لم تعرف "بورصة" أسعار الخبز في ليبيا استقراراً طيلة عقد الفوضى العامة في البلاد، التي انعكست على كل شيء حتى الرغيف، الذي لم يكن فيما مضى يسبب قلقاً لليبيين، مثل سكان كثير من الدول في العالم، قبل هذه العشرية وسنواتها الضنكة، التي يصفها أهلها بـ"العجاف"، حتى أن انتفاضتهم على نظام معمر القذافي عام 2011، كانت ربما الوحيدة بين نظيراتها، التي لم ترفع شعار المطالب الثلاثة الشهير "عيش – حرية - عدالة اجتماعية"، واكتفوا بالمناداة بالشعارين الأخيرين، فقد كان "العيش وفيراً وبسعر زهيد".
خفت موازينه وارتفعت أسعاره بتسارع مجنون، هكذا يمكن تلخيص حال الخبز، في السنوات الأخيرة في ليبيا، بعد أن وصلت الزيادة في سعره لأكثر من 20 ضعفاً لأسباب عدة أبرزها: ارتفاع سعر الدقيق وجشع التجار وعجز الدولة في كثير من الأحيان عن دعمه كالسابق، بسبب الظروف العامة في البلاد، وتذبذب الموارد النفطية، المصدر الوحيد للدخل في اقتصادها الريعي بالكامل، كما أن جودة الخبز الليبي تراجعت بشكل ملحوظ.
قفزة جديدة لرغيف الخبز
في الأيام الماضية، فوجئ الليبيون بقفزة جديدة في أسعار الخبز، تجاوزت النصف، ليصبح ثمن ثلاثة أرغفة منه ديناراً واحداً، بعد أن كان ثمانية أرغفة بدينار، وسط آراء متضاربة حول السبب الحقيقي لهذه القفزة الكبيرة.
من جانبها، أرجعت حكومة "الوفاق"، المسؤولة عن استيراد الدقيق ودعمه وتحديد أسعار الخبز، سبب ارتفاع أسعاره إلى "زيادة أسعار مكونات الرغيف مع ارتفاع أسعار الزيت".
وقال مدير الإدارة التجارية في وزارة الاقتصاد مصطفى قدارة، في تصريح له، إن "المطاحن زادت أسعار الدقيق وملح الطعام وغيره من مكونات الرغيف، بعد خفض قيمة الدينار أمام الدولار في الفترة الماضية".
مشيراً إلى أن "وزارة الاقتصاد تسعى لتتبع المخزون الاستراتيجي من القمح"، مطالباً بـ"فتح الاعتمادات لتوريد القمح، لزيادة المخزون الاستراتيجي منه الذي يبلغ حالياً 50 ألف طن".
كاشفاً أن "وزارته تسعى لإعادة ضبط أسعار الخبز بالتنسيق مع جهاز الحرس البلدي، في أقرب وقت".
بينما يربط نقيب الخبازين في ليبيا خريص محمد ارتفاع أسعار الخبز بـ"النقص في مادة الدقيق لدى كثير من المخابز بعد ارتفاع أسعارها في السوق التجارية، نتيجة تعديل سعر الصرف".
مبيناً أن "المطاحن رفعت أسعار الدقيق لتصل إلى 210 دنانير للقنطار الواحد، أي ما يعادل 47 دولاراً تقريباً، بعد ما كان يباع بـ155 ديناراً، أي نحو 35 دولاراً للقنطار الواحد"، مشيراً إلى أن "جميع الأصناف المتعلقة بصناعة الخبز ارتفعت أسعارها، لا سيما الزيت وملح الطعام والخميرة".
موضحاً أن "مصرف ليبيا المركزي لم يقم بفتح اعتمادات توريد الدقيق لأصحاب المطاحن منذ أغسطس (آب) الماضي، على الرغم من أن المخزون الاستراتيجي من الدقيق والقمح لأي دولة، يفترض أن يكون كافياً لثلاثة أشهر".
تعويم الدينار يشعل الأسعار
ويرى كثير من المحللين الاقتصاديين في ليبيا أن ارتفاع أسعار الخبز من تداعيات قرار المصرف المركزي، خفض قيمة الدينار الليبي أمام الدولار عند 4.48 دنانير للدولار الواحد، ما بدأ ينعكس على أسعار السلع في السوق المحلية، التي ارتفعت بدرجة كبيرة، مما أعاد الانتقادات التي صاحبت إصدار المركزي لهذا القرار إلى الواجهة.
