Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحيل "الرئيس" جان عبيد بعد "رحيل" الجمهورية

هو ابن مرحلة من زحام الأفكار والتيارات والصراعات نشعر اليوم بالحنين إليها كأنها "العصر الذهبي"

لم يصل جان عبيد إلى منصب رئاسة الجمهورية حين جاءته الفرصة مرتين (غيتي)

لبنان حزين فوق همومه وغضبه على حكامه والمتحكمين بهم وبه، ومعاناته من تراكم الأزمات. رحل الرجل الذي تليق به رئاسة الجمهورية وسط زحام "المستقتلين" عليها، ممن تبدو كبيرة عليهم رئاسة بلدية صغيرة.

الكل كان ينظر إليه ويتعامل معه باحترام كأنه في المنصب، وهو لم يصل إليه حين جاءته الفرصة مرتين، مرة رفض فيها قبول شروط الأوصياء على لبنان، وأخرى لأنه "مُتعب" ويناقش ولا يأخذ الأوامر في رأي الأوصياء الذين اختاروا سواه.

أما المجلس النيابي، فإنه لا يختار بل يصوّت لمن وقع عليه الخيار، وأما اليوم فإن الخسارة الوطنية مزدوجة، رحيل الجمهورية نفسها سبق رحيل الرجل الذي يستحقها.

كورونا قتل جان عبيد الذي لم يخبئ رأسه في مواجهة العواصف، وكان همه الحفاظ على رأس لبنان وقت تغيير الدول. هو ابن مرحلة من زحام الأفكار والتيارات والصراعات نشعر اليوم بالحنين إليها كأنها "العصر الذهبي". مرحلة مدّ قومي عربي راديكالي ومدّ يساري شيوعي ومدّ قومي سوري اجتماعي وتيار ليبرالي عجزت الانقلابات العسكرية عن القضاء الكامل عليه، وتيار فينيقي لبناني وسط يقظات طائفية وتأثير محدود لأحزاب الإسلام السياسي.

كانت قضية فلسطين القضية المركزية، وخيار جان عبيد كان لبنان العربي ضمن اللبنانية الأصيلة والمنفتحة والعروبة الحضارية. في دمشق تعرّف إلى ميشال عفلق وصلاح البيطار في بداية صداقة عميقة، وهناك عرف محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد ومصطفى طلاس وحكمت الشهابي وعبدالحليم خدام، وأول محطة في "لجوء" عفلق والبيطار كانت منزل جان عبيد في بيروت.

وفي بيروت رافق تقي الدين الصلح ومُنح الصلح، وكانت بداية صداقة مع ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف ومحمود عباس، ثم توسعت الدائرة إلى شخصيات عراقية ومصرية وسعودية، وكل ذلك أيام عمله الصحافي، إذ كان واحداً من الصحافيين الذين ذاقوا الحبس في سجن الرمل.

وفي مرحلة الجنون خلال حرب لبنان وبعدها، فإن جان عبيد كان حكيم المرحلة وبقي على صلة بالقادة الفلسطينيين، وعلى اتصال دائم مع كمال جنبلاط ومحسن إبراهيم وبكركي وريمون إده والدكتور جورج سعادة ومحمد حسين فضل الله وسواهم.

كان صديقاً للرئيس سليمان فرنجية، ومستشاراً للرئيس الياس سركيس ثم الرئيس أمين الجميل، وتعمّقت صداقته مع الرئيس حافظ الأسد وعبدالحليم خدام وحكمت الشهابي ومصطفى طلاس ومحمد الخولي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعد "الطائف" دخل المجلس النيابي وتولى حقيبة التربية الوطنية ثم حقيبة الخارجية، وفي الخارجية عمل على تكبير دور لبنان العربي والدولي، وتوسعت دائرة أصدقائه وعلى رأسهم الأمير سعود الفيصل الذي سمّاه "حكيم الوزراء العرب".

كل هذا وجان عبيد بلا حزب ولا تيار ولا طائفة ولا قبيلة ولا عشيرة وراءه في بلد الطوائف والمذاهب والقبائل والعشائر والعصبيات، فرصيده العقل والوطنية والانفتاح والثقافة.

هو حزب في حد ذاته، وظاهرة نادرة حتى في لبنان لا وجود لها في بلدان الأنظمة الشمولية. رمز لزمن جميل نبكي عليه اليوم، ومنفتح على كل ألوان الطيف السياسي ومحاور لها، لكن له لونه الخاص الثابت.

يقول رأيه بوضوح في حضرة الكبار حين يختلف مع مواقفهم من دون خشية أو تردد، وينتقي تعابيره بدقة الجوهرجي كأن كل جملة عنده معادلة. خبير بالإسلام مقدار ما هو خبير بالمسيحية، وعارف بتيارات الفكر الفلسفي والسياسي المعاصر، لكن رفيقه الدائم هو قصائد المتنبي، والرأي الذي يمارسه عملياً هو قول البابا فرنسيس أخيراً، "السلطة الحقيقية هي الخدمة"، وقول ألكسيس دو توكفيل قبل قرنين، "الأنانية للمجتمعات مثل الصدأ للمعدن".

كان الصحافي الكبير جورج نقاش صاحب العبارة الشهيرة في تاريخ الاستقلال اللبناني، "سلبيتان لا تصنعان أمة"، يقول إن "الصحافة موت وقيامة كل يوم، وهي تأخذك إلى أعلى المراتب شرط أن تتركها".

الصحافي شارل حلو صار رئيساً ترك الصحافة، وجان عبيد صار وزيراً و"رئيساً" مع وقف التنفيذ من دون أن يتوقف شغفه بالصحافة والأخبار وحرصه على رفقة الصحافيين والإعلاميين.

رحل لكنه لا يزال في القلوب والعقول، ونحن في ورطة قادتنا إليها نظرية السلطة للأقوياء في طوائفهم، ورطة أدخلت لبنان المأزوم أصلاً في مأزق لا مخرج منه بسبب عناد شخصين وصراعهما على الحصص في الحكومة، وسط إمساك طرف قوي مسلح بالبلد، وتوظيفه كورقة في ملف المشروع الإيراني وضمنه لعبة التفاوض بين واشنطن وطهران، والناس في غضب على أصحاب الأزمات.

وليت المسؤولين الذين تباروا في مديح جان عبيد بعد رحيله يتعلمون شيئاً من حياته التي ينطبق عليها قول جورج برنارد شو، "الحكمة ليست بتذكر الماضي بل بالمسؤولية عن المستقبل".

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل