Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صلاح عبد الصبور يعود إلى الصدارة بعد "السهرة المشؤومة"

الذكرى الأربعون لرحيل الشاعر المصري الرائد فرصة للاحتفال به طوال سنة

الشاعر المصري الراحل صلاح عبد الصبور (بريشة علاء رستم - اندبندنت عربية)

هذا العام يجب أن يكون عام الشاعر الرائد صلاح عبد الصبور (1931 - 1981)، عام الذكرى الأربعين لرحيل أحد أبرز مبدعي القصيدة الجديدة في عالمنا العربي. هذا الرأي يتفق عليه الشعراء، المصريون والعرب. فهو على الرغم من دوره الطليعي وموقعه الريادي، لم ينل ما يستحق من اهتمام جماهيري، كما تفيد مقالات كثيرة نقدية وصحافية، بسبب طابعه الفلسفي وتركيزه على مسائل وجودية، وربما لطغيان "نبرة الحزن" فيه.

يقول شعراء عرب إن صاحب "الناس في بلادي" تعرض لتغييب متعمد، ويطالب بعضهم بأن يكون العام الحالي مكرساً على نحو ما لاستعادة الشاعر الراحل الذي لم يحظ بأي صورة من صور التكريم، مع أنه شغل مواقع مؤثرة في المؤسسات الثقافية الرسمية منها رئاسة هيئة الكتاب المصرية. وكان هذا المنصب آخر ما شغله صاحب "مأساة الحلاج" قبل وفاته التي جاءت عقب سهرة وصفها الناقد جابر عصفور في كتابه "رؤيا حكيم محزون" بـ "السهرة المشؤومة".

كانت السهرة في بيت الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وحضرها الشاعر الراحل أمل دنقل وزوجته الناقدة عبلة الرويني، ووفقاً لما رواه عصفور الذي حضر أيضاً، "جاءت الوفاة إثر أزمة قلبية أصيب بها عقب نقاش حاد بين عبد الصبور ورسام الكاريكاتير الراحل بهجت عثمان الذي اعتبر الشاعر بمثابة "مثقف خائن باع قضيته بملاليم"، في حين رد عبد الصبور على اتهامات بهجت، مؤكداً أنه لم يبع، ولم يتخلّ عن موقف اتخذه، واحتدم في التعليق على بهجت، وشعر بعدها بإرهاق دفع رفاق سهرته إلى نقله إلى مستشفى قريب لتلقي العلاج، إلا أنه فارق الحياة هناك".

ضد المهرجانات

يرى الشاعر البحريني قاسم حداد أن عبد الصبور هو الشاعر الذي فتحنا هداياه بعد مغادرته لنا، سريعاً، وتاركاً دواوينه، وكان صوته الخفيض يأتي من الأعماق البعيدة. وإذا كان الصوت السطحي، يتوفر صارخاً، سريع الالتقاط، فإن صوت الأعماق الخفيض يحتاج بعض الوقت للإصغاء والتأمل.

 

ويصدر صاحب "علاج المسافة" حكماً عن معرفة بنصوص تجربة عديد الشعراء الشباب في سبعينيات القرن العشرين، ويقول: "إن معظم تلك الأصوات الشعرية الشابة، آنذاك، صدرت عن علاقة حميمة بتجربة صلاح عبد الصبور، ربما لأن تلك العلاقة الشعرية بعمق صوته، أتاحت للشباب الإصغاء النوعي إلى دلالة الصوت المستوحش الحميم". ويعتقد حداد أن أولئك الشباب كانوا أقرب إلى عبد الصبور من التجارب الشعرية، التي كانت حاضرة في مشهد ذلك الوقت، وحوارهم الشعري كان مع ذلك الصوت الخافت.

 ويستطيع الدارس المتأمل وفقاً لهذا الرأي "اكتشاف كم أن ذلك الحوار كان مثمراً ومنتجاً، وأعطى التجارب الشعرية الجديدة ملامحها الحديثة بروح متميزة من الجدة، واثقةَ الرأي والسجالات والمجابهات أيضاً، حتى أنهم سوف يعتبرون أنفسهم أبناء شعر عبد الصبور، وهو سلفٌ لهم أكثر ممن رافقه أو سبقه". وأكثر ما لفت نظر قاسم حداد في صوت صلاح عبد الصبور، كونه "غرّد خارج سرب موجة الالتزام وأدب الجماهير. تلك الموجة، المهيمنة في تلك اللحظة الثقافية، وراح ضحيتها كثير من الشعراء العرب آنذاك. فالوهم السياسي في الأدب، غرّر بكثير من الشعراء طوال ستينيات أوسبعينيات القرن الماضي، إلا أن تلك المهرجانات لم تغرِ صلاح عبد الصبور بالانخراط، وبقيَ يرى الشعر شأناً ذاتياً، يتوفر على حرية الكتابة التي على الشاعر المحافظة عليها، والتحصن بها. وقد رأينا كيف مات الشاعر متشبثاً بحريته في الخيار، وثقته الرمزية في ذلك".

شعرية الصمت

يؤكد الناقد المصري محمد بدوي صاحب كتاب "الجحيم الأرضي، قراءة في شعر صلاح عبد الصبور 1986" أن عبد الصبور انتمى إلى جيل من الشعراء دفع الشعر العربي إلى أفق الحداثة بالمعنى الشائع في العالم، وبفضل ثقافته الموسوعية انفتح على تجارب كثيرة أهمها تجربة الشاعر "تي. أس. إليوت" الذي أثر فيه أكثر من الآخرين وتبنى خياراته في كتابة شعر له طابع ميتافزيقي. وهو أمر يصل بالشاعر إلى ما يسمى "الفقد الشعري" إذ يصبح منتجاً للأفكار التي تعنى بالوجود البشري.

 

وقد دخل عبد الصبور هذه المرحلة بنجاح عبر مسرحياته الشعرية التي نالت تقديراً كبيراً ومنها "مأسأة الحلاج" و"مسافر ليل" و"الأميرة تنتظر" وسواها.

ويشدد بدوي على أن خيارات عبد الصبور ذهبت بالشعر إلى فضاء لم يعهده القراء، فأصبح شاعراً يعبر عن نفسه في زمن كان خيار الأصوات الشعرية الآخرى "التعبير عن الجماعة"، والتماهي معها بمواكبة الأحداث اليومية والتعليق عليها، حيث التطابق بين الذات الشاعرة وأنا الجماعة، بينما كانت الأنا الشاعرة  لدى عبد الصبور "أنا" متعالية بالمعنى الشعري والفلسفي. ومن ناحية أخرى ابتعد عن قاموسه الرومنطيقي وأوجد لغة تبتعد عن الفصاحة ولا تخضع لسلطة التراث الشعري. فكان معجمه "غير متداول"، وضاعف هذا من تفرده وجعله قريباً من حالة الشاعر أبي العلاء المعري في تراثنا. فهو الشاعر الفيلسوف الذي يمجد الحيرة والقلق المعرفي، وانتهى بما أنجزه إلى صورة لشاعر الميتافزيقا، وهي غير مقبولة في تراثنا الشعري بخاصة عندما بلغ ما يسمى "شعرية الصمت". واختلط داخله صوت الصوفي الحائر بصمت الفيلسوف على نحو أنتج ما يسميه أدونيس "شعرية الكآبة" وهي مسألة غير جماهيرية في المطلق.

ظلم حياً وميتاً

الشاعرة والناقدة نجاة علي ترى أن عبد الصبور "ظلم حياً وميتاً"، معتبرة أن مناقشة أمر ريادته موضوع كلاسيكي. وتتابع: "ظلمته علاقته بالسلطة وتوليه مناصب جلبت عليه الكثير من الصراعات أكثر من المنافع. فكان نموذجاً للمثقف ضحية "استخدام الدولة".

 

ووفقاً لما تؤكده لا يمكن أن يكون صلاح عبد الصبور شاعراً منسياً أو مجهولاً. فهو معروف جداً في الأوساط النقدية المصرية العربية ولا يمكن أن يجهل مكانته وريادته في الشعر أي دارس للأدب، ومع ذلك فهو "غير جماهيري" بسبب طبيعة نصوصه. وتشير نجاة علي إلى أن عبد الصبور لم يكن جماهيرياً بالمعنى الذي يناسب استهلاكه في زمن التواصل الاجتماعي، وتضيف: "لا يمكن أن يعتبر الوضع الحالي لتلقي الأدب مقياساً ولا مؤشراً  صادقاً. فنحن نمر في مرحلة انتقالية على كل المستويات".

بينما يبدو عبد الصبور أمام الجميع "شاعراً خاصاً يكتب للإنسان بمعناه الأكبر، ما جعله بعيداً عن حصد شهرة جماهيرية مقارنة بشعراء آخرين ارتبط اسمهم مثلاً بقضية كبرى مثل محمود درويش الذي حوّل قضية فلسطين المحتلة إلى قضية إنسانية وجودية". وتنتهي نجاة علي إلى القول إننا بحاجة الآن إلى "رد الاعتبار  للشاعر وتكريمه والاحتفاء به، وذلك يكون عبر إدخاله إلى مناهج التعليم وإتاحة أعماله في طبعات جديدة مدقّقة".

الشاعرة السورية رشا عمران لا تعتبر أن عبد الصبور "صار مجهولاً ولا بأية حال"، وتقول: "ربما لم ينل شهرة السياب لأسباب أظنها تتعلق بالفكرة القديمة المتجددة (مصر بلد السرد أما الشعر فهو للعراق ولبنان وسوريا)، وهذا رأي تعميمي طبعاً وفيه ظلم على المستويين، ولكن على كل حال، فإن صلاح عبد الصبور معروف جداً لدى قراء الشعر، خارج مصر، وتأثيره بالغ الأهمية في حركة تطور القصيدة العربية، مع أنه لم يكن غزير الإنتاج شعرياً، نظراً لرحيله المبكر في الغالب، فهو غاب في االخمسين من عمره، أو ربما لأنه انشغل بالمسرح والتنظير".

