Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أولنا ولد" لخيري شلبي تروي جزءا أساسيا من تاريخ مصر الحديثة

بين الحثالة والوصولية ومجتمع "الكيفما كان" واحتيالات العيش

خيري شلبي (1938 – 2011) (الصورة تخضع لحقوق الملكية الفكرية ـ أرشيف العائلة)

حتى ولئن كان مرور خيري شلبي (1938– 2011) في الحياة الأدبية المصرية قد تأخر، حيث إن الرجل وإن كان معروفاً ومقدراً في الوسط الثقافي المصري منذ شبابه المبكر، فإنه لم يظهر ككاتب روائي إلا وقد بلغ أواسط عمره لينشر في سرعة قياسية أعمالاً كثيرة راح القراء يتلقفونها مدهوشين ليبدو معها وكأنه أمن مكانة أولى في الكتابة الروائية استعداداً لمرحلة ما بعد نجيب محفوظ، وفتحي غانم، ويحيى حقي، وغيرهم من أساطين النوع في مصر.

الموروث الحكائي العربي

أما خارج مصر، فلا شك أن نشر "روايات الهلال" لروايته "أولنا ولد" قد جعل له مكانة لم تكن منتظرة وأعاد الاهتمام العام بالرواية المصرية، ولكن مرتبطة بالموروث الحكائي العربي بصورة عضوية غير معهودة. ولسوف نرى هنا كيف أن كل العناصر التي تسم روايات خيري شلبي موجودة هنا في "أولنا ولد" التي منذ ظهورها قدمت وعوداً مدهشة ستتجذر في روايات شلبي التالية. ونحن لا نريد من هذا الكلام القول إن خيري شلبي يحاول في "أولنا ولد" كما في جزأيها التاليين أن يقدم تطبيقاً عملياً لذلك التنظير المطالب بأن يحمل النص القصصي العربي سمات الأصالة وينهل من الموروث الحكائي. نقترح فقط أن "أولنا ولد" تنتمي مباشرة إلى ذلك الموروث انتماء يبدو بديهياً وكأنه الانتماء الوحيد الممكن.

تُحكى لنا الرواية على لسان شاب ينقل إلينا ما حكاه له ابن خاله ذات يوم قاهري وهما جالسان على مصطبة من الحشيات الثمينة المبطنة بالفرو في منزل ابن الخال، وقد أضحى واحداً من سراة القوم في نحو الستين من عمره، وقد قرر أن يملي على ابن عمته حكايته التي يراها "أكثر استحقاقاً لأن تروى من كل ما يروى من طريق الفنون السينمائية والتلفزيونية". وهذه الحكاية هي التي يرويها لنا الراوي على لسان ابن خالته الذي يعود إلى أيام طفولته ثم ينطلق منها في سرده الغريب لما حدث معه، لحكاية حياته ولمغامراته في العيش واحتياله في سبيله (كما حال أبي زيد السروجي في "المقامات" مثلاً)، بدءاً من أسفل السافلين وصولاً إلى ما هو عليه اليوم. ولسوف ندرك بعد انتهاء الصفحات المئة والأربعين التي تشغلها "أولنا ولد" أن ما قرأناه ليس سوى الجزء الأول من الحكاية، الجزء الذي يسبق وصول حسن أبو ضب إلى القمة، حكاية شقائه وبداية تسلقه. سنوات كفاحه واحتيالاته الأولى، منذ كان حسن كبير إخوته وعائلهم بعد رحيل الأب. طفلاً كان في الأصل يرافق هذا الأب متفرجاً بذهول على ضروب الاحتيالات الصغيرة البسيطة التي كان يمارسها الأب في سبيل القروش القليلة التي تعينه على ملء الأفواه المفتوحة في البيت.

 

ثلاثة انتماءات متضاربة متكاملة

ولكن إذا كان حسن يخبر ابن عمته بأنه كان دائماً ما يشعر بشيء من الخجل إزاء "مهنة أبيه"، فإن ما كان يعزيه إحساسه بالانتماء إلى أعمام من الرجال المحترمين فعلى الرغم من فقرهم فهم الذين لتلقيهم العلوم في الأزهر حققوا مكانة لأنفسهم. ومن هنا فإن حسن أبو ضب لا ينتمي فقط إلى حثالة الحثالة، بل كذلك إلى طائفة من علماء مرموقين، إضافة إلى شعور فخر من ناحية أخرى يأتيه من خلال افتتانه منذ الصغر بـ "الفتوة" علي السايح الذي دوّخ الحكومة، وقتل العديد من منافسيه وصار ذا شعبية تقرب من الأسطورة. ومع ذلك حدث له ذات لحظة أن ربت على رأس حسن أبو ضب فباركه في لمسة طبعت هذا الأخير حتى اليوم.

إذاً، مزوداً بهذه الانتماءات الثلاثة ينطلق حسن أبو ضب في رحلة حياته "البيكارية"، أو "اللولبية" بالأحرى حيث نراه يتنقل بين الصعيد والقاهرة ساعياً وراء الرزق تاركاً للحياة أن تلعب به كما تشاء أول الأمر. فيخالط اللصوص والمحتالين و"الفتوات"، وكذلك يخالط الناس الطيبين الذين يعطون من دون أن يسألوا في المندرات والقهوات في الأحياء الراقية أو في سوق السمك في الغيطان وساحات القرية، حيث يتنقل أبو ضب مختبراً شتى ضروب العيش وشتى أنواع البشر يلازمه، في هذا الجزء من الثلاثية على أي حال، سوء حظ لا يبارحه، لكنه يعرف دائماً كيف يخرج من مطباته ليحقق بعد الكبوة قفزة ولو متواضعة إلى الأمام أي إلى الأعلى.

