Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف يمكن تحقيق العدالة في عالمنا المعقد؟

يجب على جميع الحكومات والمنظمات الدولية تطبيق إجراءات عادلة وشفافة تشمل مواطنيها في لقاح كورونا

مريضة مسنة تنتظر دورها للحصول على التطعيم ضد كورونا في هلسنكي (أ ف ب)

في الحقيقة، ليست هذه هي المرة الأولى التي تشغلني هذه القضية، فقد كتبت عنها منذ بعض الوقت في موضع آخر، لكن وجدتني بعدها أريد مراجعة بعض ما ناقشته، فضلاً عن تطويره، أو بلورته أكثر، فالعدالة قيمة كبرى تمحور حولها كثير من صراعات البشر عبر التاريخ، وهي قيمة مراوغة، وليست واضحة كما يتصور البعض.

وفي زمن الشباب تُهت مع تعريفات ورؤى الفلاسفة حول المفهوم، ثم استراح بالي لتعريف المفكر المصري زكي نجيب محمود، رحمه الله، الذي كان ربما أكثر من تأثرت بهم في زمن الشباب، وهو أن العدالة إعطاء كل ذي حق حقه، وبعد ذلك بعد سنوات تراجعت ثقتي في كفاية هذا التعريف، دون أن أجد بديلاً شافياً يريح جهدي بهذا الصدد.

وكعادة كورونا وما أثاره من زخم كبير وكشف عن كثير من جوانب حياتنا المعقدة جاءنا بمعضلة أخرى ذات مستويات متعددة للبحث عن العدالة.

المعضلة

على الرغم من أن العالم لم يناقش كثيراً أن بلداناً تعرضت أكثر من غيرها للوباء، وأن نسبة الوفيات من إجمالي المصابين اختلفت بشدة من مجتمع إلى آخر، لاختلاف مستويات الرعاية الصحية، ومن ثم عدم العدالة بين المجتمعات المختلفة، فإنه طوال صعود الأزمة ترددت معلومات تثير التساؤلات حول إهمال متعمد ضد فئات بعينها، وهو ما تؤكده إحصاءات الولايات المتحدة من أن النسبة الأكبر من الوفيات من ذوي الخلفيات غير الأنجلوساكسون، ما عزاه البعض إلى ارتفاع مستويات الفقر وضعف الرعاية الصحية لدى هذه الفئات مقارنة بالفئات الأكثر تميزاً في المجتمع.

ومن اللافت أيضاً أنه خلال ذروة الوفيات في إيطاليا ودول أوروبا الغربية، فإن بعض وسائل التواصل الاجتماعي في بلادنا العربية روجت تصورات يصعب تصديقها، بأن الاهتمام والرعاية كانا أقل للفئات الأكبر سناً، وتركزت الجهود على الحالات الأكثر استعداداً للشفاء، وهو ما أدى إلى ارتفاع نسبة الوفيات لدى هذه الفئات المسنة.

أذكر أيضاً أنني أثرت في بداية الأزمة قلقي الشخصي على أوضاع اللاجئين في بلدان الصراع المسلح، وأشرت إلى سوريا تحديداً، والظروف المعيشية القاسية في معسكرات لجوئهم، وضعف الرعاية الصحية، ومن المثير للانتباه أننا لم نسمع عن تفشٍّ غير عادي للوباء في هذه المعسكرات، ما يضيف كثيراً من الغموض حول طريقة عمل هذا الوباء، التي أفهم أنه يصعب تفسيرها حتى داخل البلد الواحد، على الأقل فيما يتعلق بوطني مصر، وفيما صدر من كثير من تصريحات الأطباء حول العالم بضعف اليقين لديهم حول كيفية انتشار الوباء وتأثيره.

مستويات غياب العدالة

على الرغم من أن مفهوم العدالة لم يُثر كما سبق بشكل جاد في شأن الوباء، ولا نظم العلاج، إذا به يقفز بشدة إلى قضية اللقاحات، وعزز هذا بدرجة كبيرة تصريحات صدرت عن مدير منظمة الصحة العالمية من قلق شديد حول إتاحة اللقاحات للدول المتقدمة، والصعوبات أمام الدول الأقل تقدماً والأكثر فقراً، ثم دعمها منذ أيام بالتركيز على بعد محدد وواضح، وهو أن الدول الصناعية الكبرى قد اشترت وخزنت من اللقاحات ما يزيد على حاجتها، وهو ما سيؤدي إلى إبطاء حصول بقية الدول، خصوصاً الفقيرة، على حصتها بهذا الصدد، وهو ما أثار تصريحات وكتابات مشابهة حول العالم في الاتجاه نفسه. وفي حينه اعتبرت تصريحاته الأولى غير كافية، ولا تعكس قضية العدالة بشكل شفاف ومخلص خلافاً لتلك الأخيرة.