وتضيف عمران: "ربما كان هو أول من نبهني إلى أن الشعر يطرح أسئلة، في بدايات قراءاتي الشعرية، وأحببت جداً قصيدة "أغنية للشتاء" من ديوان "أحلام الفارس القديم"، فهي ذاتية وفيها نفس وجودي يستهويني أكثر من الإحالات السياسية في قصائد أخرى له". ولا تعرف صاحبة ديوان "التي سكنت البيت قبلي" أنه كان قد تم تهميشه كما يتردد دائماً؟! لكنها تقرّ بأن الشعر العربي حالياً تجاوز مرحلة المؤسسين لما سمي الشعر الحر، وتجاوز مرحلة المؤسسين لقصيدة النثر.

الأكثر تداولاً في إسبانيا

يتوقف الشاعر المصري أحمد يماني المقيم في مدريد أمام منجز عبد الصبور الذي ترك في الخمسين سنة التي عاشها على الأرض تراثاً شعرياً ومسرحياً، له امتدادات واضحة في ما تلاه من أجيال. ويعتقد يماني أن هذه الامتدادات سوف تستمر طويلاً.

 

ويرى أن تجربة صلاح عبد الصبور "هي التجربة الواعية برافدين كبيرين، هما التراثان الغربي والعربي، في لحظة تاريخية فارقة. لذا كان عليه أن يطور هذين الرافدين ليصنع قصيدة متفردة، في لغة بقيت حية إلى اليوم، لأنها جمعت بين ما يبدو متناقضاً، بينما في الحقيقة لم يكن ثمة تناقض في تضفيرته اللغوية، فاللغة البسيطة تختلط باللغة العليا صانعة اللغة الخاصة للشاعر الكبير، وفيها تتواتر مفردة الحزن بأشكال عدة في قصائده. لكن صلاح عبد الصبور لا يرى نفسه شاعراً حزيناً، بل شاعراً متألماً". ويوضح يماني إن "الشاعر المتألم هو شاعر متأمل بطبيعة الحال في الشرط الإنساني، ومن هنا يأتي الألم والرغبة في تجاوز الحزن إلى واقع إنساني أكثر عدلاً وحكمة. وهذا يحدث في تفكيره الشعري مبتعداً به عن بيانات شعرية أو إيديولوجية صارخة ومباشرة ومن خلال الشعر وحده". ويلفت أحمد يماني إلى أن قصيدة "أبي" لصلاح عبد الصبور المترجمة إلى الإسبانية في "أنطولوجيا الشعر العربي المعاصر" والتي أصدرتها المستعربة الإسبانية الراحلة ليونور مارتينيث مارتين عام 1972، يتم تداولها إلى اليوم باللغة الإسبانية على بعض وسائل التواصل الاجتماعي وعلى بعض المدونات الشعرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الشاعرة المصرية زيزي شوشة تعبّر عن جيل أصغر من الشعراء ينظر إلى تجربة عبد الصبور من منطقة مغايرة وتقول: "الشاعر الأكثر حزناً ورهافة، الذي قتلته "كلمة"، لم يقرأه جيلنا (جيل الألفية)، كما لم يقرأه أيضاً، الجيل الذي يسبقنا (جيل التسعينيات). ربما نجد أصداءً لقصيدته لدى بعض شعراء جيل الثمانينيات في بدايات تجاربهم، لكنها أيضاً ليست متجذرة في قصيدتهم. فهناك في الجيل الشاب من تأثروا بالشاعر اللبناني وديع سعادة، والشاعر العراقي سعدي يوسف، لكن صلاح عبد الصبور كان بعيداً دائماً. هناك من يتشدقون بأهميته، كشاعر مؤسس وعظيم، لكني أظن أنهم لم يقرؤوه".

وتضيف الشاعرة التي حازت جائزة جريدة "أخبار الأدب" العام الماضي: "نحن (شعراء القصيدة الجديدة)، منسحقون بشكل مروع، أمام النص الغربي، نلهث وراء القصائد المترجمة حتى لو كانت ضعيفة. لكننا دائماً ما نلقي بشعرائنا في بحر النسيان. الانسحاق أمام النص الغربي، يتأتى من كون "القصيدة الجديدة" التي تُكتب الآن، متسقة أكثر مع الرؤية الغربية، وفي الحقيقة هذه مسألة شائكة. ولذلك ثمة حيرة أمام المنجز الشعري، للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور".

وتروي شوشة تجربتها في قراءته قائلة: "شعرتُ بالتقارب الإنساني، وبقرابة دم بيني وبينه، فقصيدته تشبه "ليل القرية" الذي لا يوجد أحزن منه، لإن منبعها الألم الوجودي المنغرس في أعماق البشرية منذ الأزل". لكن كل هذا لم يعد كافياً من وجهة نظرها كشاعرة تنتمي للحظة الراهنة، حيث لم تصمد الشاعرة أمام صرعة القصيدة الغربية، "التي أصبحنا عبيداً لها" بحسب تعبيرها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة