Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النحات البريطاني توماس هاوساغو يشوه الأجساد بحثا عن جمالها السري

الفنان الذي كان مجهولا يدخل متحف باريس

منحوتة للفنان البريطاني توماس هاوساغو (اندبندنت عربية)

قبل عقدٍ من الزمن، كان البريطاني توماس هاوساغو مجرّد فنان مجهول مثل فنانين كثر في العالم، إلى أن انطلقت المؤسسات الفنية الكبرى في تنظيم معارض له، وتسابق مجمّعو القطع الفنية على شراء أعماله. لكنّ هذا النحات الذي يعيش حالياً في لوس أنجليس لم يغيّر أي شيء في سلوكه أو طريقة عمله كي يحظى فجأةً بهذا الاهتمام. واليوم، وقد بلغ سن السادسة والأربعين، لا يبدو إطلاقاً مستعداً للقيام بذلك من أجل تعزيز موقعه.

حين استقرّ هاوساغو في بروكسل قبل عقدين، تلقّى نصائح كثيرة من النقّاد الذي عرفوه بضرورة تغيير مهنته أو على الأقل أسلوبه. ومنذ أن أنهى دراسته في "مركز سان مارتينز" الفني في لندن، تكرّرت اللازمة الآتية كثيراً على مسمعه: "لن تصل إلى أي مكان أو نتيجة بهذه الطريقة، عملك بشع جداً!". لكنّ هذا العملاق قامةً وفنّاً، الذي وُلد في مدينة ليدز الصناعية، ليس من النوع الذي يتأثّر بآراء الآخرين. وهذا ما يفسّر مثابرته على إنجاز تلك المنحوتات الفجّة مثل طبعه التي تندرج ضمن الأسلوب التصويري، في الوقت الذي لا يتكلم عالم الفن سوى لغة المفاهيم والتجريد. لغة لا تقول شيئاً لمن تتسلّط على أفقه قامات مشوَّهة عمداً، معوّقة جمالياً إلى حد تحتاج إلى جبائر وأحياناً إلى عكّازاتٍ لتقف على قدميها وتحافظ على انتصابها. منحوتات يمكننا اليوم أن نرى مختارات واسعة منها في متحف باريس للفن الحديث الذي ينظّم حالياً للفنان معرضاً استعادياً ضخماً (يستمر حتى الصيف المقبل) يعيد إبراز مختلف المراحل التي عبرها بفنه، مع التركيز على علاقته الجوهرية والفريدة بمواد عمله.

فعلاً، منذ بداية مسيرته الفنية، وضع هاوساغو فن النحت في صلب ممارسته، مازجاً المواد التقليدية لهذا الفن، كالخشب والجصّ والبرونز، بمواد أخرى أقل تقليدية، كالأسلاك المعدنية والقماش والإسمنت. تهجينٌ يستثمره ببراعة من أجل استكشاف البُعدَين والأبعاد الثلاثة في عمله، وتنبثق منه منحوتات مبلبِلة بقدر ما هي دقيقة وحاذقة، ضخمة وفي الوقت نفسه هشّة، تستحضر إلى أذهاننا تلك التماثيل المصنوعة من ورق التي نشاهدها في الكرنفالات. أعمالٌ غير صافية في ظاهرها، يلجأ الفنان إلى بلورة خطوطها وأشكالها إما في هياكل معدنية يشيّدها مسبقاً، مثل ألبرتو جياكوميتي، وإما في تصاميم من ورق مقوّى، مثل نحّاتي عصر النهضة.

تتحكّم بعمل هاوساغو منذ البداية سيرورة إبداع موجّهة كلياً نحو تمثيل الشكل البشري. وبذلك، ينخرط ضمن خطّ النحاتين الذين، من هنري مور إلى جورج بازيلتس مروراً بجاكوب إبشتاين، تركّز عملهم على إسقاطٍ حيّ للشكل المذكور داخل الفضاء. لكن بخلاف هؤلاء الفنانين، نراه يخلط مصادر فنية نحتية بأخرى سينماتوغرافية وأدبية، ما يجعل تشكيلاته تفلت من أي تصنيف أو مقارنة. طبعاً، لا ننكر تأثّره ببيكاسو والمنحوتات الإفريقية القديمة، لكن هذين المرجعين يتحاوران بشغفٍ مع مراجع الخرافة العلمية داخل منحوتاته التي يتعمّد الإبقاء على سيرورة إنجازها ظاهرةً للعيان، ما يجعلها تخلّف داخلنا شعوراً بعدم اكتمال، برعونة، بأعمال تمهيدية، بقوةٍ وهشاشةٍ معاً، إلى جانب كشفها الانغماس الجسدي للفنان في عمله.

وبالتالي، حين نتأمّل هذه المنحوتات، تبدو لنا وكأنها منبثقة تواً من المادة المصنوعة منها، ومن فعل نحتٍ ندرك فوراً حدّته وصراحته وحيويته وغايته التجسيدية؛ فعل يترجم نهماً على الابتكار والتشكيل، وعلى منح الأشياء والشخصيات الممثَّلة أشكالاً ووضعيات غريبة من أجل خلق عالمٍ فريد. تتّسم هذه المنحوتات أيضاً بطابع سردي واحتفائي لمحاكاتها أعمال الفنانين الطلائعيين، كالأشكال التكعيبية المصدَّعة والمفكَّكة، وأوراق هنري ماتيس المقطَّعة والمجرّدة من الألوان. تتّسم أخيراً بالإيقاع الذي يميّز عملية تشكيلها، وببنية ناتجة غالباً من حركات متشنّجة تمنحها ديناميكية وجانباً غير متوقَّع.

ولذلك، تتطلّب هذه الأعمال منّا قراءة بطيئة ومتنبّهة، فالمفاجآت التي تعدنا بها كثيرة، وتكمن في مفاصلها الظاهرة وفجواتها والتواءاتها، وأيضاً في تجديدها الاهتمام بموضوع أهمله الفنانون منذ فترة، ونقصد الوجه البشري الذي يحضر بأسلوب تعبيري ساذج. تكمن أيضاً في الطريقة التي تمنح فيها نفسها كلياً للمكان الذي تُعرَض فيه، وبالتالي لمن يرغب في تأمّلها والدوران حولها وتملّكها. وما يعزّز هذه الرغبة داخلنا هي الطريقة المثيرة التي تحتلّ هذه الأعمال بها فضاء العرض وتسهم في تجديد مقاربتنا كلّ منها. أما أحجامها الضخمة ومادّتها المشغولة بشكلٍ ظاهر وإمكان مشاهدة ما في داخلها، فتجعلنا نرغب في الاحتكاك بها ومعانقتها. وهذه القربة المستشعَرة يتقصّدها الفنان الذي يسعى إلى توريطنا في عمله وإسقاطنا داخل سيرورة ابتكاره. ولهذه الغاية، يسمح لزوّار معارضه بتلمّس منحوتاته، بخلاف معظم الفنانين.

وسواء، في تحكّمه الواضح بتقنيات عمله وأدواته، أو الانتباه الذي يوليه للقاعدة التي تركن أو تنتصب عليها منحوتته، يتجلى هاوساغو كنحات يؤمن بأن الطاقة الإبداعية تكمن في قلب المادة وأشكالها، لا في المفهوم أو التصوّر الذي يستبقها، وبأن المنحوتة هي تعبيرٌ عن شيء مستقل. هكذا، تردّنا كل واحدة من منحوتاته إلى حضور قائم بذاته، بينما تجعل فرادتها واستقلاليتها منها اقتباساً أو فصلاً من ميثولوجيا شخصية في طور التشييد. أما تناوبها بين فارغٍ وممتلئ، وبين مسطَّح وناتئ، فيعكس تناقضات عميقة وفضاءات مادّية بقدر ما هي سيكولوجية، وبالتالي تشييداً يتأرجح بين فنٍّ وتأمّلٍ.

باختصار، هاوساغو نحات لا يسعى خلف كمال المواضيع التي يعالجها بل خلف تعبيراتها الحيوية المطلقة. ومن هذا المنطلق، يرتكز على تاريخ الأشكال وفلسفة خاصة جداً للفضاء والحجم لبلورة فنٍّه، مستعيناً بمبدأ واحد: تقريب أساليبٍ من حقبٍ مختلفة. وبقيامه بذلك، يفتننا بذلك الالتباس بين تصوير وتشويه يطبعان منحوتاته، وأيضاً بقدراتها التعبيرية الناتجة تحديداً من عدم تناسقها وجانبها غير المنجَز. منحوتات ضخمة وغليظة الطابع تبدو عند الوهلة الأولى قوالب مجرَّدة من الجمال، في حين أنها تختصر، بتراوحها بين قديمٍ وجديدٍ، فن النحت وتطوّره على مرّ الزمن.

المزيد من ثقافة