وما أطرحه هنا هو المستويات العديدة لعدم العدل بهذا الصدد، فمنذ أيام أثيرت أزمة في لبنان من تنفيذ عملية تطعيم لخمسة عشر من النواب البرلمانيين، ومعهم خمسة من كبار الموظفين الإداريين، دون التزام الخطة التي أعلنتها اللجنة الوطنية المعنية، ما أدى إلى تهديد رئيس اللجنة بالاستقالة، ثم تراجعه، لكن المسألة أثارت أبعاداً واضحة في شأن العدالة تكمل ما اكتفت به منظمة الصحة العالمية، وتسبب في انتقادي إياها في البداية، وهو أن هناك بعداً آخر للعدالة، ربما لا يقل أهمية، وهو داخل البلدان المختلفة، وهو خطورة توفير هذه اللقاحات بأي شكل غير عادل، مثلاً على أساس النفوذ السياسي كما حدث في لبنان مثلاً، أو أيضاً بناءً على اعتبارات طائفية أو مناطقية داخل البلدان المختلفة، خصوصاً في البلاد غير الغربية التي تشهد هذه النزاعات، وللأسف ليس متوقعاً هذا في كندا مثلاً على حساب كيبيك مثلاً، بل إن المخاوف الحقيقية في بلدان الجنوب أن تتم إجراءات تمييزية ضد مناطق معينة أو إثنيات معينة، وقد طرحت تحديداً مخاوفي بالنسبة إلى عدة حالات.

مخاوف مشروعة من تمييز طائفي أو إثني

أتمنى أن تركز منظمة الصحة العالمية على هذه القضية بالقدر نفسه الذي أعطته للفجوة بين الأغنياء الأنانيين من الدول الصناعية الكبرى والدول الفقيرة، وأن تعلن ضوابط حاسمة بالنسبة إلى بعض الحالات، وأحاول أن أعدد بعضها تحديداً:

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حالة مناطق النزاعات وضعف سيطرة الدولة، ويأتي في مقدمتها التي تسيطر عليها الميليشيات المتطرفة، كما في إدلب السورية، حيث ميليشيات "داعش" و"القاعدة"، برعاية ومشاركة تركية في احتلال هذه المناطق، ربما في هذه الحالة السورية يمكن تقسيم المسؤولية بين تلك الأممية والمسؤولية التركية، بحيث يجري تقديم الرعاية الصحية واللقاحات للسكان المدنيين وفقاً للقواعد والترتيبات الصحية التي تعتمدها أغلب دول العالم، ولو اتبع صانع القرار السوري مساراً رشيداً في إدارة هذه الأزمة لعرض تلقائياً، وبشكل يحرج الطرف التركي المحتل، أن يلعب دوراً مهماً في هذا الصدد، وهي رسالة مطلوبة لجزء من شعبه يواجه محنة ضخمة متواصلة.

وامتداداً للنزاعات، تأتي حالات كإقليم "تيغراي" في إثيوبيا، وكل مناطق التمرد والنزوح في العالم، وليس في أفريقيا فحسب، حتى لو كان هناك تمرد أو أخطاء ارتكبتها هذه الحكومات، فإن المجتمع الدولي يجب أن يؤكد مسؤولية تلك الأنظمة، سواء كانت المتسببة في هذه النزاعات، مثل حالتي "تيغراي" والروهينغا، أو كان الأمر خارجاً عن إرادتها كحالة المناطق ضحية "بوكو حرام" في أفريقيا.

الحالة الثالثة المعقدة هي الدول التي تعاني انقسامات سياسية أو عرقية أو دينية تؤدي إلى حالات من التمييز السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومشكلة هذه الحالات أن أغلب حكوماتها تنكر وتنفي أي ادعاءات بالتمييز، وتعيش حالة من الإنكار السلبي الذي يضعف من أداء الدولة وخدمة مواطنيها بشكل سليم، وهنا تتبدى مسؤولية المنظمات الأممية من ربط تقديم المساعدات الخاصة باللقاحات بدرجة شفافية عالية وتطبيق المعايير الصحية نفسها في كل الدولة.

أما الحالة الرابعة فربما تكون الأكثر وضوحاً من الناحية القانونية، وهي حالة الشعوب تحت الاحتلال، وعلى الرغم من أن أن البعض قد يذكر أكثر من مثال، فإن الشعب الفلسطيني يظل أهم نموذج بهذا الصدد، وهناك مسؤولية لا تقبل الشك بالنسبة إلى إسرائيل فيما يتعلق بتوفير اللقاحات لكل الشعب الفلسطيني، بما في ذلك غزة، فقيام إسرائيل بفك الارتباط مع القطاع لا يعفيها من المسؤولية في ضوء حصارها المستمر للقطاع، ومنعه من الترابط مع الضفة.

وفي الواقع، إن القطاع يمكن تصنيفه نوعاً من الاحتلال المستمر ذي الطبيعة المغايرة لنسق الاحتلال في حالة الضفة الغربية، ولهذا حديث طويل لن ندخل في تفاصيله الآن، لكن في النهاية كون إسرائيل قد حققت اختراقاً سبق حتى الدول الكبرى الغربية في نسبة التطعيم، يجعلها قادرة على استكمال هذا للشعب الفلسطيني، وليس تعطفاً، وإنما مسؤولية قانونية، وحتى مصالح في ضوء حجم التفاعلات مع الشعب الفلسطيني.

ما يجب أن نختتم به أن تطبيق مفهوم العدالة في صدد اللقاحات متعدد المستويات، والمسؤولية لا تقع على الدول الغنية وحدها، بل إن الدول الأكثر فقراً، وجميع الحكومات والمنظمات الدولية، مسؤولة عن تطبيق إجراءات عادلة وشفافة تشمل جميع مواطنيها.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل