خلق الحراك الشعبي، الذي دخل شهره الثالث في الجزائر، ظاهرة حزبية جديدة ضمن حزمة "الجيل الثالث"، وأدت المسيرات إلى انهيار سريع لأحزاب الموالاة، التي تصدرت المشهد في العقود الثلاثة الماضية. وأُستدعي زعماؤها لمحاكات في قضايا فساد، فيما انعزلت الأحزاب الإسلامية والليبرالية المعارضة، التي تشهد بدورها انشقاقات عميقة.
في 10 أبريل (نيسان)، أعلنت وزارة الداخلية الجزائرية عن إصدارها تراخيص لعشرة أحزاب سياسية جديدة، من أجل عقد مؤتمراتها التأسيسية. وقطع هذا الإعلان فترة خمس سنوات على الأقل، لم تعتمد فيها السلطة أي حزب جديد، على الرغم من إقرار القانون بحرية تأسيس "جمعيات ذات طابع سياسي"، وهو المصطلح القانوني للأحزاب.
وأشارت وزارة الداخلية إلى أن "القطاع شرع في دراسة ملفات إنشاء الأحزاب السياسية والجمعيات الوطنية وما بين الولايات"، مضيفة أن "الملفات المعنية خاصة باستكمال إجراءات الاعتماد والتسجيل بحسب حالة كل حزب وجمعية".
وقال النائب البرلماني لمين عصماني مؤسس حزب "صوت الشعب"، إنه "حصل على موافقة مصالح وزارة الداخلية لعقد مؤتمر تأسيسي السبت المقبل". وتقدم عصماني بملف حزبه قبل أكثر من أربع سنوات، لكن قراراً سياسياً عاماً منع البت في الملف على الرغم من استيفائه جميع الشروط.
وقال عصماني، وهو رئيس كتلة النواب "الأحرار" في البرلمان، إن "الحراك الشعبي هو صاحب الفضل في تحرك مصالح وزارة الداخلية لتطبيق القانون". وأضاف "أتمنى أن يكون صوت الشعب حزباً سياسياً يتفاعل مع الشارع الجزائري، وليس نسخة من أحزاب السلطة بألوانها المختلفة سواء في الموالاة أو المعارضة".
ويستعد الناشط السياسي مراد عروج لتأسيس حزبه "الرفاه" قريباً. وقال إنه "معني بالمؤتمرات التأسيسية المرخص لها أخيراً من الوزارة". وأضاف عروج أن "ملف حزبه موجود منذ سنوات في أدراج وزارة الداخلية، ولولا ضغط الشارع لما حصل هذا".
وينتمي كل من عصماني وعروج إلى جيل الاستقلال. ويصفان نفسيهما بأنهما من أنصار "التيار الوطني"، على الرغم من تدرج الأول في حزبين سابقين من التيار الديمقراطي، "التجمع الوطني الديمقراطي" و "الجبهة الوطنية الجزائرية"، فيما تدرج الثاني في صفوف الإسلاميين "حركة مجتمع السلم"، ثم "تجمع أمل الجزائر".
"الجيل الثالث" من الأحزاب لتعويض من؟
بدأت الجزائر عهد التعددية الحزبية بموجب دستور العام 1989، الذي أسس للجيل الأول "المعتمد" من الأحزاب، على الرغم من وجود تيارات كثيرة نشطت في الشارع على حساب الحزب الوحيد قبل ذلك "جبهة التحرير الوطني". وبتبرير من حالة الطوارئ في فترة التسعينيات، حظرت الجزائر اعتماد الأحزاب، إلى غاية العام 2011، عندما أفرجت تحت ضغط "الظرف الإقليمي (الربيع العربي)" عن حزمة "الجيل الثاني".
وحدد قانون الأحزاب، الذي عدل في العام 2011، حالات تجميد نشاط الأحزاب بصفة موقتة أو حلها قضائياً بصفة نهائية. ولمواجهة الصراعات الداخلية للأحزاب أقر إنشاء هيئة تأديبية مستقلة عن قيادات الأحزاب من بين صلاحياتها النظر في النزاعات.
ويفرض المشروع أن تتوافر في الأعضاء المؤسسين مجموعة من الشروط، منها الجنسية الجزائرية والأهلية المدنية، وأن يتمتعوا بالحقوق المدنية والسياسية وألا يكونوا ملاحقين قضائياً، أو سلكوا سلوكاً معادياً للثورة.
وجمدت الحكومة الجزائرية من دون أن تعلن ذلك تقديم تراخيص لأحزاب جديدة منذ العام 1999. وآخر تصريح، مُنح إلى عبد الله جاب الله عندما أسس حركة الإصلاح الوطني، قبل أن يعود بموجب إصلاحات 2011 ليؤسس جبهة العدالة والتنمية.
