Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السودان والسعودية... التفكير خارج الصندوق

توطيد العلاقات بين البلدين عبر ملفات استراتيجية بينها أمن البحر الأحمر والمياه والاستثمار

رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك (حسن حامد - اندبندنت عربية)

زيارة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك مع طاقم وزاري رفيع المستوى إلى السعودية الأسبوع قبل الماضي على مدى يومين، تعد في تقديرنا زيارة مفصلية في تاريخ علاقات البلدين لعديد من الاعتبارات الاستراتيجية، لا سيما في ما يتصل بالوضع المرحلي الدقيق الذي يمر به السودان في الوقت الراهن.

ومن خلال ملفات استراتيجية مهمة، مثل أمن البحر الأحمر، والأمن الغذائي، والمياه، والاستثمار، كانت اللقاءات المثمرة بين القيادتين السعودية والسودانية ترتبت عليها نتائج مهمة، منها تعهد سعودي بإقامة صندوق استثماري مشترك برأسمال مبدئي قدر بـ3 مليارات دولار أميركي في السودان، تدفع من قبل حكومة الأولى، ودعوة الأطراف الأخرى للمشاركة في الصندوق. إلى جانب اتفاقات سياسية في عديد من الملفات المشتركة، تتضمن أمن وسلامة البلدين، وأمن البحر الأحمر، وتحقيق التكامل بين البلدين.

قد لا يسمح الوضع اليوم، في ظل التحالفات التي يمكن أن توفرها المصالح الحقيقية والإمكانات الحيوية لكل من السودان والسعودية بكثير من التأخر حيال فرص تفرضها تحديات استراتيجية ستصبح الاستجابة لها من صميم الأهداف العليا لراسمي السياسات الاستراتيجية في البلدين.

لقد كانت الأوضاع في ظل النظام السوداني القديم على مدى ثلاثين عاماً تمثل عوائق خطيرة ومانعة من تحقق الفرص والاستثمارات الواعدة للبلدين في كثير من الملفات، ولا شك أن مياهاً كثيرة جرت منذ عام 1989؛ أي عام انقلاب نظام الإخوان المسلمين على السلطة الديمقراطية في السودان.

وفي تقديرنا أن التكامل الذي تم طرحه كمشروع في النقاشات السياسية بين القيادتين في تلك الزيارة هو حجر الأساس في مستقبل هذه الشراكة الواعدة. فمن ناحية، قد لا يعرف كثيرون أن هناك من السودانيين من يمتلكون خبرات فنية وعلمية، وهم في غالبيتهم اليوم يعملون خارج البلاد نتيجة للتهجير الذي فرض عليهم خلال السنوات الثلاثين الماضية من قبل نظام البشير.

وبحسب تقديرات صحافية؛ فإن أغلبية الخبراء الناطقين بالعربية في منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية من السودانيين، وهذه الوفرة من الخبراء تعكس الإمكانات الكبيرة التي يمكن الاستفادة منها في أي مشروع للتكامل الاستراتيجي بين السعودية والسودان. كما أن الأولى، من ناحية أخرى، لها من الإمكانات المالية والمكانة الإقليمية والدولية ما يؤهلها للقيام بأدوار مركزية في دعم مشاريع استثمارية كبرى وعلى نحو استراتيجي في الأخيرة.

ولعله من المهم القول إن رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك بكونه خبيراً اقتصادياً وسياسياً سابقاً في بعض المؤسسات السياسية والاقتصادية للأمم المتحدة، ساعد في تكييف تلك المصالح الاستراتيجية بين البلدين وفق خيارات تم تقديمها لقيادة السعودية في أطروحاته بما يجعلها أكثر قابلية من حيث الوضوح في الرؤية والاستراتيجيات. وهنا علينا أن نتذكر أن المصالح الحيوية للاستثمار في الأمن المائي والغذائي بالنسبة للسعودية من حيث هويتها الطبوغرافية قد تجد ملاذاً مثالياً بامتياز في الفرص الكبرى التي يمكن أن يوفرها السودان لناحية إمكاناته ومساحات الأراضي الزراعية التي تمتد على نحو 200 مليون فدان صالح للزراعة، ولا يزرع منها اليوم سوى ربع هذه المساحة، إلى جانب المسطحات المائية ومصادر المياه الجوفية الوفيرة.

إن التغيير الذي حدث في السودان منذ عام 2019 بعد انهيار نظام الإخوان المسلمين انعكست أهميته الجيوسياسية في ردود الفعل الإيجابية عبر مواقف واضحة في انحيازها للبلاد؛ سواءً من طرف الولايات المتحدة، أو الاتحاد الأوروبي، وكانت هذه الانحيازات من طرف هذه الكيانات الدولية في جزء منها تعبيراً عن معرفة حقيقية بما يمكن أن يلعبه السودان من أدوار جيوسياسية، بحسب موقعه الجغرافي وتاريخه السياسي وهويته العربية والأفريقية التي تشكل عامل ربط جيوبولوتيكياً مهماً بين المنطقة العربية وأفريقيا جنوب الصحراء، بالإضافة إلى أدوراه المرشحة لمزيد من الدعم الأميركي والأوروبي والأممي في قيادة دور رئيس لمنطقة القرن الأفريقي، لا سيما بعد تراجع حظوظ إثيوبيا إثر أحداث الحرب الأهلية التي اندلعت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعله، كذلك، مما يجعل كثير ممكناً في تحقيق المصالح الاستراتيجية بين البلدين، أن في السعودية اليوم جيلاً قيادياً شاباً يرى في خياراته الاستراتيجية المعاصرة والضامنة لمصالحه الحقيقية من زوايا نظر مختلفة عن رؤى الأجيال السابقة، كما لا يرهن هذا الجيل نمط تفكيره حيال تلك المصالح الجيوسياسية لتصورات نمطية سابقة، بقدر ما أصبح رهانه اليوم على دعم اعتبارات المصالح الاستراتيجية من أفق اقتصاد المعرفة والمصلحة، وعبر تفكير من خارج الصندوق.

وفي تقديرنا أن تلك الاعتبارات الجديدة في أنماط التفكير السياسي لصانعي القرار في السعودية ستقترح انحيازاً واضحاً فيما يخص فرص الاستثمار الاستراتيجية الكبرى في السودان بعد التغيير الذي حدث فيه.

وغني عن القول إنه؛ بما أن للسعودية خبرات رائدة في مجال استثمارات البنى التحتية في كثير من الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، فإن أولى استحقاقات الدعم والاستثمار السعودي في السودان، في تقديرنا، ينبغي أن تكون في البنى التحتية الرئيسة لأن ذلك الاستثمار هو المقدمة الضرورية لكل الاستثمارات الأخرى التي تتأسس عليه بالضرورة، وبخاصة في مجال الخطوط البحرية، والخطوط البرية، وكذلك خطوط السكك الحديدية، بما يمكن أن يوفر فرصاً كبرى لاستقطاب الخبراء السودانيين في المهجر ضمن مشروع اقتصادي في الدعم والاستثمار بين البلدين عبر مؤسسات سعودية كبرى ورائدة في هذا المجال.

وضمن المصالح الحيوية والجيوسياسية للبلدين يأتي أمن البحر الأحمر على قائمة تلك المصالح بين السعودية والسودان، كما أن المناورات البحرية التي تجريها الرياض والخرطوم هذه الأيام تصب في التعبير عن الأهمية التي يوليها البلدان إلى قضية الأمن الاستراتيجي لكليهما في البحر الأحمر، لا سيما أن الأولى تمتلك حدوداً مائية طويلة مع الأخيرة على هذا البحر. ولقد كانت مبادرة السعودية بتأسيس ‎مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، الذي وقع في الرياض يوم 6 يناير (كانون الثاني) 2020، بمثابة استشراف جيوسياسي للمصالح البينية، وعلى رأسها قضية أمن البحر الأحمر، لتلك الدول على جانبي ساحل البحر الأحمر.

إن تشابك المصالح بين الخرطوم والرياض يستدعي بالضرورة تفكيراً استراتيجياً لمنظومة من الدوائر الأكاديمية والسياسية ومراكز الأبحاث المشتركة من أجل توفير مزيج من الخبرات المتراكمة بين البلدين في جوانب مختلفة ومن زوايا جديدة؛ بما يمكننا من القول إن ما ستتوفر عليه نتائج الأبحاث حيال الجدوى الحقيقية لتلك المصالح وإمكاناتها على المدى البعيد؛ سيعيد اكتشاف فوائد لا متناهية من ثمار التفكير والتعاون المشترك، في عالم أصبح اليوم، من خلال ثورة المعلوماتية والاتصال، أكثر قدرةً على رؤية وتحقيق المصالح والتحديات في كل من السعودية والسودان.

هكذا، نزعم أن النتائج السريعة لزيارة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك والوفد الوزاري الرفيع إلى السعودية، ما هي إلا مقدمة ستتكشف عن فرص جديدة ومفاجآت جديدة وأطوار جديدة في علاقات البلدين؛ فتلك الزيارة التاريخية أسست لكثير من الترتيبات الجديدة والمختلفة في رؤيتها للمصالح بين البلدين.        

اقرأ المزيد

المزيد من آراء