يتجه صندوق النقد الدولي خلال الفترة المقبلة لاتخاذ خطوات إيجابية لإعفاء السودان من ديونه الخارجية البالغة نحو 60 مليار دولار، من خلال الاستفادة من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون، التي طرحها صندوق النقد والبنك الدولي في 1996، لضمان عدم مواجهة أي بلد فقير عبء ديون لا يمكنه سدادها، بدعم قوي من الولايات المتحدة وبريطانيا وأعضاء آخرين في الصندوق.
وأكدت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، الاثنين 18 يناير (كانون الثاني) في مؤتمر صحافي عبر الإنترنت، أن الصندوق يعمل بتركيز مع السودان لوضع الشروط المسبقة لإعفائه من ديونه بشكل واسع، منوهة بأن الصندوق سيجري في مارس (آذار) المقبل تقييماً للتقدم في برنامج يراقبه خبراؤه، وتأمل أن يقدم بأسرع وقت ممكن إلى الدول الأعضاء حجة قوية بشأن السودان للاستفادة من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون حتى يتمكن من العودة للاندماج في المجتمع الدولي.
لكن ما الشروط التي وضعها الصندوق أمام السودان لإعفائه من هذه الديون، فضلاً عن الدوافع وراء هذا القرار، والأثر الذي سيحدثه على الاقتصاد السوداني؟
يوضح أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعات السودانية، حسن بشير محمد نور، أنه "واضح أن السودان واقع في فخ الأزمة الاقتصادية، ووعود الإعفاء من ديونه الخارجية، لكن من الممكن أن يستفيد الآن من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون، بعد أن تصالح مع المجتمع الدولي، وأنهى عزلته الخارجية، وأساساً كان هناك اتجاه بإدخال السودان ضمن هذه المبادرة العام الماضي 2020، لكن قامت واشنطن بالتصويت ضد هذا القرار نظراً لأن السودان ما زال موجوداً آنذاك في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وبالتأكيد، إذا اتفقت واشنطن ولندن على دعم الحكومة السودانية في هذا الاتجاه، من الممكن أن تستفيد البلاد بإعفاء جزء مقدر من ديونه. فكل الاحتمالات واردة".
نقطة حرجة
أضاف نور "هناك شواهد كثيرة تدل على أن الولايات المتحدة اتخذت قراراً بدعم الحكومة المدنية في الخرطوم، منها الدعم الاقتصادي وتحديداً إعفاء الديون، واستفادة السودان من القروض المقدمة من مؤسسات التمويل الدولية والبنوك، لأنه لا يوجد حل آخر، وإلا سيحدث انهيار تام للاقتصاد الذي يعاني حالياً مأزقاً حقيقياً، إذ بلغت الأوضاع المعيشية أقصى مراحل التأزم، بسبب رفع الدعم عن المحروقات، وزيادة أسعار الكهرباء والغاز، وارتفاع معدلات التضخم بصورة جنونية، وانخفاض قيمة الجنيه السوداني لأدنى مستوى مقابل الدولار، إذ بلغ سعر الدولار في السوق الموازية 280 جنيهاً سودانياً، و55 جنيهاً في البنوك الرسمية".
ولفت أستاذ الاقتصاد السياسي إلى أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وواشنطن تدرك وضع البلاد واقتصاده المنهار، وأن ما يحدث من تراجع في الأوضاع جاء نتيجة تطبيق السودان شروط النقد الدولي بعد توقيع الجانبين اتفاقية للإصلاح الاقتصادي، لكن حتى الآن، لا يوجد ضوء في النفق لتعافي الاقتصاد، إذ وصلت الأحوال إلى نقطة حرجة تحتاج إلى حركة سريعة لإنقاذه من هذه الحال المريعة، متوقعاً أن تواصل إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن دعمها الحكومة الانتقالية في السودان، من منطلق أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات، لن تعطل أي توجهات وقرارات متخذة من قبل إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب تجاه السودان.
أجواء مواتية
وفي سياق متصل، يقول وزير الدولة السابق في وزارة المالية السودانية، عز الدين ابراهيم "أعتقد أن الأجواء حالياً مواتية لإعفاء السودان من ديونه الخارجية، لأن الكلمة الأولى والأخيرة في هذا القرار ترجع لأميركا، والسودان من ناحية فنية، حسب شهادة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، مؤهل لذلك من خلال الاستفادة من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون، وسبق أن أعفيت بموجب هذه المبادرة ديون عدد من الدول الفقيرة بصورة جزئية، وأخرى كلية، وكان من المفترض أن يكون السودان ضمن هذه الدول، لكن واشنطن اعترضت على استفادة البلاد من هذه المبادرة بسبب وجود اسمها في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وبالتالي أصبح الوضع الآن مختلفاً عن السابق، وتم إلغاء العقوبات الاقتصادية الأميركية التي كانت حجر عثرة في تعامل البلد مع المجتمع الدولي ومؤسساته المالية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتوقع ابراهيم أن تعقد في المستقبل القريب اجتماعات بخصوص هذا الموضوع، ما سيفتح للسودان باب الاستدانة من البنوك الدولية، لا سيما بنك الاستثمار الأوروبي، وغالباً ما يتم الإعفاء في ضوء ثلاثة مسارات، إما كلياً، وإما جزئياً، أو قد تعاد جدولة هذه الديون بإعطاء فترة سماح زمنية، لكن بشكل عام، ما يحدث الآن من محاولات في هذا الاتجاه، يعد مسألة إيجابية، فهناك تفاؤل كبير بأن يتخلص السودان من ديونه الثقيلة، لافتاً إلى أن الإعفاء من الديون سيكون من مؤسسات وبنوك ودول خارج نطاق الصندوق، وهناك دول سبق أن أعفت ديونها مثل بلجيكا وهولندا والنرويج.
تدفق أموال
وتابع عز الدين ابراهيم "بالنظر للمعطيات والمؤشرات أمامنا، فإن الوضع الاقتصادي في البلاد على المدى المتوسط والطويل سيكون في أفضل حال، ويشهد تحسناً ملحوظاً، نتيجة تدفقات رؤوس الأموال التي تأتي من الخارج في شكل منح وقروض واستثمارات، وغيرها، لكن تظل المشكلة في المدى القصير، إذ توجد ضغوط معيشية، وصعوبات كبيرة بسبب ارتفاع أسعار السلع، والأزمات الخانقة لندرة وشح العملات الأجنبية، وتدهور سعر الصرف، وضعف الإنتاج في القطاعات المختلفة، وترجع المشكلة لعدم وجود برنامج إسعافي لمعالجة آثار السياسات الاقتصادية التي اعتمدتها الدولة بموجب توصية من صندوق النقد الدولي، إذ كان الصندوق يقدم قروضاً لتغطية العجز في الميزانية، لكنه لم يفعل ذلك بسبب عدم سداد السودان ديونه، ووجود اسمه في لائحة الدول الراعية للإرهاب".
أضاف وزير الدولة السابق في وزارة المالية السودانية "معروف أن الوصفة التي يقدمها صندوق النقد الدولي لإصلاح الاقتصاد تكون قاسية، وهي دائماً ما تكون صحيحة، لكنها تتطلب دعماً خارجياً لتقليل الآثار على المواطن، فمثلاً، رفع الدعم عن السلع الضرورية يحتاج إلى عمل دؤوب في الداخل ونوع من التبصير، ولا بد من التفكير في المآلات، فالاقتصاد السوداني يعاني خللاً في التوازن الكلي ناتج عن العجز في الموازنة، ومن أهم الأسباب التي أدت لذلك، الزيادة الكبيرة في المرتبات التي اتخذتها الحكومة بنسبة تصل إلى 600 في المئة من دون أن تكون هناك إيرادات تغطي هذا البند، فضلاً عن انعدام الدعم الخارجي".
إصلاحات اقتصادية
وأجاز صندوق النقد الدولي في سبتمبر (أيلول) 2020 اتفاقية وقعها في وقت سابق مع حكومة السودان الانتقالية لتنفيذ إصلاحات اقتصادية خلال 12 شهراً من شأنها أن تؤدي إلى تقديم دعم اقتصادي للسودان، بالإضافة إلى إعفائه من ديونه الخارجية، كما تمهد الطريق لحل الصعوبات الاقتصادية التي تواجه الشعب السوداني وإصلاح التشوهات الهيكلية التي خلفها النظام السابق، فضلاً عن تحقيق الاستقرار المطلوب لتحقيق السلام العادل والمستدام في جميع أنحاء البلاد.
وبحسب وزيرة المالية المكلفة في السودان، هبة أحمد، فإن "تنفيذ الإصلاحات اللازمة ستنتج فوائد ملموسة للشعب السوداني من أهمها إعفاء متأخرات ديون السودان بموجب وصول البلاد إلى نقطة القرار الخاصة ببرنامج البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك)، والتي ستمهد الطريق لإعفاء البلاد من ديونها التي تقارب 60 مليار دولار في نهاية المطاف". وأشارت إلى أن برنامج صندوق النقد الدولي "سيتيح للسودان الحصول على تمويل للمشاريع التنموية والإنتاجية الكبرى في كل أنحاء البلاد، مثل مشروع الجزيرة، وموانئ بورتسودان، وسكة حديد السودان، والنهضة بالثروة الزراعية والحيوانية وبالصناعة والصحة والتعليم والبنية التحتية".
وأكدت أن "تنفيذ البرنامج سيجعل السودان مؤهلاً للحصول على أكثر من 1.5 مليار دولار سنوياً من المنح التنموية المباشرة لتحفيز الاستثمار وإنعاش الاقتصاد لخلق فرص عمل خاصة للشابات والشبان وزيادة الإيرادات والصادرات".
وسبق أن اتفقت حكومة السودان وصندوق النقد الدولي في يونيو (حزيران) الماضي على وضع خطة وبرنامج لمدة عام تقوم الحكومة بتنفيذه، وعلى غرار هذه الخطة الاقتصادية، تستطيع الخرطوم طلب مساعدات عبارة عن منح وقروض لتنفيذ مشروعات تنموية إلى جانب إعفاء ديونه المتصاعدة سنوياً بسبب عجزه عن سدادها منذ حقبة الحكومة السابقة.