Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اكتشاف أثري ربما يعيد كتابة حقبة ما قبل التاريخ في بريطانيا

التنقيبات تكشف حكاية بطعم الملح ضمن مقاطعة يوركشاير مع إملاءات كبيرة

توحي تنقيبات أثرية بأن بريطانيا سبقت أمم أوروبا الغربية في صناعة الملح (عن د ستيفن شيرلوك)

خلال أعمال تنقيب في ساحل مقاطعة يوركشاير شمال شرقي إنجلترا، اكتشف علماء آثار المجمع الأقدم لإنتاج الملح الذي يعثر عليه في أوروبا الغربية. وبحسب توقعات، سيحدث الاكتشاف ثورة في فهمنا لطبيعة النشاط الاقتصادي الذي شهدته بريطانيا إبان إحدى حقب عصور ما قبل التاريخ.

وقد شُيّد الموقع الذي يرجع تاريخه إلى نحو ستة آلاف عام، المرفق بقمائن (نوع من الأفران البدائية) أو مواقد لصنع الملح، في زمن سابق على ما اعتُقِد (قبل الاكتشاف الأخير) بأنه أقدم "مصنع" ملح في بريطانيا، بحوالى ألفين و400 عام.

وكذلك من اللافت أن الاكتشاف يترك انعكاسات هائلة على معرفتنا بشأن آليات عمل اقتصاد بريطانيا خلال العصر الحجري الحديث Neolithic (العصر النيوليثي هو المرحلة الأخيرة من عصور ما قبل التاريخ). وكذلك يؤشّر إلى أن ذلك الاقتصاد كان في الحقيقة أكبر بأشواط وأكثر كفاءة مما ساد الاعتقاد بشأنه سابقاً.

وبصورة عامة، يعرف عن اقتصاد بريطانيا أنه ارتكز في جزء كبير منه على الماشية. في المقابل، من دون توفّر عنصر الملح، يضحي محالاً تشغيل ذلك الاقتصاد بكفاءة، بمعنى استخدام الموارد على النحو الأمثل بهدف تعظيم الإنتاج.

وبناء على ذلك، يشير الاكتشاف الذي شهدته يوركشاير إلى أن المزارعين الأوائل في بريطانيا استطاعوا إنتاج كمية من الغذاء أكبر كثيراً من الاعتقاد السائد، ما من شأنه إفساح المجال أمام حدوث زيادة سريعة في عدد السكان، ومن ثم تسريع عجلة التغيير الاجتماعي والسياسي في ذلك المجتمع.

وإضافة إلى الاقتصاد، يترك الاكتشاف أيضاً انعكاسات عدة على فهمنا طبيعة النشاط التجاري المبكر الذي شهدته بريطانيا، خلال حقبة من عصور ما قبل التاريخ.

واستطراداً، اكتشف علماء الآثار الذين يتولّون أعمال تنقيب قرب بلدة لوفتوس Loftus في يوركشاير، حتى الآن ثلاثة قمائن لصناعة ملح الطعام، مع قطع متكسّرة من عشرات الأواني الخزفية التي يعتقد أنها استخدمت في عملية الإنتاج.

بعد فحوص علمية خضعت لها تلك الأجزاء المكسورة من الأواني تبيَّن أن أسطحها الداخلية تحمل مستويات عالية جداً من الملح.

"يغيّر هذا الاكتشاف فهمنا بشأن جوانب رئيسة من اقتصاد العصر الحجري الحديث"، بحسب مدير عمليات التنقيب الدكتور ستيفن شيرلوك، وهو عالم آثار لدى الشركة المملوكة للحكومة البريطانية "هاي ويز إنجلترا" Highways England.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأضاف الدكتور شيرلوك أن "الاكتشاف يرجع بتاريخ إنتاج الملح في المملكة المتحدة، علماً أنها عملية صناعية بالغة الأهمية، حوالى 2400 سنة إلى الوراء".

وفي التفاصيل، يُلاحَظ أن يوركشاير لا تحتوي على مصادر للملح الصخري (وعلى أية حال، لم يكن استخراج الملح الصخري يتطلب استخدام قمائن)، لذا يبدو من شبه المؤكد أن الملح المكتشف صنع من مياه البحر.

على الأغلب، اشتملت عملية إنتاج الملح على مرحلتين. تتمثل الأولى في اعتماد الصناع في العصر الحجري الحديث على تحويل مياه البحر إلى محلول ملحي بواسطة عملية التبخر الطبيعي، عن طريق تعريضها للرياح، وأحياناً دفء الشمس. وفي المرحلة الثانية، استخدم أولئك الصناع قمائن أو مواقد بهدف تحويل المحلول الملحي إلى بلورات ملحية معدنية.

