أمامنا ثلاث فرضيات تتعلق بتلك "المصادفة" التي جعلت تنازل الملكة السويدية كريستينا عن العرش على شاشة روبين ماموليان، تسبق تنازل ملك إنجلترا عن عرشه بدوره بثلاث سنوات ما يعني أن ثمة رابطاً ما بين الحدثين الكبيرين. وحين نقول هنا "على الشاشة" نعني الفيلم الذي حقق في هوليوود عام 1933 من بطولة غريتا غاربو، والذي حققت عروضه العالمية نجاحات مدهشة. فهذا الفيلم طاف في الأذهان ما إن تحول ملك إنجلترا إلى "دوق وندسور" متنازلا عن عرشه لأخيه لأسباب لا تزال مثار جدل حتى اليوم، أهمها تفضيله حبه للإنجليزية مدام سمبسون على المكانة الأرفع في بريطانيا. أي أن الحب كان هو السبب الأساس في تنازل كريستينا قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون في الحكاية التي يرويها الفيلم المذكور. فإما أن الملك الإنجليزي شاهد الفيلم ووجد أن لا بأس أن يفعل الشيء نفسه، وإما أن الأمر كان مجرد صدفة، وإما أن صناع الفيلم حدسوا بما سوف يحصل فاستبقوا الأمور لكي يبدو الفيلم صانعاً للأحداث.
غريتا بين آنا وكريستينا
طبعا ليس لدينا جواب قاطع هنا يتعلق بتفضيلنا واحدة من الفرضيات. لذا لنقل أن الصدفة كانت هي من لعب الدور لأساسي لنجدنا مرة أخرى أمام الفن الذي يستبق أحداث الحياة. والفن هنا يتعلق بفيلم "الملكة كريستينا" الذي لم يولد على أية حال يوم إنجازه بل تحديداً قبل ذلك بنحو نصف دزينة من الأعوام حين كانت غريتا غاربو، التي سنعود بعد سطور إلى علاقة حياتها أكثر بتلك "الصدفة نفسها"، كانت تمثل في فيلم "آنا كريستا" فذكرت أمام صديقتها الكاتبة سالكا فيرتل، أنها تشعر أن ذلك الدور يشبهها وكأنه خلق لها فقالت الصديقة، "لكني أرى أن شخصية الملكة كريستينا تشبهك أكثر وأعتقد أنك إن مثلت دورها على الشاشة ستجدين نفسك أكثر!". والحقيقة أن غريتا غاربو لم تكن حينها في حاجة إلى قراءة أي كتاب عن حياة الملكة السويدية الشهيرة (1626 – 1689) التي تنازلت عن العرش بعد أربع سنوات من ارتقائه بسبب الحب، ولكن أيضاً لأن البلاط كان يريد إجبارها على الزواج من ابن عمها لضرورة أن تنجب وريثاً للعرش من العائلة. والحال أنه كان ثمة أسباب عديدة أخرى برعت مئات الكتب والدراسات التاريخية في التجوال بينها ومنها حب الملكة للفنون والآداب الذي جعلها حتى وهي ملكة لسنوات أربع (1650 – 1654) تستقبل في القصر كبار المفكرين والفنانين الأوروبيين تحيط نفسها بهم (ومنهم الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي ستستضيفه وتحميه حتى نهاية حياته إذ من المعروف أنه مات في السويد) وكذلك نسويتها المبكرة التي جعلتها رافضة للانصياع للضرورات العائلية وإملاءات أهل البلاط.
حب على الشاشة
هذا في الواقع التاريخي، أما في النسخة السينمائية فإن الفيلم لم يتمكن في الحيز الزمني الضيق من التركيز إلا على حكاية الحب الذي ربط كريستينا وهي على العرش مع موفد من البلاط الإسباني... إنما مع وقفات وإن مختصرة عند الجوانب الأخرى من حياة الملكة. وإلى هذا يتوقف الفيلم طويلاً عند فعل التنازل عن العرش الذي غادرت كريستينا السويد بعده لتتجول في عدد من المدن الغربية من بروكسل إلى باريس إلى مدريد متبعة هواها ولكن متبعة كذلك مزاجها الخاص وتفضيلاتها الفكرية والاجتماعية.
مهما يكن فإننا إذا كنا في الفقرات السابقة قد أشرنا إلى علاقة "صدفة ما" تربط بين تنازل كريستينا عن العرش وتنازل الملك الإنجليزي عن العرش، نجدنا هنا ميالين إلى ربط الفيلم نفسه بحدث كبير ستعرفه حياة غريتا غاربو نفسها، ولكن بعد الفيلم بثماني سنوات ويمكن تلخيصه بعبارة شهيرة نقلت على لسانها في العام 1941، حين اعتزلت هي بدورها العرش الذي كانت ارتقت إليه، على الأقل مع قيامها بدور الملكة كريستينا، عرش النجومية في العالم الهوليوودي، إذ قالت في لحظة وداعها الفن نهائياً، "لقد عشت حياتي كلها وأنا أشبه بالرمز، ولقد سئمت من العيش كرمز وأريد الآن أن أصبح كائناً إنسانياً". ونعرف أنها نفذت رغبتها تلك بشكل جعلها أسطورة وهي بعد في عز شبابها سائرة في ذلك على خطى الملكة المدهشة التي سيقال لاحقاً إنها كانت تعتبرها، على أية حال، مثلاً أعلى لها منذ صباها المبكر. وهكذا نجدنا هنا مرة أخرى أمام الفن وقد استبق الحياة وفسر أحداثها اللاحقة عليه! غير أن هناك من قدم تفسيرات أخرى. وظل اعتزالها سؤالاً من الصعب أن يجيب عليه أحد. فبالنسبة إلى الناس جميعاً كانت غاربو صموتة بالكاد تفتح فمها لتتكلم فاتسمت بغموض مدهش. ولذلك وحدهم الذين عرفوها عن كثب، وكانوا قلة، كان يجيبون، لكن الغريب أن إجاباتهم كانت غالباً ما تزيد الغموض غموضاً... وتزيد من صعوبة اختراق ملامح "أبو الهول" هذا!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شخصية انطوائية؟
"كانت شديدة التردد" قالت صديقتها ماري ديسلر، فيما قال المخرج كلارنس براون، الذي كان له حظ إدارتها في سبعة من أهم أفلامها (ومن بينها "أنا كريستي" و"آنا كارينينا")، أنها كانت "خجولة وحيية إلى حد المرض" مضيفاً أنها كانت "خرقاء حين تلتقي الغرباء. فإذا حدث لها أن لمحت داخل استوديو التصوير شخصاً لا تعرفه، ترتبك وترتجف وتعجز عن إكمال المشهد". ومع هذا كان جون باريمور يراها فائقة الذكاء. أما دوغلاس فيريانكس فكان يرى أن المرء كان في إمكانه "أن يمر مئة مرة أمامها من دون أن يتعرف عليها. إلا إذا أرادت هي ذلك. كل ما في الأمر أنها كانت امرأة عادية، لكنها كانت غريبة على نمط الحياة الأميركية". ومن الناحية المهنية كان الجميع يعترف لها بالموهبة الكبيرة، لكنهم أجمعوا على أنها لم تكن ودودة على الإطلاق.
وفي مطلق الأحوال ندر أن لجأ واحد من هؤلاء جميعاً إلى ذكر دورها في "الملكة كريستينا" كخلفية لاعتزالها وسكوتها، كان يمكن أن يقال أن الاعتزال والغموض كانا يشكلان جزءاً أساسياً من الشخصية التي بنتها لنفسها. ولعل أكبر دليل على هذا، الطريقة التي بها تركت في نهاية الأمر، وقبل وفاتها بنصف قرن، عملها السينمائي مبتعدة نهائياً عن الشاشة، فهي بعدما لعبت دور البطولة في فيلم "المرأة ذات الوجهين" من إخراج جورة كيوكر في العام 1941، وهو الدور الوحيد الذي كانت فيه "امرأة أميركية نمطية"، أحست أن الجمهور لم يتقبلها كثيراً في ذلك الدور وهكذا اتفقت، مع الاستديو على أن تبتعد عن الشاشة بعض الوقت لكي يقيض لها (علماً بأنها كانت لا تزال في قمة مجدها وفي الثامنة والثلاثين) أن تختار عملها التالي بدقة وتؤدة حتى "تعود إلى الشاشة عودة مظفرة". وهكذا ابتعدت موقتاً أول الأمر. لكن الوقت أخذ يمضي، شهور ثم سنوات وهي غائبة، اكتفت بالسفر، والقراءة، وسماع الموسيقى ومصادقة عدد قليل جداً من الأشخاص. وكان آخر ما تتمناه خلال ذلك الابتعاد هو أن يصورها أحد أو يطرح عليها صحافي سؤالاً.
تقدم في العمر؟!
في النهاية هل كانت قد بدأت تحس بالتقدم في العمر؟ هل رأت أن جمالها يذوي؟
المهم أنها لم تعد أبداً إلى الشاشة. وصمتها الذي كان سحراً وربما "دلالاً" أول الأمر صار نهائياً... فقط بين الحين والآخر خلال السنوات الأخيرة من حياتها كان مصور ما ينجح في التقاط صورة لها خفية، وبالكاد يصدق الناس أن العجوز التي في الصورة هي هي فاتنة الجماهير ونجمتهم الأسطورية. لكنهم في النهاية، ذات يوم من العام 0199 كان لا بد لهم أن يصدقوا أخيراً، نبأ وفاة غريتا غاربو التي أخذت معها أسرارها. فهل يتمكن أحد ذات يوم من كشف هذه الأسرار. أو على الأقل من تأكيد أنه لم تكن هناك أسرار ولا من يحزنون؟