاً آخر بين الراوي وبين امرأة قادتها إليه المصادفة، ليلتقط لها ولابنها بعض الصور. شرارة ما انطلقت، وبدت أكثر وضوحاً صورة بعد أخرى، ليقاطع الطفل الشرارة النامية في الصورة الخمسين، وتنصاع الأم للغياب بعد أن تمنح الراوي التفاتة كان عليه أن يوثقها، لكنه لم يفعل.

تصورات ميتافيزيقية

هكذا ينهض السرد على تصورات ذات طبيعة ميتافيزيقية تحيل اللقاء والفراق إلى قوى غيبية، تجلت سطوتها مرة أخرى في قصة "هل كنّا على موعد؟"، حيث يُساق الراوي للقاء فتاة لا يعرفها، تدفعه للإبحار في رحلة عكسية نحو ماض ما زال يتوسّد الذاكرة، فتستدعي لديه طيف امرأة أخرى كان ينبغي لها أن تكون زوجته. لكن الأقدار أبت وأخذتها بعيداً، ثم عادت لتسخر منه، وتكشف عن هوية الشابة "ابنة الحبيبة القديمة"، في لقاء تكفّل الزمن وحده بتهيئته وترتيبه.

استمر السرد في بث صور الفقد والغياب عبر مناخ من الرومانسية الحالمة. وتخللت الأحداث لمحات من الفانتازيا، ربما كانت الغاية منها سحب القارئ لمنطقة يقف بها الراوي، تتوسط الحقيقة والوهم، كما في قصة "رائحة البرتقال"، وقصة "سجل الزيارات". وعلى رغم تجسيد ألم الفقد الذي تجلى في معاناة الشخوص؛ بالمرض مرة والنشيج مرة أخرى وبالصخب الداخلى الذي يغلفه الصمت مرات، أبى الكاتب أن ينتهي قسمه الأول إلا باختبار الحياة.

في قصته "كتاب قد لا تطلع عليه الأميرة"، يلتقط الراوي صوراً لزوجته تشي بحملها. والحمل كما يخبر السرد – صراحة - يحمل فكرة استمرار العالم، وفي الوقت نفسه يشي بفلسفة الكاتب التي أراد بثها ضمناً؛ من أن الفقد والغياب لا يعيقان استمرار الحياة، وأن هناك أملاً يولد، وأسباباً للفرح.

حضور اللون

استعان الكاتب بالحضور اللوني ليعكس سيكولوجية الشخوص، وربما كان يعكس جانباً من ذاته عبر استخدامها. فكان "الفوشيا" وسيلته لإبراز الدفء والمشاعر الحالمة، وجاء اختياره متسقاً مع المناخ الرومانسي الذي يغلف الأحداث، وربما كان التأثير الروحاني للون وارتباطه بالأنوثة والرعاية؛ دافعاً أكبر لإبرازه في الكثير من قصص المجموعة، كما كان بمثابة منحة الكاتب لشخوصه من الطبقات الاجتماعية على اختلافها، إذ استطاع من خلاله رد شخوصه إلى فطرتها وإلغاء الفوارق بينها، لا سيما أنه حرص على التقاط مشاهده القصصية من طبقات اجتماعية وثقافية متنوعة، في ما يشبه بانوراما واقعية تجمع أطياف عدة من المجتمع.

"أسباب للشروع في البكاء" كان عنوان القسم الثاني من المجموعة القصصية؛ انتقل خلاله الكاتب إلى نطاقٍ أكثر اتساعاً من الاشتباك مع العالم، متكئاً على الرمز كوسيلة؛ رصد عبرها بعض قضايا الواقع، لا سيما في القصة التي تحمل العنوان ذاته، والتي بثّ خلالها هواجس الافتقار إلى الأمان، وقبح واقع يطمس صفات الحلم والمسالمة، ويعملق الخوف من المستقبل الذي ينتظر الأبناء.

وبدت قصة "مدينة الصمت" تتمة لها، فالراوي الذي أرهقته المدينة الصاخبة بأسباب أرغمته على البكاء؛ استسلم للنزوح إلى مدينة لا يسكنها إلا الموتى، ونباتات الصبار وزائرو الليل بملابسهم البيضاء الفضفاضة. وقد نجح الكاتب في هذه القصة، وفي غيرها من القصص التي تخللتها اللمحات العجائبية؛ في أن يمزج بين الفانتازيا والواقع في سرد متناغم يحقق اكتمال الأثر.

النزعة الصوفية

إلى جانب الرمز غلبت النزعة الصوفية على السرد، وبدت جلية في قصة "صاحب المكان"، فالراوي هائم على وجهه في طريق لا يعرفه، تاركاً خلفه الزحام والصخب، حاملاً في روحه الأمل في الوصول. وقد أجاد الكاتب استخدام اللغة المشهدية في تصوير الحدث والمكان، مستخدماً مفردات تعزز الحالة الصوفية المسيطرة على السرد. واستطاع أن ينفُذ بتكنيكه البصري إلى بؤرة الشعور، ليلتقط صوراً من داخل النفس الإنسانية، فيرسم ضلالها وحيرتها، تيهها وتذبذبها، إرادتها التي تتراوح بين التقدم والتقهقر في طريقها إلى الخلاص.

الحالة الصوفية ذاتها تجلّت مرة أخرى في قصة "الرجل بالرداء الأبيض والناي"، فالراوي يتوحد مع عزفه حد الانفصال عن الزمان والمكان والشخوص، يصدر الناي ترنيمات مقدسة، بينما تدور الكاميرا فتوهم بدوران جدران المعبد، ويصبح للحكي أثر رقصة صوفية "التنورة" تصعد – في دورانها- بالجسد إلى السماء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في القسم الثاني، بدت قصة "الأميرة والرجل من العامة" وكأنها منتزعة من القسم الأول. فقد عاد الكاتب لإبراز الحضور الأنثوي، وجعل المرأة قضيته وأحد المحاور الرئيسة والمكملة للسرد. لكن النقص الذي يبثه الفقد والغياب في القصص الأخرى، استحال إلى اكتمال في هذه القصة، فالقدر كان حانياً ومنح رجلاً من العامة رفقة الأميرة، وإن لم يعجب الأمر الحكيم ولم ينصح به.

ثم ما لبثت أن تحولت هذه الرفقة إلى عداء، ربما أراد منه الكاتب أن يبرز جمالاً للفقد والحرمان؛ ما دام يحفظ للمفقود بهاءه ولا ينقله من خانة الحبيب إلى خانة العدو. وقد استخدم الكاتب في هذه القصة استهلالاً تراثياً "ذات يوم التقينا" ومزجه بصفات عصرية للأميرة "كانت رشيقة ببلوزة فوشيا على بنطال جينز" (ص65)؛ ليمرر رؤيته باستمرار إشكالية هذه العلاقة العابرة للأزمان، على نحو يجعل منها معضلة أزلية وإن اختلفت الوجوه، وعزّز هذه الرؤية باستخدامه تقنية الحوار المسرحي بكثافة ليحقق مزيداً من الإيهام بالحدوث.

يعود الكاتب ويشتبك مع العالم في قصتي "مدينة الصمت"، "أسباب مشروعة للبكاء"، وختم مجموعته بومضة أخرى من الحزن الشفيف في "تصريح لزيارة الجدة"، لكنه تعمّد في أغلب السرد تجنبَ استدعاء الأشياء بأسمائها الصريحة، واعتمد الطرق الأكثر فنية باستدعاء ما يحيل إليها؛ ربما ليخفف من وطأتها. ففي قصته الأخيرة لم يورد اسم "مستشفى سرطان الأطفال" واكتفى ببعض مدلولاتها... "أشار الأب إلى توكتوك وهمس في أذن السائق، فسار بهما قليلاً، وحين لمح الولد على البعد الكرة الزجاجية الكبيرة الخضراء، تذكّر المكان الكبير الذي كان قد رآه على التابلِت منذ قليل، فعاود البكاء متوسلاً" (ص99).

وعلى رغم حالة الحزن التي بثّها الكاتب في رسم الأحداث والشخوص، فإنه أوجدَ للدعم والرعاية والأمل موضعاً، في "طاقية فوشيا" تغطي أذني الطفل المحمول على كتف أبيه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة