بعد مضي أقل من أربعة أشهر على الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، في يناير (كانون الثاني) الماضي، ووسط مخاوف كبيرة وتحذيرات جادة من خروج الأوضاع تماماً عن السيطرة، تجددت الاشتباكات الدموية العنيفة بين ميليشيات قبلية هناك. وشهدت الأحداث تطوراً نوعياً هذه المرة، باستخدام الأسلحة الثقيلة والقذائف الصاروخية، وسط تحذيرات من أزمة إنسانية وصحية، قد تلازم الأحداث وما تبعها من انفلاتات أمنية واسعة في المدينة.
وبلغت حصيلة ضحايا الاشتباكات المستعرة داخل الجنينة، والمستمرة بالوتيرة العنيفة ذاتها لليوم الثالث على التوالي، حتى صباح يوم الثلاثاء 6 أبريل (نيسان) الحالي، وفق تصريح محمد زكريا، والي الولاية بالإنابة لـ"اندبندنت عربية"، أكثر من 35 قتيلاً و80 جريحاً، وهي مرشحة للزيادة بسبب استمرار الاشتباكات والقتال منذ مساء الأحد (4 أبريل)، من دون أن تتمكن الأجهزة الأمنية في الولاية من السيطرة عليها منذ نشوبها.
قتلى ورعب وحرائق
ونقل الجرحى والمصابون إلى مستشفى الجنينة التعليمي ومستشفى السلاح الطبي، وبعض المستوصفات الخاصة بالمدينة، لتلقي العناية الطبية، وأجريت عمليات جراحية عاجلة عدة، وما زالت المستشفيات تستقبل المزيد من الضحايا الجرحى والمصابين، كما يسمع دوي أصوات الرصاص داخل الأحياء والطرقات، وفي منطقة حي الجبل والجمارك جنوب غربي المدينة على وجه الخصوص.
وأحرقت خلال الأحداث أحياءً سكنية وأسواق ومحلات تجارية، وتصاعدت ألسنة اللهب والدخان مخلفةً أجواء حرب كئيبة، أدت إلى شلل تام في المدينة، وحولتها إلى مدينة أشباح وجحيم من الذخيرة، تسيطر عليها رائحتا الدم والبارود، وتحركات المقاتلين المتربصين من الطرفين المتقاتلين.
وكشف شهود عيان من داخل الجنينة، لـ"اندبندنت عربية"، عن أن حالةً من الرعب والهلع تسود أرجاء المدينة مع استمرار سماع أصوات إطلاق النار من أسلحة خفيفة ومدافع ثقيلة، في عدد من أحياء عاصمة الولاية، وبكثافة أكبر في منطقة الجبل، المجاورة لربوة متحف قصر السلطان بحرالدين، مؤكدين انتشار مجموعات من القناصة على أسطح عدد من البنايات والمناطق المرتفعة في الجبل.
وقال الشهود إن معظم الأسر بأطفالها وشيوخها ظلت محبوسة داخل منازلها، وهي تعيش كابوساً مرعباً جراء تواصل الاشتباكات العنيفة، وإطلاق النار وأصوات الذخيرة ليومين متتاليين. وتداولت وسائل التواصل الاجتماعي صوراً مروعة لعدد من القتلى بالزي المدني وآخرين باللباس العسكري، داخل سياراتهم وفي شوارع المدينة.
أسلحة ثقيلة ومخاوف من تفاقم أكبر
ويتخوف بعض الشهود من وصول مزيد من الميليشيات والمسلحين الموالين للمجموعات المتقاتلة من كلا الجانبين، من مناطق أخرى من داخل وخارج الولاية، لمؤازرة ونجدة عشائرهم وأبناء قبيلتهم، ما ينذر بتفاقم أكبر للأوضاع، ما لم يتم اتخاذ احتياطات كبيرة وحاسمة لتلافيها بالسرعة المطلوبة.
وأبلغ والي غرب دارفور، محمد عبدالله الدومة الموجود في العاصمة الخرطوم، "اندبندنت عربية" في اتصال هاتفي، بأنه دفع بمذكرة عاجلة حول الأحداث الدامية إلى رئيس مجلس الوزراء عبدالله حمدوك، داعياً فيها إلى ضرورة التحرك فوراً عبر عمل عسكري عاجل من الحكومة المركزية لاحتواء الأحداث الدامية المستمرة منذ السبت وحتى يوم الاثنين (5 أبريل)، لتلافي استفحال الوضع المتدهور أكثر مما هو الآن. وأكد الدومة، أن أسلحةً ثقيلة استخدمت في الهجوم الذي استمر ليومين، وتركز على الأحياء والمناطق الجنوبية والغربية من المدينة.
حظر وطوارئ وتفويض للجيش
وعقد مجلس الأمن والدفاع الوطني اجتماعاً طارئاً، في القصر الجمهوري مساء الاثنين، برئاسة رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، اتخذت فيه قرارات صارمة، وتم تفويض القوات النظامية بالحسم والسيطرة على الأوضاع في مدينة الجنينة.
وأعلن المجلس حالة الطوارئ في ولاية غرب دارفور، وأعلن اللواء الركن ياسين إبراهيم ياسين، وزير الدفاع، عقب الاجتماع، عن تشكيل لجنة عليا بتفويض وسلطات كاملة للتعامل مع أي خروقات في نصوص اتفاق السلام.
