Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 "الغياب" مسرحيّة اللبنانية لارا قانصو تسترجع قضايا المرأة العربية المغيّبة

من مسرحية "الغياب" (اندبندنت عربية)

تقدّم المخرجة اللبنانيّة لارا قانصو مسرحيّتها الثالثة بعنوان "الغياب"، من بعد مسرحيّتيها السابقتين "عشق" و"عرس زهوة"، وتواصل فيها التطرّق إلى قضيّة تعنيف المرأة وتهميشها في مجتمعاتنا الشرقيّة، وبخاصّة في المجتمع اللبنانيّ. فتسلّط قانصو الضوء على مأساة المرأة وألمها والوحشيّة الممارسة ضدّها في مسرحيّة لا تتخطّى مدّتها الساعة ولا تكثر فيها الحوارات. فالنصّ عموماً ضئيل، وتركز قانصو إلى جانبه على الصمت، والموسيقى وحركيّة الممثّلات على خشبة المسرح. وكأنّ الغياب هو غياب النصّ والكلمة وحرّيّة التعبير أيضًا.

سطوة الرجل حتّى في غيابه

تقوم مسرحيّة "غياب" على أربع شخصيّات هي جميعها من النساء، تجسّدها كلّ من: ضنا مخايل ونوار يوسف وستيفاني كيال وماري تيريز غصن. فتؤدّي كلّ ممثّلة من الممثّلات الأربع دورها ناقلة قصّة واقعيّة لمعاناة مختلفة. وعلى الرغم من أنّ القمع والاضطهاد والتنكيل والعنف والأمور الوحشيّة الأخرى التي تصيب المرأة سببها الرجل، لا يجد المتفرّج أيّ وجود للرجل على خشبة المسرح. وكأنّ قانصو احتاجت إلى إخلاء المسرح من وجود الرجل لتتمكّن نساؤها من الإفصاح عن مكامن وجعهنّ.

ويشكّل المجتمع الذكوريّ المستبدّ هيكلاً شرساً يُخيف المرأة وينكّل بها ويرميها في دوّامة قاتمة من العذاب والخوف والتعاسة. فالمجتمع القاسي قامع بقيوده وقوانينه وعاداته وتقاليده ورجاله، يؤذي المرأة ويمارس عليها العنف بأشكال متنوّعة لدرجة تقول فيها إحدى الممثّلات: "أنا شو عم بعمل هون؟ لو كنت عارفة هيك ما كنت جيت." فهذه الجملة التي تشير بظاهرها إلى خشبة المسرح، تشير بجوهرها إلى هذه الدنيا القاسية المجحفة بحقّ المرأة. فحتّى الأمّ التي تلد فتاةً تعاتب ابنتها قائلة: "يا ريتِك خلقتِ صبي... يا ريتِك ما خلقتِ بالمرّة".

والمجتمع الذي يحتكم بسلطة الرجل يرمي المرأة بألف حجر وحجر، يرجمها لأصغر خطأ، لأقلّ زلّة، ولا يعتمد المعايير نفسها للرجل. فالتصرّف نفسه يسبّب للمرأة عقابًا بينما لا يخلّف على الرجل أيّة عواقب. وكأنّ العالم والمجتمع والعادات تعاقب المرأة على ولادتها وتحكم عليها بالفناء والعقاب وضرورة الاختباء طيلة حياتها ومنذ البداية.

الغياب القاتل

يشكّل العنوان المؤلّف من كلمة واحدة "الغياب" لغزاً جميلاً للمتفرّج. فكلمة "الغياب" تحمل معاني متعدّدة، جميعها صحيحة وتعكس واقع الحال. فقد تعني كلمة الغياب غياب الآفاق، أو غياب الحريّة، أو غياب التواصل. الغياب قد يعني كذلك غياب العدالة، أو غياب المرأة نفسها، هي المجبرة على التلاشي أمام الرجل، المجبرة على الاختباء لئلا تطالها سياط القسوة. ليتحوّل هذا الغياب الاجتماعي إلى غياب داخلي نفسي يسكن المرأة

ويمنعها عن العيش فتقول إحدى الممثّلات في جملة رائعة: "أوقات بطّلع بالمراية ما بقشع حالي". وكأنّ غياب انعكاس صورة المرأة على المرآة، هو تجسيد لتغييبها الإلزامي الذي يفرضه عليها الرجل والمجتمع.

وتعتمد قانصو في مسرحيّتها هذه على مصدرين إثنين. الأوّل هو الواقع، فلا تتوانى عن تعداد أسماء نساء معنّفات، فتذكرهنّ وتذكر الطرق التي قُتلن فيها والسنوات التي جرت فيها الجريمة، فتذكر: رولا يعقوب، كريستال أبو شقرا، زهرة قبّوط، سارة الأمين، وغيرهنّ. أمّا المصدر الثاني لهذا النصّ فهو العودة إلى مخزون جميل من الأدب العالميّ، فارتكزت قانصو إلى مؤلّفات متعدّدة منها: «إختراع التاريخ» لجورج ديدي هوبرمان، «نساء يركضن مع الذئاب» لبنكولا إستس، «أفروديسيا الأرملة» لمرغريت يورسنار، «رجم ثريا» لفريدون صاحب جم (فيلم قصير)، «الانتحار أو الغناء» لسید بهاء الدین مجروح.

وأكثر ما يلفت في هذه المسرحيّة هو الديكور والعناصر الموظّفة لتأدية المعنى. فهناك الرمل، والبحر، وإشارات العودة إلى سفر الخلق. كما يلفت وجود الشخصيّات في مقبرة، ليصبح الغياب مرادفاً للموت والفناء والخسارة، فتكرّر النساء في صوت واحد نشيداً جنائزيّاً قاتماً: "دبح دم دفن دموع." لتتحوّل هذه الكلمات الأربع إلى مصير، إلى قدر، إلى لعنة لا مفرّ منها. لعنة تطاول كلّ امرأة في كلّ زمان ومكان، مهما اختلفت الظروف وتغيّرت الأطر.

عكست لارا قانصو في مسرحيّة "الغياب" مأساة المرأة المعنّفة، في محاولة منها للتشديد على وحشيّة الواقع والتحريض على رفضه. فهذه المسرحيّة التي تقدّم قضيّة المرأة عبر قصص مستلّة من الواقع هي مسرحيّة القلق والوجع والخوف بامتياز. مسرحيّة المرأة المهزومة المعرّضة للرجم والقمع والقهر منذ خروجها من رحم أمّها وقبل أن ترتكب أيّ عمل.

لكنّ ما لم تراعِه لارا قانصو هو جمهورها. فهي قدّمت مسرحيّة قصيرة موجزة صعبة، لا يطول فيها النصّ بل تكثر حركة الممثّلات على خشبة المسرح، وهو خطأ قد يوقع المسرحيّة في مأزق كبير. وكأنّ قانصو توجّهت بمسرحيّتها إلى نخبة المجتمع تاركة البقيّة جانباً، فيما كان يجب أن تجعل مسرحيّتها في متناول الجميع لتتمكّن من الدفاع عن قضيّتها بشكل أكثر فعاليّة. لقد قدّمت قانصو مسرحيّة رمزيّة فيها شيء من العبثيّة، ما يجعلها مسرحيّة صعبة لا تلمس شريحة كبيرة من المجتمع، شريحة هي في الأغلب في أمس الحاجة إلى فهم المرسلة للتغيير في الواقع. فليس مثقّفو المجتمع من يمارس العنف والتنكيل إنّما بسطاؤه وأولئك المتمسّكين بالتقاليد الرجعيّة والعادات القديمة. لقد وقعت قانصو في فخّ المبالغة في الرمزيّة وتركت جمهورها ليتحزّر المعاني التي لم تقلها.

المزيد من ثقافة