ويعتقد الصحافي الجزائري مبارك دفة أن "العمل الآن جار لإعادة بعث مشهد سياسي آخر، يبعد الأحزاب التقليدية والمغضوب عليها من المشهد السياسي". وأضاف "هناك بعض الأحزاب الجديدة تشهد قبولاً محدوداً من الحراك الشعبي لوجود شباب مناضلين فيها ضمن المسيرات منذ البداية".
انقسامات في الموالاة
لم يعد لمناضلي جبهة التحرير الوطني القدرة على تمييز هوية "قيادة" الحزب في الفترة الحالية، أي منذ الحراك الشعبي. وبينما يتولى معاذ بوشارب الهيئة القيادية، منحت الداخلية ترخيصاً للأمين العام السابق جمال ولد عباس رخصة لعقد دورة للجنة المركزية. والغريب أن الداخلية وصفت ولد عباس في الترخيص بـ "الأمين العام".
وفعلاً عقدت الدورة صباح الثلثاء. وأول ما فعلته اللجنة هو إقالة ولد عباس نفسه، قبل أن يترشح 12 قيادياً تصارعوا وتشابكوا بالأيدي طوال ساعات النهار، قبل أن يتم إعلان فشل الدورة وبقائها مفتوحة.
وأدخلت هذه الوضعية جبهة التحرير الوطني في أزمة حقيقية بغياب معالم واضحة لتحديد هوية القيادة الجديدة. وترفع المسيرات الشعبية بشكل أسبوعي شعار "أفالان (مختصر جبهة التحرير) ارحل". إذ بات الحزب رمزاً من رموز الفساد السياسي والمالي في البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال السيناتور محمد قيصاري إن وصف "الفساد ينطبق على حزبنا فعلاً". وأضاف "لقد بات الحزب عاراً"، مشيراً إلى أنه "منذ أربع سنوات تقريباً انحرف بشكل كامل وتمكن رجال المال من مفاصله السياسية المهمة".
وفي هذا الشأن يقدم القيادي بعجي أبو الفضل شهادة عن تجربته عضواً في المكتب السياسي في فترة جمال ولد عباس، قائلاً "أذكر أن فرداً من عائلة كونيناف (حُولت إلى السجن الأربعاء بتهمة فساد) هو من أمر ولد عباس بإقرار تغيير مفاجئ في المكتب السياسي". وقد "استجاب ولد عباس مرغماً من دون العودة إلى اللجنة المركزية"، إذ "تكشف الواقعة حجم تأثير رجال المال في أحزاب الموالاة وفسادها من الداخل".
زعماء بالأمس… مجرمون اليوم
لأن عملية محاربة الفساد أخذت منحى متسارعاً تحت ضغط الشارع والمؤسسة العسكرية في البلاد، فإن مشهد الأحزاب ازداد "قتامة" بفعل استدعاء زعماء سياسيين فيها إلى تحقيقات قضائية في ملفات فساد كبيرة.
وينتظر القضاء كلاً من أحمد أويحي، الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، للتحقيق معه في قضية فساد مع عائلة "كونيناف" وملفات أخرى. كما وجه استدعاء إلى جمال ولد عباس في "ملف فساد يخص فترة توليه وزارة التضامن". وأُستدعي عمار غول إلى المحكمة العليا، وهو رئيس تجمع أمل الجزائر ووزير سابق للأشغال العمومية، بعد إعادة فتح ملف الفساد في "الطريق السيار شرق غرب". والثلاثة مسؤولون عن الأحزاب الثلاثة للتحالف الرئاسي، التي دعمت رئيس الجمهورية السابق عبد العزيز بوتفليقة في السنوات الخمس الماضية.
"أفافاس" في معركة الخناجر والمعارضة في أزمة
على النقيض، لا تبدو المعارضة في موقف أحسن من الموالاة، قياساً بمشاهد "المطاردات" التي تعرض لها بعض قادتها في المسيرات الشعبية. وعلى الرغم من "محدودية" تلك المشاهد و"عزلتها" إلا أنها قدمت صورة لأحزاب المعارضة، تشي بنفور الجزائريين من العمل الحزبي الذي شارك في مرحلة حكم بوتفليقة ككل.
إلا أن حزب المعارضة التقليدية، جبهة القوى الاشتراكية (أفافاس) كان الأبرز من حيث حجم الخلافات. إذ اقتحم مناضلون مقر الحزب ليلاً، قبل أيام، حاملين أسلحة بيضاء. وكادت الأمور تخرج عن نطاقها العادي لولا تدخل عقلاء في الحزب، حصوصاً أن جناحاً في الحزب يتهم خصمه بـ "التعاطي مع السلطة القائمة".