ويحذر الكاتب والمحلل السياسي سليمان البيوضي، من التقليل من شأن أزمة الخبز، التي "قادت إلى ثورات عارمة في بلدان أخرى"، معتبراً أن "استمرار الصمت بعد ارتفاع أسعار الخبز سيؤدي لمزيد من الإمعان في محاولة إذلال الليبيين وفرض الوصاية عليهم".
وأضاف في منشور على مواقع التواصل، أن "مشروع التفقير الممنهج لليبيين بدأ منذ سنوات ولن يتوقف قريباً".
من جانبه يشير الصحافي الليبي فرج حمزة إلى أن أزمة تذبذب أسعار الخبز ليست جديدة، بل متواصلة منذ سنوات وتتفاقم، فـ"سعر رغيف الخبز في ارتفاع منذ مدة، والدولة تقف مكتوفة الأيدي تجاه هذا الأمر، ولا تستطيع مراقبة ما يجري في المخابز، كما أن حجم الرغيف ينكمش، ولم يعد يعرف له حجم أو وزن محددين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتابع قائلاً إن "ارتفاع سعر الرغيف يضيف أعباء جديدة إلى جيوب الليبيين، التي تعاني الفراغ أصلاً بسبب نقص السيولة وارتفاع الأسعار بشكل جنوني".
سعر الدولة حبر على ورق
هذا التذبذب الحاد في أسعار الخبز في ليبيا والارتفاع الجنوني لأسعاره يتفاقم منذ سنوات، على الرغم من إصدار حكومة "الوفاق" قراراً رسمياً يحدد سعر الرغيف وحجمه ومواصفاته، قبل عام من الآن، لكنه ظل حبراً على ورق، وعجزت الدولة عن فرضه على المخابز بسبب هشاشة أجهزتها الأمنية وضعف أدواتها الرقابية، وحالة الانقسام المؤسساتي التي تعيشها.
وفي يناير (كانون الثاني) 2020، أصدر وزير الاقتصاد والصناعة المفوض في حكومة الوفاق وقتها، علي العيساوي، قراراً بوضع ضوابط لتصنيع رغيف الخبز، وحدد أسعاره بحيث لا يتجاوز 200 درهم أي "خمسة أرغفة بدينار".
ونص القرار على أن يكون الحد الأدنى لوزن رغيف الخبز الليبي والمستورد 100 غرام، و50 غراماً بالنسبة للخبز العربي "الشامي والمصري"، كما تم تحديد سعر الخبز الليبي والمستورد بـ200 درهم للرغيف، والخبز العربي بـ100 درهم أي "عشرة أرغفة بدينار".
وشدد القرار على ضرورة التزام المخابز بالضوابط والتسعيرة الموضوعة على أن يُقفل أي محل يخالفها لمدة تتراوح من أسبوع إلى شهر، وتصل إلى حد سحب ترخيص المزاولة في حال تكرارها، وهو ما لم تقدر على فرضه على أرض الواقع.
أعباء على كاهل البسطاء
ويقول المواطن الليبي ورب الأسرة إبراهيم الشيخي، إن "ارتفاع أسعار الخبز ضربة قاصمة جديدة للمواطن، الذي يعاني أصلاً ضغوطات معيشية لا تحصى ولديه ما يكفيه".
ويضيف "رب أسرة مثلي يعول ستة أشخاص، ويعمل مدرساً براتب لا يزيد على 650 ديناراً (145 دولاراً تقريباً)، ومع ضعف المرتب، لا يستطيع أن يحصل عليه في وقته من المصرف بسبب شح السيولة، ماذا يفعل وسط هذه الظروف، التي تطحنه كل يوم، والتي تفاقمت بارتفاع أسعار الخبز أكثر من نصف سعرها السابق؟".
ويبين بالأرقام التداعيات التي يتسبب بها ارتفاع سعر لقمة العيش على جيبه وجيوب البسطاء في ليبيا، "أستهلك يومياً أنا وأسرتي ما لا يقل عن 20 رغيفاً من الخبز، كانت تكلفني ثلاثة دنانير تقريباً، واليوم أدفع مقابلها ثمانية دنانير تقريباً، ما يقدر بـ240 ديناراً شهرياً، وهذا يعني أن ثلث المرتب يذهب ثمناً للخبز، لكم أن تتخيلوا هذا الجنون".
ويختتم قائلاً بألم "لم يعد هذا البلد وسط هذه الظروف مهيئاً للعيش، ولا ندري إلى أين يمضي بنا السياسيون الذين يديرون بلداً من أغنى بلدان المنطقة، وجعلوا أهله أفقر شعوب الأرض".