هناك عداء واضح يبديه النقاد ومؤرخو الأدب الإنجليز منذ أواسط القرن التاسع عشر تجاه الكاتب الأميركي جيمس فينيمور كوبر (1789 - 1851) يقابله تبجيل فرنسي واضح له. ويعتقد كثر من الناس أن سبب ذلك الموقف وقوف كوبر على الأقل في روايته الأشهر "آخر الموهيكان" إلى جانب الفرنسيين على الضد من الإنجليز في وصفه للحرب التي كانت مندلعة بين الطرفين الكولونياليين في أميركا الشمالية أواسط القرن الثامن عشر، ودامت سبع سنوات لتشكل الخلفية التاريخية للرواية. لكن هذا لم يكن صحيحاً، لأن الرواية تندد بالطرفين معاً بوصفهما مستعمرين، وبأنصارهما من المستوطنين كما من سكان البلد الأصليين (الهنود الحمر). أما إذا كان ثمة طرف تناصره الرواية وتشيد بأخلاقه وتفاعله مع الطبيعة، فإنما هو نوع محدد من الهنود الحمر. وكان هذا جديداً على الأدب، سواء كان أميركياً أو غير أميركي. صحيح أن الشخصية المحورية في الرواية هي شخصية شاب أبيض، لكن هذا كان منذ طفولته ومنذ مقتل والديه، قد احتُضن من جانب الهنود الموهيكان فرع التشينغاشكونك، وعاش بينهم لتنمو صداقاته في أوساطهم ويتخلق بأخلاقهم. ومن هنا لئن كان بطلنا المعروف بعين الصقر (هاوك آي) يشارك في الحرب كما يفعل معظم المستوطنين والهنود موزعين في انتمائهم بين الفرنسيين والإنجليز، فإنه يخوضها مع صديق له هندي تربى معه، كمشارك في مهمات محددة دون أن يكون مناصرا لأي من الطرفين. بالنسبة إليه الطرفان لا يستحقان مساندة. وحدهم الأبرياء يستحقونها ومن هنا نراه هنا يشارك في حماية ابنتي كولونيل يتطلب الأمر إيصالهما إلى حصن أمين وسط مخاطر الحرب وتقلبات الطبيعة.
واحدة من خمس روايات
تنتمي رواية "آخر الموهيكان" إلى سلسلة روائية كتبها كوبر بين 1823 حين أنجز "الرواد" كفاتحة للسلسلة، و1941 حين نشر "صائد الأيل"... مصدراً بينهما ثلاث روايات أخرى هي "آخر الموهيكان" (1826)، و"البراري" (1827)، و"بحيرة أونتاريو" (1840). ولئن كان النقد قد نظر بشكل متفاوت إلى هذه الروايات التي تشكل معاً سلسلة تكاد تكون متواصلة تحت عنوان واحد هو "جامع الجلود" متحدثة عن فصول متنوعة ومتتالية من حكاية الصياد الأبيض وصديقه الهندي اللذين يذرعان الغابات بحثاً عن الحيوانات لسلخ جلودها غير عابئين بأي خرق للقوانين فلا يقتلان حيواناً إلا حين يحتاجان لحمه طعاماً لهما، لكنهما بين الحين والآخر يقومان بمهام يكلفان بها غير عابئين بما يدور حولهما من صراعات وتضارب سياسات. إنهما يعيشان معاً ملتحمين بالطبيعة التي بدورها لا تبخل عليهما. وهذا البعد يتحدد على أية حال منذ الحلقة الأولى من السلسلة، "الرواد" التي تدور أحداثها في بلدة متخيّلة تسمى "تمبلتون"، وتكاد تكون صورة عن بلدة كوبرستاون التي تربى كوبر، المؤلف، فيها، ما يضفي على بعض أجواء السلسلة قسطاً من السيرة الذاتية غير المؤكدة. وفي تلك البلدة يعيش صياد عجوز يدعى "قدم الجلد" على هامش المجتمع المتشكل من حول دارة القاضي تامبل حارس القوانين في المكان. ولئن كانت ثمة سياسة هنا، فإنما هي سياسة على الطريقة اليونانية محصورة في الشرائع الذاتية المسيّرة لحياة البلدة، وربما يدور معظمها من حول الصيد في الغابات القريبة وهو صيد تدور شؤون البلدة من حوله بشكل يصف لنا الكاتب به الفارق بين الهنود وأصدقائهم من ناحية والمستوطنين من ناحية أخرى، فالأول لا يصطادون إلا لكي يؤمنوا غذاءهم، فيما الآخرون يصطادون للتجارة بالجلود واللحوم بل حتى للذة الصيد والقتل وحدها.
بطولة من نوع آخر
وعبر هذا الرصد يكون الانتقال إلى "آخر الموهيكان" حيث، وكما لاحظنا، ينتمي هاوك آي وصديقه الهندي إلى الفئة الأولى، وتحديداً إلى الفئة التي تحظى بتعاطف الكاتب في تضادها مع الفئة الثانية بحيث شكل دخول الفئة الأولى عالم الأدب عبر سلسلة روايات جيمس فينيمور كوبر جديداً، في عوالم كانت لا تتوقف منذ ولد "الأدب الأميركي" كاستمرار للنوع الشعبي من الأدب الإنجليزي، عن الإشادة بالمستوطنين ووصف معاناتهم وبطولاتهم بما في ذلك تصوير سكان البلاد الأصليين كهمجيين قساة على مثال مسبق لتلك الصورة التي سوف تهيمن لاحقاً على السينما الأميركية الشعبية، وتظل هي الصورة الرائجة طوال عقود حتى جاءت سنوات الستين والسبعين من القرن العشرين، لتقلبها جذرياً مع أفلام مثل "الرجل الصغير الكبير" و"الجندي الأزرق" بعدما كان جون فورد قد عدل صورة الهنود الحمر بعض الشيء في عدد من أفلامه. بيد أن هذه حكاية أخرى حتى وإن كان من الضروري القول إن رواية "آخر الموهيكان" قد أسهمت في تأسيس صورة سينمائية منصفة للهندي الأحمر في اقتباسات سينمائية عديدة لها، بدأها دافيد وورك غريفيث عام 1909 بـ"جامعي الجلود" الصامت وختمها مايكل مان في العام 1992 باقتباس ليس للرواية مباشرة بل لفيلم كان اقتبس عنها عام 1936!
وبعيداً من الاقتباسات السينمائية التي يمكن أن يصل عددها إلى أكثر من 12 اقتباساً، ويمكن أن نضيف إليها ما يماثلها من اقتباسات تلفزيونية واقتباس أوبرالي وحتى كتب شرائط مصورة، تبقى لهذه الرواية، وهي الوحيدة التي حققت نجاحات هائلة من بين الحلقات الخمس، تبقى لها أهميتها في تبديل الصورة النمطية التي رسمها المستوطنون لـ"أعدائهم" من الهنود الحمر، تلك الصورة التي لم يخفف من وقعها خلال النصف الثاني من القرن العشرين، سوى إبدالها بصورة نمطية للسود في وقت تضاءل فيه الاهتمام بتصوير الهندي، إذ جرى إما دمجه في المجتمع وإما تحييده عبر غيتوات أقيمت له مع بعض امتيازات مخدرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صورة مزدوجة
كما أشرنا، كانت رواية "آخر الموهيكان" وتبقى، حتى خارج اقتباساتها، أنجح أعمال كوبر. وهي، لكثرة ما قرئت بلغتها الإنجليزية الأصلية ومترجمة إلى عدد كبير من اللغات، تمكنت بالتأكيد من إحداث ذلك التبديل الأساسي في النظرة إلى الهنود الحمر من ناحية، ومن ناحية ثانية في التعاطي مع تاريخ كان مجهولاً حتى ذلك الحين، تاريخ "الحدود" في المناطق الشرقية للولايات المتحدة الأميركية. ومن هنا ما يراه البعض من أن "آخر الموهيكان" بالتحديد، ينبغي أن تعد أول رواية أميركية حقيقية. ولعل أجمل ما في هذه الرواية هو الصورة المزدوجة التي تقدمها، من ناحية لرجل الحدود الأبيض القوي النزيه الذي لا يهاب المخاطر وكلمة الحق، ومن ناحية ثانية للهندي الهادئ والعميق والمتأمل والنبيل، في شخص تشينغاشغوك، رفيق البطل الأبيض منذ طفولتهما.
مهما يكن من أمر، لا بد هنا من الإشارة إلى أن كوبر لا يبدو في أي من رواياته الخمس ذات الحكايات والمغامرات المتواصلة، مستلهماً أي أدب آخر سبقه في الظهور في الساحة الأدبية الأميركية، بل إن إلهامه الأساسي وبحسب ما روت ابنته الكبرى سوزان لاحقاً، إنما أتى من معايشته لطبيعة الأمكنة التي ستدور أحداث رواياته فيها، ومنها بخاصة "ليك جورج" و"غلين فولز" وهي أماكن زارها مراراً وتكراراً عشية شروعه في كتابة "الرواد" قبل أن يوسع دائرته بشكل يجعل من الطبيعة بطلاً ثالثاً للروايات إلى جانب هاوك آي ورفيقه.
مارك توين ناقداً
منذ صدور الروايات تباعاً امتدحها كثر من النقاد ،لا سيما في أوروبا، حتى وإن كان ثمة كثر انتقدوا لغة جيمس فينيمور كوبر المسهبة. وكان من هؤلاء الكاتب مارك توين الذي ركز مآخذه على كون "كوبر يستعمل مئات الكلمات للتعبير عن أمر قد لا يحتاج إلى أكثر من عشرين كلمة"، لكن توين لم يفته أن يشيد بالمضامين التي اشتغل عليها الكاتب و"كانت جديدة تماماً في نزاهتها وإنصافها". ولعل في إمكاننا القول أن توين كان في امتداحه هذا لكوبر، يغمز من قناة النقاد الإنجليز الذين بأكثر مما أغاظهم وصف كوبر السلبي للمستوطنين الإنجليز، أساءهم وصفه للإنجليز أنفسهم في أكثر من كتاب في أدب الرحلات الذين "غزاهم" في عقر دارهم، ولم يبد أي إعجاب بهم، على عكس وصفه الإيجابي للفرنسيين إثر جولة أوروبية قام بها خلال السنوات التي كتب فيها السلسلة وقادته إلى بضعة بلدان أوروبية ونتج عنها عدد لا بأس به من كتب أدب الرحلات.