وقرر المجلس سن تشريعات قانونية خاصة، تضمن للفرد النظامي حسم التفلتات الأمنية بالطرق المشروعة، واحتكار أجهزة الدولة النظامية والأمنية لاستخدام القوة العسكرية، فضلاً عن مواصلة حملة الجمع القسري للسلاح وردع كل من يحمل السلاح خارج الإطار القانوني.
وأوضح ياسين في بيان صحافي أن المجلس قرر "رفع درجة التنسيق بين الأجهزة النظامية والأمنية، وتكثيف وتفعيل العمل الأمني والاستخباراتي ضد الأنشطة الهدامة لحسم المظاهر العسكرية السلبية".
وجدد وزير الدفاع حرص المجلس على تحقيق الأمن والاستقرار في كافة أرجاء البلاد.
وكان المجلس قد استعرض خلال الاجتماع الموقف الأمني، وتلقى معلومات عن الأوضاع بشكل عام، وبصفة خاصة في ولايات شمال وشرق وغرب دارفور، في كل من الجنينة ومنطقة ود السريف بني حسين ومناطق البترول في شرق دارفور، كما أعرب المجلس عن أسفه وترحمه على الأرواح التي أزهقت بسبب النزاع القبلي على النظارات.
الخروج عن السيطرة والإنفلات التام
على صعيد متصل، حذر والي ولاية غرب دارفور بالإنابة، محمد زكريا، من مدينة الجنينة، الاثنين، من مغبة خروج الوضع عن السيطرة، وحدوث انفلات شامل، نتيجة استمرار الاشتباكات الدموية، وعدم تمكن القوات الأمنية بالولاية، من السيطرة عليها، على الرغم من جهودها، مبيناً أن "وصول القتال إلى داخل الأحياء، وسط المدنيين والمناطق السكنية، صعب تدخل القوات الأمنية المحلية، وحد من قدرتها في التعامل معها"، مطالباً بضرورة الاستعجال في إرسال تعزيزات عسكرية كبيرة من الحكومة المركزية، للفصل بين الطرفين واتخاذ الترتيبات اللازمة.
ورجح زكريا أن يتجاوز عدد الضحايا الأرقام المعلنة حتى الآن، نتيجة استمرار القتال، وعدم توفر البيانات والإحصاءات لحصر العدد الفعلي للضحايا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اعتداءات لا تستثني الكوادر الطبية
في السياق ذاته، دانت لجنة الأطباء في ولاية غرب دارفور بشدة الأحداث والاعتداء الذي نفذته "مجموعة من العصابات الإجرامية على سيارة إسعاف كانت تقل عدداً من الكوادر الطبية العاملة في مستشفى الجنينة التعليمي"، مساء الاثنين. وأضافت لجنة الأطباء في بيان أن "إطلاق النار على السيارة، تسبب بإصابة السائق، وتم بعد ذلك إنزال الكوادر وضربهم، ما أدى إلى إصابة اختصاصيين وأحد أفراد الحراسة ونهب كل مقتنياتهم".
واستنكرت اللجنة ما وصفته بـ"التساهل المتكرر والمستمر من قبل لجنة أمن الولاية ووزارة الصحة في توفير التأمين الكافي والدائم للمؤسسات الطبية وحركة كوادرها، ما يهدد بشكل جدي استمرارية تقديم الخدمات الطبية"، مشيرةً في بيانها إلى أن "المؤسسات الطبية ومساكن الكوادر تتعرض لتهديد مستمر في ظل عدم توفر الأمن الكافي".
ودعا ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، الحكومة المركزية في الخرطوم، وحكومة الولاية والأجهزة الأمنية إلى تحمل مسؤولياتهم كاملة في الحفاظ على الأمن وأرواح وممتلكات المواطنين، مطالبين بوقف التصعيد وحملات التحريض التي تغذي خطاب الكراهية وتصب المزيد من الزيت على نار الاحتقان.
هكذا بدأت أحداث العنف
وتعود خلفية الأحداث الراهنة، بحسب الوالي بالانابة، إلى تعرض مواطنين تعطلت عربتهم على مشارف مدخل المدينة مساء السبت الماضي، إلى إطلاق نار من مجهولين، ما أدى إلى وفاة اثنين منهم، وجرح ثالث، بينما فر الجناة إلى داخل أحياء المدينة، من دون أن يتم التعرف عليهم، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات، أدت إلى إشعال شرارة الاشتباكات، إذ هاجمت بعدها ميليشيات قبلية المدينة، في فجر اليوم التالي للواقعة (الأحد)، كنوع من الإنتقام، وتطور الأمر لاحقاً، إلى عنف قبلي شامل، تركز معظمه في البداية بمناطق وأحياء غرب وجنوب المدينة.
خلفية تاريخية من الدماء
وكانت مدينة الجنينة المنكوبة، قد شهدت في يناير (كانون الثاني) الماضي، أحداثاً قبلية دامية مماثلة، بين مكوني العرب والمساليت فيها. وبلغ عدد الضحايا حينها، 83 قتيلاً و160 جريحاً، بسبب مشاجرة بين شخصين في سوق معسكر كريدينق، تحول إلى مواجهات مميتة، سرعان ما اجتاحت كل المدينة. وعقد مجلس الأمن والدفاع الوطني في ذلك الوقت، جلسهً طارئة، أعلن بعدها حزمة إجراءات أمنية وقانونية، لاستعادة الأمن في المدينة وكل الولاية، عبر إرسال تعزيزات أمنية للسيطرة على الأوضاع وحماية المواطنين والمرافق الحيوية، إلى جانب تشكيل لجنة عليا للتقصي والتحقيق في الأحداث وتحديد جذور المشكلة ورفع توصيات في شأنها.