عودة دائمة إلى البلد والأم

وفي سياق ذلك، نراه يعود إلى أمه وإخواته في البلد يعطيهم ما عنده ثم يجلس وقد عاد مفلساً من جديد متسائلاً كيف يجب أن تكون خطوته التالية، وكيف يجب أن يحافظ دائماً على رضى الأم الذي يعتبره رأسماله الأول في الحياة. بيد أنه لن يكون الرأسمال الوحيد فهو اكتسب رساميل عديدة أخرى خلال مسيرته. وهكذا من سارق صغير لرزق المسيحيين في الريف، إلى حامل دبش في القاهرة، ومن بائع سمك إلى صاحب قهوة صغيرة قبل أن يعود إلى الريف ليعمل حارساً ثم خاطفاً يدبر مؤامرات على "أثرياء" البلد، وبخاصة النصارى منهم، قبل أن يعود من جديد إلى القاهرة ليعمل عند المعلم دحروج، ثم في المعسكر حيث يتحول اللص الصغير إلى مهرب من الدرجة الثالثة. ولأنه مهرب صغير سيكون من الطبيعي أن يُقبض عليه بالجرم المشهود خلال سرقة في المعسكر ما يوصله إلى السجن.

لكنه هنا سيكتشف أن السجن حياة أخرى، قد لا تكون أسوأ من الحياة خارجه بالضرورة. وبخاصة أنه في السجن صار فرداً من عصابة تاجر حشيش كبير مسجون بدوره قُيّض لحسن أن يصبح خادماً له. وبفضل ذلك نراه يلتقي برجل قانون كان بدوره سجيناً سرعان ما مكنه من الخروج خلال زمن قياسي. ولكن حين خرج حسن من السجن وقف حائراً: إلى أين الآن؟ وكان الجواب: إلى الحثالة. فأن تكون حثالة مرة ستعود دائماً إلى الحثالة، وعلى الأقل حتى إشعار آخر. أي ريثما يتتالى الجزءان الثاني والثالث من الثلاثية، "الكومي" و"تالتنا الورق" لتشكل الأجزاء معاً سيرة حسن أبو ضب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

النجاح على طريقة ما...

وفي انتظار هذا نتابع مع حسن حكايته متنقلاً وراء العيش في ضواحي المدينة حيث تتوالى عليه المصائب بما في ذلك سرقة ثيابه التي سرعان ما يسرق غيرها، والعديد من الحوائج الأخرى قبل أن يعود إلى بلدته واعداً أمه وأخوته في سريرته بالفرج مهما كانت الكلفة باهظة. ولسوف نرى كيف أنه سيفي بوعده في تلك القاهرة التي تسمح بكل شيء وتتيح كل شيء ونعرف على أي حال أن حسن قد وفى بوعده إذ نتذكر كيف أننا طالعناه أول "أولنا ولد" وقد صار من السراة يحكي قصته وهو مستند إلى مساند من الفرو!

تاريخ ما لمصر الحديثة

يموضع خيري شلبي حكاية حسن بشكل محدد فهو انتقل للمرة الأولى إلى القاهرة بُعيد اندلاع ثورة 1952 التي اقتنع بأنها سوف تعطي كل ذي حق حقه. ومن ثم يرمي لنا الكاتب إشارات تاريخية تجعل الرواية تبدو وكأنها تاريخ حقيقي لمصر خلال عقود من السنين نراها في وجه آخر من خلال تقلبات حسن أبو ضب بشكل يعكس التحولات الذهنية والاجتماعية وحتى الاقتصادية على مزاج التحولات السياسية التي يواكبها حسن مقتنصاً منها كل إمكانية تتيح له التقدم خطوة أخرى في حياته: دائماً إلى الأمام ولكن أيضاً إلى أعلى. وفي هذا السياق يمكننا أن نرصد ما يقوله خيري شلبي في معظم رواياته حتى ولو تنوعت الشخصيات وتبدلت الأماكن. فمن هذه الثلاثية إلى "صالح هيصة" و"صحراء المماليك" وحتى إلى "منامات أحمد السماك" و"صهاريج اللؤلؤ" مروراً بـ"بغلة العرش" وبخاصة تحفته المدهشة "وكالة عطية"، من دون أن نتوقف هنا عند روائعه "الريفية" الأولى مثل "الوتد" و"الشطار" و"الأوباش"، ولا حتى عند تحفته "الذاتية" القاهرية "موال البيات والنوم"، يمكننا أن نفهم أن تاريخ مصر المعاصرة وعجائبه والتواءاته هي هاجس خيري شلبي الأساسي. وكأن الرجل عاش كل ذلك التاريخ وراح يختزنه بصمت راصداً الأحداث والشخصيات والعلاقات والتقلبات من دون أن يبدو عليه أنه يرصد رصد المبدع لا رصد المتفرج، لكي ينفجر كاتباً روائياً في وقت متأخر من حياته (15 رواية وعشرات القصص القصيرة خلال ثلاثة عقود). ولكن كاتباً روائياً من نوع فريد تكاد كتابته لا تشبه أي كتابات أخرى، في مواضيعها وربط المواضيع بالواقع التاريخي المصري، ولكن أيضاً بلغة يكمن فنها الأكبر في وصف حثالة العيش... من الداخل. وكأنه عيش خيري شلبي بأكثر مما هو عيش شخصياته. ما يجعل أدبه كله نوعاً من سيرة ذاتية مموهة وسيرة لمصر ونجاحاتها وانحداراتها على الأقل طوال الربع الأخير من القرن العشرين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة