يتابع الفنان مأمون الخطيب عمله مع ثلاثة عشر ممثلاً وممثلة من الجيل الشاب، منجزاً تجربته الأولى معهم في مجال الارتجال الجماعي، وقد استغرقت هذه التجربة أكثر من ثلاثة أشهر من التمارين اليومية، لتتوج نهاية ورشة إعداد الممثل هذه بعرض حمل عنوان "حكايتنا". المسرحية التي استقبلها جمهور مسرح الحمراء بحماسة وشغف كبيرين، حاول فيها ممثلون وممثلات جدد تقديم أنماط اجتماعية متباينة (كراكترز)، متوخين إبراز سمات محددة وفاقعة لشخصيات نمطية، وأخرى من الجوار، بتحديد المستوى الاجتماعي والطبقي لهذه الشخصيات من عمل ومكانة ودور تقوم به، إضافة إلى التكوين المادي لها من مظهر وعافية وأزياء، ومن ثم تحديد الكيان النفسي لها من ميول، ورغبات، وعقد نفسية، وطموحات وعوائق تحول بينها وبين تحقيق رغباتها وأحلامها.
وفق هذا المسار المحترف وصل المخرج مأمون الخطيب بممثليه الثلاثة عشر إلى قصص البيت الدمشقي الذي تؤجره "الست غالية" (ندى رعد) لمجموعة من الفتيات، فهي تؤمن بعلم الطاقة وقراءة الطالع لطرد الأرواح الشريرة من بيتها، الذي سيصبح مسرحاً لأحداث العرض، وللتعريف بشخصياته. وبالفعل نتعرف تباعاً على الفتيات الثلاث اللاتي يتقاسمن غرفاً فيه للإيجار، فمن قصة ليلى (ريمي الجباعي) الخادمة الثرثارة التي تزوجت في سن مبكرة، فطلقها زوجها بعد اكتشافه بأنها تحمل رحم طفلة، وغير قادرة على الإنجاب. ثم قصة نسرين (هالة البدين) الفتاة التي تزوجت شاباً من غير دينها، فهربت معه إلى دمشق، ليتركها هناك تواجه مصيراً مجهولاً هي وجنينها بعد حملها منه بشهرين، ومن ثم لتتحول إلى ممرضة فاسدة تبيع الوصفات المزورة والأدوية المهربة لنزلاء البيت. ثم عفيفة (زين العيسى) الفتاة القادمة من القرية إلى العاصمة، التي ستضطرها الحاجة، وتحقيق حلم أبويها بالنجاح، للصعود إلى سيارات رجال أعمال لتزجية أوقاتهم، وتقديم خدماتها لهم كامرأة جميلة، مقابل حصولها على وظيفة مضيفة جوية.
العائلة وجوارها
بالتوازي، نتعرف أيضاً إلى مجموعة من الشخصيات التي تقطن في الجوار، والذين يحضرون إلى المكان واحداً تلو الآخر، لا سيما بعد أن تقرر السيدة غالية بيع البيت الذي ورثته عن أهلها، وتركه بعد شعورها فيه بالوحشة والكآبة جراء وحدتها. وفشل قانون الجذب الذي تؤمن به في جعلها امرأة جميلة في نظر الآخرين. من هنا يحضر سامر أبو خيط (حازم قريني) الخياط الألثغ الذي كان يشغل محله حيزاً من البيت الدمشقي، والذي تعرض لخداع حبيبته (شيرين) التي سافرت هي الأخرى وتركته، فحنثت بوعدها له بلم الشمل. تستنبط هذه الشخصية قراءتها للواقع من خلال مفردات الخياطة، فكل ما يحدث معها ترجعه إلى أخطاء في القياس. مقاربة تتعدى الأقمشة نحو مشكلة طبقية مزمنة، وحيث مقص الخياطة هو ذاته من جعل الخياط عارياً إلا من أسمال ماضيه وفداحة خساراته.
لدينا أيضاً شخصية أبو الهدى (محمد جمال مشناتي) تاجر العقارات الذي نتعرف إلى قصة والده الذي كان يعنف زوجته، ويبرحها ضرباً حتى الموت، ما حدا بالابن إلى سرقة مال أبيه، وبناء مقام لوالدته في مقبرة العائلة، إكراماً لذكراها، وللانتقام من جبروت الأب وتسلطه. ومثلها نجد شخصية أبو زاهر (براء سمكري) صاحب الفندق الذي تحول هو الآخر إلى زير نساء بعد أن اكتشف خيانة زوجته له مع صديق عمره، ليقرر بعدها أن يصبح "شهريار" معاصراً، محيلاً فندقه الشعبي إلى ماخور.
العرض الذي أنتجته مديرية المسارح والموسيقى يقودنا رويداً رويداً إلى شخصيات متعددة، لعل أبرزها الساطي (محمد نورس بهلوان)، الذي يعمل أجيراً لدى صاحب الفندق، بعد أن رمته الحياة أمام تحديات العيش وإثبات الذات. ومثله مغيث (سليم الخطيب) معقب المعاملات الذي راهن على حبه الطفولي الضائع دون جدوى، فلقد فتح عينيه طفلاً يصب فناجين القهوة المرة لرواد مضافة جده، وهو أيضاً سائق الدبابة الذي تحول إلى حاجب للضباط الذين يخدمهم، ومن ثم ليتحول بعد تسريحه إلى سمسار لآليات الفساد، وعزقة في آلته الجهنمية، فيعمل كصلة وصل بين عملائه وشبكة الروتين والبيروقراطية.
مسارات مختلفة
في إطلالات متنوعة يأخذ عرض "حكايتنا" مسارات مختلفة مع وصول زبائن لشراء البيت الدمشقي، ويتابع رواية أحداثه عبر شخصيات مشبعة بمخزون طريف من مفردات الشارع والساحات الخلفية للمدينة. تحضر هنا شخصية شيركو عبده الدجلي (خالد حمزة)، الشاب الذي شردت الحرب عائلته من بيتها في ريف دمشق، وتركته بعد وفاة والده مع والدته وأخواته البنات عرضةً للعوز والفاقة، فما كان منه إلا العمل في تجارة الحشيش والممنوعات ليقيهن ذل السؤال، مصدراً حكمته الأثيرة إلى قلبه: "نحب الحلوى، ونكره الضجيج"، عبارة من بين عشرات العبارات التي عكست أجواء مختلفة عن ماضي شخصيات العرض، ومنبتها الاجتماعي، وهذا ما نلاحظه في شخصية أبو محمود (عدنان عربيني) العطار المصاب بالعقم، والذي تهجره زوجته وتتهكم عليه، فتلوكه الألسنة، إلى أن يتحول إلى شبح إنسان خائف وموتور. وهناك شخصية فريد زاما (حسين محمود)، المثقف الذي اعتقلته السلطات بتهمة "وهن نفسية الأمة"، إثر انتقادات كتبها على صفحته الشخصية على "فيسبوك"، ليتحول بعدها من شاعر إلى تاجر ملابس داخلية ولانجري نسائي!
مقاربة لاذعة لحال المثقف السوري اليوم، ومسخه بالقمع إلى مجرد رسم كاريكاتيري ساخر ومرير. بالمقابل تحضر شخصية أبو ضاهر (يوسف العبدي)، بائع السمك المواظب على بيعه لسكان البيت، وأبو البنات الذي يبحث عن عقار ناجع يمكنه، ويمكن زوجته من إنجاب طفل ذكر يحمل اسمه بعد مماته، والذي يقع ضحيةً لشعوذات صاحبة البيت، لكن هذه ستتحطم آمالها دفعةً واحدةً، لتكتشف، ونكتشف معها، أن البيت خاضع لمخطط تنظيمي جديد، وقد تلقى إنذاراً بالهدم لأكثر من مرة، في إشارة ذكية ولافتة من صناع العرض إلى هشاشة البيت السوري الكبير، وتصدعه من الداخل بعد سنوات النزاع الطويلة والدامية بين ذات البين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اللافت في مسرحية "حكايتنا" أن كل هذه الشخصيات تحركت بسلاسة بين البيت وخارجه، وعكست بلهجاتها السورية المختلفة بيئاتها الفرعية القادمة منها، بدايةً من دمشق وريفها، ثم لهجات الساحل السوري، ولهجة جبل العرب وسواها. وجنباً إلى جنب مع كشف هادئ لهذه البيئات، ومقاربتها في قالب حكائي انتزع تفاعل المتفرجين وتصفيقهم وضحكاتهم لمرات عديدة، خارجاً بالجمهور من تجهم العروض المكتوبة باللغة العربية الفصحى، أو تلك المقتبسة عن الأدب المسرحي الأجنبي، متجهاً نحو رحابة وجرأة في تفكيك آليات القمع، والإشارة مباشرة وبلا مواربة بسبابة الاتهام نحو مواطن العطب والفساد داخل البيت السوري المهدد بالإزالة.
من جهة أخرى، لفت عرض "حكايتنا" الانتباه لدى بعض المسرحيين السوريين إلى أهمية تدمير الصياغات التقليدية السائدة في معظم عروضهم السابقة، والتبرؤ من وصاية الفصاحة كأسلوب تفكير لدى الممثل، للعبور بالممثل إلى تجربة الحياة كمادة جوهرية للعرض، وهي مادة يصير معها الممثل عنصراً فاعلاً على المسرح، وصولاً إلى صيغة يتخلص فيها الممثل من ازدواجية التفكير بلغة، والتكلم بلغة أخرى على الخشبة. وهذا ما جعل المخرج الخطيب يتخلص من قطع الديكور الإضافية، مكتفياً بعدد من الكراسي والشموع ومجامر البخور المشتعل، وبأزياء أقرب إلى الواقع الحياتي (صمم الديكور والأزياء ريم الماغوط)، وذلك على خلفية شاشة عكست صورة البيت والحارة الشعبية والبحر والمدينة والقرى في عمق الخشبة (صمم التقنيات بسام حميدي)، وبمساندة موسيقى خافتة (تأليف رامي الضللي) تسللت مع كل مشهد وواكبته، دون أن تقحم نفسها على الحدث، أو تتدخل فيه، لتكون بمثابة لازمة لحنية عملت على تصعيد الصراع، وتوليفه مع أصوات أو نبرات الممثلين، وحركتهم المدروسة. وأسهمت نقلات الإضاءة أيضاً (تصميم علاء الكيزاوي) في تلوين متوازن للمناظر المتعاقبة، وإبرام فضاءات متخيلة مع سرد الشخصيات لماضي قصتها. ونعثر هنا على جهد لافت للدراماتورج يزن السكري في جعل القصص والفرضيات الفرعية تنضوي جميعها ضمن التيمة الرئيسة لسكان البيت ومستأجريه وزبائنه، بالتعاون مع المخرج المساعد للعرض الفنان إبراهيم عيسى.