Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الميت الحي يمشي": محاكمة جماعية للمافيا في إيطاليا صدى أليم لماض دام

تحمل أصداء مؤلمة من الماضي الدامي حينما حاول المحاميان فالكوني وبورسيلينو مواجهتها فقتلا. ويشن القاضي غراتيري اليوم حربه عليها

القاضي نيكولا غراتيري محاطاً بالصحافة والإعلام قبيل بدء المحاكمة الجماعية للمافيا الإيطالية (أ ف ب)

من دون شك، يمثل تولي قضية تتعلق بالمافيا الإيطالية عملاً خطيراً. ولا بد أن القاضي نيكولا غراتيري يدرك ذلك الأمر، مع دخوله قاعة المحكمة الأربعاء المنصرم كي يبدأ محاكمة أقوى عصابات الجريمة المنظمة في البلاد. ويتمتع هذا القاضي بخبرة ثلاثين سنة في الدعاوى الجنائية ضد المافيا، وقد قضى نصف حياته في ظل تدابير معينة من الحماية والحراسة. وفي سياق تجربته تلك، اكتشف في 2005 مخزن أسلحة ضم قاذفاً صاروخياً وبندقية كلاشنيكوف، اعتقد إنه أعِد بهدف اغتياله. أما اليوم، وقبيل بدء المحاكمات الأحدث التي يتولاها في محاولة منه توجيه ضربة كبرى إلى جماعة "ندرانغيتا" Ndrangheta القوية، فقد اعتبره زعماء المافيا سلفاً بأنه "رجل ميت يمشي" (e un morto che cammina) [العبارة مقتبسة من عنوان فيلم هوليوودي شهير].

في الإطار ذاته، تشكل اليوم المحاكمة الجماعية لـ355 شخصاً متهماً بالانتماء إلى المافيا والتعاون معها، لحظة مهمة في التاريخ الإيطالي المعاصر، وتستحضر أصداء مؤلمة من الماضي القريب. وقبل معركة القاضي غراتيري هذه ضد "ندرانغيتا"، شهدت إيطاليا معركة جيوفاني فالكوني وباولو بورسيلينو في وجه العصابات، وهما ربما أشهر محاميين إيطاليين، وقد واجها المافيا وانخرطا في أكبر محاكمة لقضايا الإجرام في التاريخ المعاصر.

واليوم بموازاة انطلاق المحاكمات الراهنة في كلابريا بهدف محاسبة العائلة والجماعة الإجرامية الأكبر في إيطاليا، يستحضر كل من فالكوني وبورسيلينو اللذان واجها في قضيتهما "المافيا الصقلية" (نسبة إلى جزيرة صقلية). ففي عقد الثمانينيات من القرن العشرين، وضمن قضية استمرت سنتين انخرط فيها المحاميان، وعرفت بـ"قضية ماكسي"، عقدت المحاكمات في ملجأ مخصص تحت الأرض، وأخذ في الاعتبار وقتها إمكانية وقوع أحداث دامية وعمليات قتل، ترافقاً مع جلسات المحاكمة. وفي ساعات الصباح الأولى من يوم 1 شباط خلال المحاكمات المذكورة، جرى جلب 100 رجل من سجن "لوكسياردوني" في باليرمو، واقتيدوا عبر سلسلة من الأنفاق الأمنية إلى قاعة المحكمة تحت الأرض، الخاضعة لحراسة مشددة.

آنذاك، جهّزت قاعة محكمة "قضية ماكسي" بثلاثين قفصاً، حيث يمكن للمتهمين أن يقبعوا لمعاينة وقائع الجلسات، فيما نشر أكثر من 3 آلاف شرطي بمنطقة الجزيرة (صقلية) بهدف تأمين الحماية. كذلك جرى الحديث عن تعيين قضاة احتياطيين، كي يحلوا مكان القاضي ألفونسو جيوردانو، في حال تعرض الأخير للاغتيال أثناء المحاكمات.

وأثمرت جهود فالكوني وبورسيلينو في ذلك الوقت، أحكاماً بلغ إجمالي مدد عقوباتها 2665 يوم سجن، ولا يتضمن ذلك الـ 19 حكماً بالسجن المؤبد صدرت في حقق قادة العصابات. وضمن "قضية ماكسي"، وجهت التهم إلى 338 رجل عصابة ومتعاون معهم، في رد اعتبر استثنائياً على جماعات الجريمة المنظمة التي استطاعت مد جذورها في المؤسسات والمناطق الإيطالية المختلفة. حتى أن زعيم العائلة - العصابة، سالفاتوري رينا، تلقى حكمين مؤبدين غيابيين، إذ إنه آنذاك تمكن من تلافي التوقيف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

آنذاك أيضاً، تزامناً مع محاكمات "قضية ماكسي" اعتبِرَ أن الأشخاص الذين يواجهون المافيا ورجال عصاباتها، عرضة لخطر جسيم يتهدد حياتهم وأمن الذين يعيشون معهم. وقد وقع صحافيون، ومسؤولون في الدولة، وأفراد من الشرطة، ضحية الجرائم التي تولت محاكمات "قضية ماكسي" النظر فيها، واستهدف عديد من هؤلاء بعد مشاركتهم في تحقيقات "كوزا نوسترا" (عصابات المافيا في جزيرة صقلية).

في 1992، إثر فشل محاولات استئناف الأحكام الكثيرة الصادرة بحق العصابة، جرى اغتيال كل من فالكوني وبورسيلينو بأمر من سالفاتوري رينا نفسه، الذي استمر متلافياً التوقيف سنة واحدة بعد ذلك. وقد اغتيل فالكوني (53 سنة) مع زوجته وثلاثة حراس من الشرطة بتفجير وقع في كاباسي يوم 23 مايو (أيار) 1992. وبعد شهرين، اغتيل بورسيلينو (52 سنة)، وقتل معه خمسة أفراد من الشرطة في باليرمو، بتفجير "فيا داميليو".

في المقابل، استمر سالفاتوري رينا، حتى بعد أن أوقف وأودع السجن، من خلف القضبان بالتآمر ضد الذين هددوا سلطة العصابات. وقد غدا المدعي العام أنطونيو دي ماتيو، طوال العقد المنصرم، أكثر رجل في إيطاليا يتلقى التهديدات، إثر زعمه أن الدولة والمافيا تفاوضتا بشأن وقف حملة القتل والاغتيالات والتفجيرات التي استمرت ثلاثة أعوام في مطلع التسعينيات من القرن العشرين، وشملت ضحاياها اثنين من وكلاء الادعاء في "قضية ماكسي".

في 2013، ضبِط زعيم العصابة (سالفاتوري رينا) عبر كاميرات مراقبة أثناء إعطائه أمراً باغتيال القاضي ماتيو. وفي الشريط المصور، قال رينا "هذا ماتيو، لن ينجو"، في إشارة إلى زيادة تدابير حمايته من قِبَل الشرطة. وأردف رينا، "إذا تمكنا، سنقتله. ويكون الأمر عملية إعدام كتلك التي كنا ننفذها في باليرمو". في ذلك الوقت، ضمن حديث مع قناة "الجزيرة"، علق القاضي ماتيو على ذلك، مشيراً إلى إنه "حتى الفترة الأخيرة، لم أعرف الخوف أبداً. لكن هذه التهديدات الجديدة جعلتني أشعر بالخوف. الخوف حقيقي. إنه هنا".

واليوم، إذ يواجه القاضي غراتيري منظمات إجرامية مختلفة عن تلك التي واجهها مَن سبقه من القضاة في منطقة مختلفة، إلا أن التهديدات تبقى ذاتها. عن هذا الأمر، قبيل بدء المحاكمات، ذكر غراتيري "إنني في الوقت الراهن، أتوخى مزيداً من الحذر". وأردف، "لا أذهب مسافة عشرة أمتار من دون سيارتي المصفحة. لم أذهب إلى مطعم منذ أكثر من عشرين سنة، ولم أذهب إلى السينما منذ أكثر من ثلاثين سنة. أنا دائماً داخل أمكنة مغلقة. أتناول طعامي في المكتب. وبات منزلي في الحقيقة أشبه بملجأ. لدي فريق جيد من الحراس". وتابع غراتيري، "أنا مدرب على مواجهة الخوف. عليك أن تقف أمام الموت وجهاً لوجه. عليك أن تعقلن هذا الموت، وإلا فليس بوسعك إنجاز عملك طوال تلك السنوات".

تقارير إضافية من الوكالات

© The Independent

المزيد من دوليات