في العرض المسرحي المعنون بـ"من 15 سنة"، نحن أمام نصين مسرحيين دُمجا معاً، الأول، "مهاجر بريسبان" للشاعر المسرحي اللبناني جورج شحادة، والآخر للشاعر المسرحي المصري إبراهيم الرفاعي.
في نص شحادة، الذي اعتمد ترجمة الكاتب المصري فتحي العشري، لا ترجمة الشاعر السوري أدونيس، نحن أمام مهاجر يعود بعد غربة طويلة إلى قريته، راغباً في تصحيح خطأ ارتكبه مع إحدى نساء القرية، التي حملت منه ورفض الاعتراف بذلك وتركها وهاجر.
يموت الرجل فور وصوله إلى القرية، ونعرف من الأحداث أنه كان يريد تعويض المرأة التي تعامل معها بنذالة، والاعتراف بابنه منها.
قبل أن يعلن عمدة القرية أن الرجل كان يحمل معه مبلغاً مالياً كبيراً، سيؤول إلى المرأة المقصودة وابنها، اشتبه كل رجال القرية في نسائهم، وساور كل منهم الشك في أن زوجته هي الفاعلة، وقرر بينه ونفسه أن ينتقم لشرفه بقتلها، لكن الأمر تغير تماماً عندما أعلن العمدة نبأ الأموال التي كان يحملها المهاجر، إلى درجة أن كل رجل كان يزين لامرأته الاعتراف بالخطيئة القديمة ليكون المال من نصيبه، ومنهم من راح يضرب زوجته التي ترفض الاعتراف بخطيئة لم ترتكبها.
وبعد أن غلب الطمع على ادعاء الشرف والاستقامة، اتضح أن المهاجر لم يكن يقصد هذه القرية، بل أخرى مجاورة، لكن الحوذي الذي كان في حالة سكر جاء به إلى القرية الخطأ.
فكرة مضافة
وإذا كان جورج شحادة قد أراد تعرية النفس البشرية وكشف زيف الإنسان، وأطماعه، وادعاءاته، وضعفه أمام المال، فإن إبراهيم الرفاعي الذي استفاد كثيراً من نص شحادة، لعب على فكرة أخرى إضافية. فلا مهاجر هنا وصل القرية، بل الذي وصل هو خطاب من رجل مجهول يقول فيه، إنه على مشارف الموت ويريد تعويض المرأة التي أخطأ معها والاعتراف بابنه منها ومنحهما مبلغاً كبيراً من المال. وبعد ما يحدث من رجال القرية من شك في نسائهم (كما عند شحادة) يتضح أن الخطاب مجرد لعبة دبرتها زوجة العمدة لإثارة قضية تشغل بها أهل القرية عن الجرائم التي يرتكبها زوجها وحاشيته. وهو ماتفعله السلطة الفاسدة بإثارة شائعات تشغل بها مواطنيها عن مفاسدها. أي أن الكاتب هنا أضاف إلى فكرة تعرية النفس البشرية، ووضعها أمام اختبار يتحدد على أساسه معدنها، فكرة أخرى تتعلق بفساد السلطة وألاعيبها، فضلاً عن سخريته من السلطة، حيث صور العمدة في شكل كاريكاتوري. ووضع تصريف الأمور في يد زوجته بمساعدة تابعه، وكذلك شيخ الخفر بديلاً عن رئيس البلدية عند شحادة.
هذا المزج، أو هذه المعالجة أضفت على نص العرض جواً شعبياً مصرياً، وقربته كثيراً إلى الروح المصرية، ما ناسب تماماً طبيعة الفرقة التي قدمت العرض، فرقة "السامر" التابعة لهيئة قصور الثقافة (مؤسسة مصرية رسمية). وقدمه مخرجه عمرو حسان مازجاً الكوميديا بالتراجيديا، من دون أن تطغى إحداهما على الأخرى. فجاء عرضه مسلياً ومبهجاً من ناحية، بخاصة أنه تم تضفيره ببعض الاستعراضات الغنائية (موسيقى حازم الكفراوي، وأشعار أيمن النمر). وجاء من ناحية أخرى طارحاً لفساد أو ألاعيب السلطة، وكذلك فساد المواطنين أنفسهم، واستعداد البعض منهم للتخلي عن فكرة الشرف والاستقامة مقابل المال، مدفوعاً بالحاجة أحياناً، أو بالطمع في أحيان أخرى، وإن لم يغفل تقديم نماذج سوية من أهالي القرية، وكأن إدانته لهم ليست على إطلاقها، وإذا علمنا أن النص المصري مكتوب قبل يناير (كانون الثاني) 2011 لأدركنا ماكان يرمي إليه كاتبه.
سبب العنوان
أما عنوان العرض "من 15 سنة"، فيعود إلى ماجاء في خطاب الرجل متضمناً أن واقعة الحمل تمت قبل خمسة عشر عاماً، وكانت المصادفة التي جعلت أغلب رجال القرية يشكون في نسائهم وأن معظمهن لديهن ابن في الرابعة عشرة من عمره، وهي مصادفة مقصودة لتبرير الشك، الذي انتاب الرجال في نسائهم. وأياً كان حجم استفادة الكاتب المصري (رحل أخيراً متأثراً بفيروس كورونا) من نص جورج شحادة، ومدى مشروعية ذلك، وقد أشار إلى أن نصه مأخوذ عن "مهاجر بريسبان"، فإن مايعنينا هنا هو نص العرض الذي قدمه المخرج ساعياً إلى طرح رؤيته التي جمعت بين رؤية الكاتبين، وتماست مع الواقع المصري بسلاسة من دون أن تثير مشاكل رقابية.
اعتمد العرض ديكوراً رمزياً (صممه محمد فتحي) استخدم فيه خامات بيئية مثل البوص والجريد مشكلاً منها فضاء مسرحياً يشير إلى قرية مصرية، مرتكزاً على منطقتين، الأولى تمثل ساحة القرية، والأخرى في مستوى أعلى في عمق المسرح ثمثل ساقية ومجرى مائياً، واستخدم الفراغات التي يتيحها البوص في يمين المسرح ويساره وعمقه كشاشات عرض في بعض اللحظات. وهو استخدام ذكي لعبت فيه الإضاءة (صممها عز حلمي) دوراً مهماً. وعلى الرغم من جودة الملابس التي صممها مهندس الديكور ومناسبتها لبيئة العرض، فقد اتسم بعضها بالسذاجة، بخاصة ملابس اثنين من رجال القرية، قتل أحدهما زوجته، وقتل الآخر (بالخطأ) حبيب زوجته القديم أثناء دفاع هذا الحبيب عنها عندما هم الزوج بقتلها، فجعل في جلباب كل منهما بؤرة حمراء كبيرة، كإشارة إلى أنهما قاتلان. وقد بدت البؤرة الحمراء هذه مثيرة للضحك أكثر من كونها مشيرة إلى جريمتي الرجلين، بخاصة أن القتل جاء علنياً وأمام الجمهور، أي أن المصمم أكد المؤكد أصلاً.
انضباط التمثيل
جاء التمثيل في أغلبه منضبطاً ومتوافقاً مع طبيعة الشخصيات، من ناحية أن أغلبها على قدر من السذاجة أو البساطة. وهي طبيعة تغري بالكوميديا التي جاءت هنا بحساب، ربما بفضل سيطرة المخرج على ممثليه وكبح جماحهم، وإلا غامت الرؤية أو وصلت مشوشة، مكتفية بالإضحاك من دون أن تصل رسالة العرض كاملة، وقد وعى الممثلون ذلك، لا سيما أن أغلبهم متمرس في اللعبة ويمتلك خبرة طويلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العرض قُدم على مسرح المركز الثقافي في الجيزة، الذي يقع وسط منطقة شعبية وهو ما أتاح له إقبالاً جماهيرياً كبيراً، ليس لأن عروض قصور الثقافة تقدم بالمجان فحسب، ولكن لأن العرض لامس قضية قريبة إلى الناس، وتعامل معها بمفردات تروقهم، وطرح يناسب مستوياتهم كافة. فمنهم من تمتعه الحكاية والصورة من دون أن ينشغل بالدلالة، ومنهم من يستمتع ويقرأ كذلك ما بين السطور، وهي معادلة صعبة تحتاج رهافة خاصة من صناع العرض.
شارك في التمثيل: مصرية بكر، وشيماء حمدي، وخالد محروس، وآية عبدالحميد، ونهال أحمد، ونوران خالد، وأحمد هيثم، ومحمد النبوي، وإيهاب عزالعرب، ومحمد أمين، وأشرف شكري، ومحمد خيري جمعة، ومحمد بطاوي، وفاطمة زكي، وندى عفيفي، والأطفال صفوت محمد، ويونس النبوي، ومحمد إيهاب، ومصطفى عمار.