واستطراداً، اشتملت العملية الأولى في تحويل المياه المالحة إلى محلول ملحي على استخدام أحواض واسعة قليلة العمق، بمعنى أنها على الأرجح حفر سطحية صُنعت جدرانها من طين، قرب شاطئ البحر، أو عند قمة منحدر بمحاذاة القمائن.

وفي خلفية تلك الصورة، يعرف أن "استخراج الملح من مياه البحر عملية معقدة تستغرق وقتاً طويلاً، وتتطلب مهارة كبيرة. وقد استطاعت كل حضارة ساحلية غابرة في القدم تمرست في تلك التقنية، أن توسّع اقتصادها بصورة كبيرة"، بحسب ديفيد ليا ويلسون، أحد كبار المسؤولين البريطانيين في مجال إنتاج ملح البحر، الذي يدير مؤسسة تعتمد وسائل تقليدية في استخراج ملح البحر، هي شركة "هالين مون" Halen Mon، ومقرها أنغلسي، شمال ويلز.

واستناداً إلى ذلك، ثمة استنتاجات كبيرة ترتبط باكتشاف أن الناس في بريطانيا العصر الحجري الحديث امتلكوا التقنية اللازمة لإنتاج الملح، إذ تؤثر تلك الاستنتاجات في المعرفة التي كوّنها العالم الحديث في ما يتصل بطريقة عمل الاقتصاد الزراعي الإنجليزي المبكر.

واستكمالاً لتلك الصورة، يجدر تذكّر أنه في العصر الحجري الحديث، أتاح الملح للناس مضاعفة إنتاجهم من لحوم البقر والألبان بصورة كبيرة، وذلك عبر تمليح اللحوم وتمكينهم تالياً من حفظها سليمة.

واستطراداً، ففي غياب الملح، ما كان لأولئك الناس أن يتصرفوا بكفاءة في ما امتلكوه من ماشية شكّلت الأساس في جزء كبير من اقتصادهم.

وآنذاك، شكّل الذكور نصف العجول الحديثة الولادة، ما يعني تالياً أنها حازت قيمة اقتصادية محدودة. علاوة على كونها لا تنتج الحليب، المكوّن الأساسي لصناعة منتجات الألبان، أضفت مستوياتها المرتفعة من هرمون الـ"تستوستيرون" [هرمون الذكورة لدى الثدييات] طعماً غير محبّب على لحومها، بعد مرور السنة الأولى من حياتها. كذلك، إذا ما تركت تلك الماشية كي تكبر حتى مرحلة البلوغ، يغدو من العسير جداً السيطرة عليها، ما يعني أنها ستستهلك المرعى من دون أن تعطي أي إنتاج في المقابل، وستحتاج إلى توافر علف إضافي تقتات عليه في مواسم الشتاء.

بناء على ما تقدّم، شكّل ذبح معظم الذكور من الماشية الخيار الأفضل عندما تكمل السنة الأولى من عمرها، أو قبل ذلك. وفي المقابل، إذا لم يتوافر لهم الملح كحافظ للأطعمة، يغدو محالاً عليهم الاحتفاظ بكل لحوم الماشية المذبوحة (لأن تدخين اللحوم أقل فاعلية في ما يتعلق بالحؤول دون تلفها، ومناخ بريطانيا ومعظم شمال أوروبا رطب جداً بدرجة يتعذّر معها تجفيف اللحوم في الهواء).

وفي نظرة متأنية، أحدثت الحقائق المكتشفة أخيراً بشأن توافر الملح [في عصور ما قبل التاريخ بمقاطعة يوركشاير]، ثورة في صورة الأشكال الأولى من زراعة المحاصيل وتدجين الحيوانات بغرض الاستفادة من لحومها وألبانها، إذ اتضح أنه أمكن استعمال الملح في حفظ لحوم صغار المواشي من الذكور بعد ذبحها واستخدامها مصدر غذاء متواصل طوال العام، ومن ثم إعطاء مساحة أوسع في المراعي للإناث الحلوبة من الماشية، ما عزّز في النتيجة منتجات الألبان. وكذلك احتاجت المواشي في فترات الشتاء إلى كميات أقل من الأعلاف اللازمة في تغذيتها. وكذلك ألغى الحصول على اللحوم المحفوظة بالملح على مدار السنة، الحاجة إلى ذبح كثير من الإناث المنتجة للحليب من الماشية، وأسفر ذلك عن إمدادات وافرة من الحليب وكل منتجات الألبان والجبن والزبدة.

"من دون الملح، يضحي من المستحيل عملياً أن يخزّن هؤلاء المزارعون الأوائل لحوم أبقارهم على النحو الصحيح في المناخ البريطاني الرطب"، وفق جيمس سويفت، الذي يعتبر مرجعاً رائداً في التقنيات التقليدية لحفظ اللحوم، ويدير إحدى أقدم العمليات التقليدية في معالجة اللحوم داخل المملكة المتحدة، "تريلي فارم شاركوتيري"Trealy Farm Charcuterie، في مونماوثشاير.

علاوة على ذلك، يسهل الإتجار بالملح ونقله من منطقة إلى أخرى. واستناداً إلى ذلك، ينطوي اكتشاف أن البريطانيين في العصر الحجري الحديث استطاعوا إنتاج ذلك المعدن البلوري بكميات كبيرة، [ينطوي] على انعكاسات جمّة في ما يتصل بالتوسع في التجارة، وكذلك حصول سكان المناطق الداخلية على الملح، إضافة إلى حفظ مخزونهم من اللحوم سليماً من التلف.

وفق العلماء المنخرطين في تلك التنقيبات، بُنيت قمائن إنتاج الملح المكتشفة حديثاً في يوركشاير حوالى عام 3750 قبل الميلاد، على بعد 750 متراً تقريباً من قمة جرف يبلغ ارتفاعه 200 متر، ويطلّ على بحر الشمال.

في المقابل، ليس مستبعداً أن اختيار ذلك الموقع مصنعاً للملح مردّه توافر أخشاب ضرورية في تسخين القمائن عن طريق حرقها، إضافة إلى توافر رياح سريعة (أحياناً أكثر من 70 ميلاً في الساعة) قرب حافة الجرف، ما يحمل المياه على التبخر. وكذلك يمكن القول إن المنطقة تُعدّ أحد المواقع الأكثر مثالية في بريطانيا لإنتاج الملح، لأن التضاريس الساحلية في تلك النقطة المعروفة باسم "بولبي كليفس" (غروف بولبي) Boulby Cliffs، جزء من "متنزّه نورث يورك مورز الوطني" North York Moors National Park، تتميّز بأنها أعلى وأشدّ رياحاً من أي مكان آخر على طول الساحلين الشرقي والجنوبي في إنجلترا. وفعلياً، إن "بولبي كليفس" أعلى مرتين تقريباً من "غروف دوفر البيضاء" المعروفة.

وفي سياق موازٍ، من الجائز أن المرحلة الأولى من إنتاج الملح (تحويل مياه البحر إلى محلول ملحي) قد نفّذت قرب شاطئ البحر الذي يبعد ميلاً ونصف الميل سيراً على القدمين، عند نهاية طريق متعرج يمتد عبر أحد الأودية. لذا، يُرجّح أن صانعي الملح استخدموا حبالاً وأكياساً من جلد الحيوانات كي ينتشلوا كميات كبيرة من مياه البحر إلى قمة الجرف، حيث عملت قوة الرياح العالية على تسريع كل عمليات تبخر المياه اللازمة في تحويل مياه البحر داخل حوض الملح إلى سائل ملحي أكثر كثافة، كي يغدو متناسباً مع مرحلة التجفيف النهائي في الأفران.

وبالعودة إلى الزمن الحاضر، تبدو حافة المنحدر أكثر قرباً إلى الأفران بمئتي متر بالمقارنة مع ما كانت عليه في العصر الحجري الحديث. في تلك المنطقة، يتسبّب بحر الشمال في تآكل ما يقارب سبعة أمتار (حوالى 125 ألف متر مكعب من الصخور لكل 100 متر من الجرف)، كل قرن من الزمن.

يُشار إلى أن "مركز البحوث البيئية في الجامعات الاسكتلندية" Scottish Universities Environmental Research Centre الذي تديره "جامعة غلاسكو" Glasgow University، تولّى عمليات التأريخ المتعلقة بمصنع ملح العصر الحجري الحديث المكتشف أخيراً. في المقابل، أجرت "جامعة شيفيلد" University of Sheffield البريطانية التحاليل العلمية لبقايا الملح الموجودة على الحاويات الخزفية المستخدمة في القمائن أو المواقد. وقبل أيام، نشرت المكتشفات التي عثر عليها في منطقة التنقيب في مجلة "أنتكويتي" Antiquity [حرفياً، الأزمنة الغابرة] المتخصصة في الآثار القديمة ومقرها المملكة المتحدة. يبقى أن الموقع المكتشف على ساحل يوركشاير ليس المجمع الأكثر قدماً لإنتاج الملح في بريطانيا فحسب، بل إنه أيضاً الأقدم بين نظرائه المعروفة في أوروبا الغربية ببضع مئات من السنين.

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات