Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

انهيار الاتحاد السوفياتي بين المقدمات والنتائج 1917-1991

صراع رفاق الأمس والمشكلة القومية و"المادة السادسة" والوقوع في شرك الاستخبارات الأميركية من أبرز أسباب الانهيار

مقاتلون بلشفيك خلال ثورة أكتوبر عام 1917 (غيتي)

مع حلول ذكرى انهيار الاتحاد السوفياتي في مثل هذا التاريخ من العام 1991، تعود الذاكرة إلى بدايات تشكيله الذي سرعان ما تحول إلى إمبراطورية مترامية الأطراف متعددة القوميات، لم يكن يدور في خلد أي امرئ، أن تلقى النهاية التي حلت بها في ديسمبر (كانون الأول) 1991

كانت البداية قوية حاسمة عاصفة جامحة، تنذر بمولد إمبراطورية من طراز مغاير لمثيلاتها في ما سبق من تاريخ المنطقة، فالدولة السوفياتية قامت بعد ثورة قال عنها معاصروها إنها غيّرت وجه العالم، وهي ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية في 1917، في فترة كانت الحرب العالمية الأولى تلفظ  آخر أنفاسها. وما أعقبها من حرب أهلية وصراعات قومية، وصدامات ومواجهات بين أبناء الوطن الواحد، وما واكبها من أزمات ونزاعات، سرعان ما وضعتها عند بداية اتفاقات أسفرت عن "معاهدة قيام اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية" في 29 ديسمبر 1922، التي وقّعها مؤسسوها من جمهوريات روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، وبيلاروس الاشتراكية السوفياتية، وأوكرانيا الاشتراكية السوفياتية، وجمهورية ما وراء القوقاز الاشتراكية السوفياتية التي كانت تضم آنذاك جورجيا وأرمينيا وأذربيجان. لم يسعف الزمن فلاديمير لينين ليرى وليدة أفكاره، وليجني رفيقه يوسف ستالين مفوض الشعب للقوميات آنذاك ثمار جهود طالت سنوات شهدت الكثير من الصراعات بين أعضاء الفريق الواحد، وليجري التصديق عليها من مؤتمر نواب الشعب لعموم الاتحاد في 30 ديسمبر أي في اليوم التالي لتوقيعها.

بقية الجمهوريات

لكن ماذا عن بقية الجمهوريات التي كانت تشكلت، وانضمت في فترات متفرقة حتى بلغ عددها 15، قبل انفراط عقدها نهاية العام 1991؟

تقول المصادر السوفياتية إن جمهورية أوزبكستان الاشتراكية قامت على أساس عدد من الجمهوريات التي كانت تابعة لجمهورية روسيا الاتحادية ومنها جمهوريتا خوارزم وبخاري ومقاطعة سمرقند والجزء الأعظم من مقاطعات وأقاليم فرغانة وطشقند التي كانت تابعة لجمهورية تركستان ذات الحكم الذاتي، لتشكل جميعها في وقت لاحق جمهوريتي تركمنستان وأوزبكستان.

أما جمهورية طاجيكستان التي كانت تابعة لروسيا الاتحادية فقد نشأت كجمهورية فيدرالية في 16 أكتوبر 1929، في توقيت شهد العديد من الخلافات حول التبعية التاريخية للكثير من مقاطعات وأقاليم آسيا الوسطى ومنها سمرقند وبخاري الموجودتان حالياً ضمن أراضي أوزبكستان. وبهذه المناسبة كانت جمهورية أوزبكستان الاشتراكية السوفياتية أعلنت بخاري عاصمة لها حتى العام 1924، لتعلن لاحقاً خلال الفترة من فبراير (شباط) 1925 وحتى ديسمبر (كانون الأول) 1930، سمرقند عاصمة لها، قبل تحولها في ما بعد الى إقرار طشقند الأوزبكية التاريخ والأصل عاصمة للجمهورية، وغير معلنة لكل مناطق آسيا الوسطى.

نور سلطان

أما عن كازخستان وقيرغيزستان فتقول المصادر الروسية، إن الأولى، التي تعتبر من حيث المساحة الثانية بعد روسيا الاتحادية، لم تكن موجودة ككيان مستقل عند إعلان قيام الاتحاد السوفياتي، فقد كانت مجموعة من كيانات إقليمية توحد بينها غالبية سكانية كزخية كانت تندمج مع القيرغيز تحت اسم القازاق أو القوزاق، وهم غير عشائر قوزاق منطقة القوقاز، وكانت تابعة لمنطقة قيرغيزستان التي تشكلت كوحدة إدارية في 10 يوليو (تموز) 1919 تابعة لجمهورية روسيا الاتحادية حتى 26 أغسطس (آب) 1920. ونتيجة لبدء ترسيم حدود مناطق آسيا الوسطى بموجب الأغلبية السكانية والقومية خلال الفترة 1924-1925 جرى اقتطاع منطقة أورينبورغ التي كانت عاصمة لقيرغيزستان، ظهرت كازخستان التي سرعان ما تحولت كوحدة إدارية منفصلة إلى تبعية روسيا الاتحادية. وبعيداً عن تفاصيل تغير التسميات والتبعيات والحدود الجغرافية التي عصفت باستقرار هذه المناطق، واحتدم الكثير من الجدل حول تاريخها وحقيقة ما يتناقلونه بهذا الصدد من أخبار ومعلومات، نشير إلى أن جمهورية القوزاق الاشتراكية السوفياتية التي كانت تابعة لروسيا الاتحادية كجمهورية ذات حكم ذاتي، تحولت إلى تغيير اسمها إلى جمهورية كازخستان ذات الحكم الذاتي في فبراير (شباط) 1936، وحتى رفع وضعيتها كجمهورية اتحادية في الخامس من ديسمبر من العام نفسه، وأعلنت مدينة المآتا عاصمة لها حتى تسعينات القرن الماضي، قبل أن يتخذ برلمانها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قراره حول نقل العاصمة إلى الأستانة قبل أن يتغير اسمها إلى نور سلطان تكريماً لنور سلطان نزارباييف أول رئيس للجمهورية بعد استقلالها في 1991.

الأصول التاريخية

وفي ما يتعلق بقيرغيزستان، تقول المصادر الروسية إن المعلومات تتعدد وتختلف حول الأصول التاريخية والتسميات التي تظل محور جدل ومصدر خلافات ونزاعات منذ ما بعد الإعلان عن انهيار الاتحاد السوفياتي. ونكتفي بالإشارة الى أن قيرغيزيا لم يظهر كمصطلح واسم، إلا في مطلع عشرينات القرن الماضي لدى بدء تقسيم المنطقة كوحدات إدارية قومية مع بدايات تحديد جغرافية جمهورية روسيا الاتحادية. وكانت قد ظهرت كمقاطعة ذات حكم ذاتي ضمن أراضي روسيا الاتحادية خلال الفترة 1920-1925، قبل أن تنضم كجمهورية اشتراكية سوفياتية كاملة الحقوق إلى الاتحاد السوفياتي في الخامس من ديسمبر 1936.

مع الإعلان عن تغيير دستور 1924، بالدستور الجديد في العام 1936 جرى تقسيم جمهورية ما وراء القوقاز إلى جمهوريات أرمينيا وأذربيجان وجورجيا التي ظهرت كجمهوريات فيدرالية مستقلة. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1939 سارع الاتحاد السوفياتي الى إعادة رسم خريطته في الشمال الغربي لأراضيه، حيث جرى إعلان جمهورية كاريليا الاشتراكية السوفياتية التي ضمت إلى أراضيها مساحات واسعة من فنلندا التي كانت تابعة للإمبراطورية الروسية قبل اندلاع ثورة 1917 ومنحها لينين الاستقلال. ولم تكتفِ السلطة السوفياتية بذلك، إذ سرعان ما دفعت بقواتها إلى احتلال جمهوريات البلطيق الثلاث ليتوانيا في الثالث من أغسطس 1940، ولاتفيا في الخامس من الشهر نفسه، ثم إستونيا في السادس منه، وضمها كجمهوريات اشتراكية سوفياتية إلى الاتحاد السوفياتي.

في 24 أغسطس من العام نفسه، جرى إعلان جمهورية مولدافيا الاشتراكية السوفياتية على الأراضي الواقعة غرب أوكرانيا، والتي ضمت إليها مساحات واسعة من بيسارابيا التي كانت تابعة لرومانيا. وفي 16 يوليو (تموز)، أعلن الاتحاد السوفياتي تخفيض وضعية جمهورية كاريليا إلى جمهورية ذات حكم ذاتي وضمها إلى جمهورية روسيا الاتحادية، ليبلغ عدد جمهوريات الاتحاد 15 جمهورية فيدرالية.

على الرغم من كل القيود التي تضمنها الدستور والقوانين السوفياتية على مر تاريخ الاتحاد، فقد نصت كلها خلال فترة وجوده، على حق كل من الجمهوريات الفيدرالية في الخروج منه، اعترافاً بحق تقرير المصير. ومن اللافت في هذا الصدد أنه وبموجبها، والتي كان آخرها قبل الانهيار، دستور العام 1977، نصّ على حق الجمهوريات الاتحادية في إقامة علاقات مباشرة مع البلدان الأجنبية وإبرام المعاهدات والاتفاقيات وتبادل الممثليات الدبلوماسية والقنصلية والمشاركة المباشرة في أنشطة المنظمات الدولية، وهي الحقوق التي لم تتجاسر أي من هذه الجمهوريات على الاستفادة منها، عدا جمهوريات روسيا الاتحادية وبيلاروس وأوكرانيا التي كانت انضمت إلى منظمة الأمم المتحدة منذ قيامها كأعضاء مستقلة كاملة الحقوق بما فيها حق التصويت، والجمعية العامة للمنظمة الدولية تقديراً منها لدورها البطولي المتميز في الحرب العالمية الثانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحرب العالمية الثانية

غير أن كل هذه الإجراءات الوحدوية الواعدة، لم تلقَ الأصداء الإيجابية المستحقة، على وقع ما خيّم على البلاد من أجواء اتسمت بالكثير من التوتر قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وما سبقتها من مقدمات تطلبت الكثير من التحولات والتحالفات على وقع تصاعد حدة مشكلة القوميات وما سميت لاحقاً جرائم الستالينية وحملات الاعتقالات والترهيب والتعذيب والنفي قسراً إلى مجاهل سيبيريا في العام 1937.

تلك كانت البدايات التي استطاع جوزيف ستالين معها صهر كل جمهوريات الاتحاد في بوتقة واحدة، اضطراراً لا اختياراً، لمواجهة تبعات الغزو الهتلري أراضيه في 22 يونيو (حزيران) 1941، وحتى تحقيق النصر على ألمانيا النازية في الثامن من مايو (أيار) 1945.

ما إن وضعت الحرب أوزارها حتى وجد ستالين نفسه مطالباً بمراجعات كثيرة، اضطر إلى الكثير منها تحت وطأة تبعات اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1939، وما جنت يداه حين تحوّل صوب عدد من المواءمات والاتفاقات مع زعيم ألمانيا النازية، وعقد تحالف "مولوتوف-ريبنتروب" (وزيرا خارجية الاتحاد السوفياتي وألمانيا)، واقتسمت الدولتان بموجبه مناطق النفوذ، وآلت جمهوريات البلطيق إلى التبعية للاتحاد.

آنذاك، جرى تهجير الكثيرين من أبناء الاتحاد السوفياتي، طوعاً كما حدث مع تهجير أبناء لينينغراد التي حاصرها المحتل الألماني فترة تقترب من ثلاث سنوات مع الكثير من ذخائر متحف هيرميتاغ وثروات المدينة الثقافية والتاريخية إلى جانب كبار السن والأطفال، وقسراً أحياناً أخرى، كما كانت الحال في تهجير بعض القوميات مثل الشيشان والإنغوش في شمال القوقاز والكثيرين من تتار شبه جزيرة القرم إلى سهوب كازخستان وسيبيريا، ممن جرى توجيه الاتهام لهم بالتواطؤ والعمالة للقوات الألمانية، التي وبحسب بعض إفادات شهود العيان، اعتبروها الملاذ مما وصفوه بالاحتلال السوفياتي وقبله الروسي الإمبراطوري في قرون سابقة لأراضيهم، وهو ما ساهم في ظهور بدايات المشكلة القومية التي يطرحها كثيرون في صدارة أسباب انهيار الاتحاد بعد ما يقرب من نصف قرن.

نيكيتا خروشوف

لم يمض وقت كثير حتى حانت اللحظة التي استعادت فيها بعض هذه القوميات اعتبارها بعد رحيل ستالين وإعلان خلفه نيكيتا خروشوف عن عودة الكثيرين من ممثليها إلى أراضيهم في شمال القوقاز، لتظل مشكلة تتار القرم من دون حلول تُذْكَر حتى مطلع سنوات الـ "بيريسترويكا" عام 1985.

نتوقف، لنشير إلى أن بوادر احتدام المشكلة القومية كانت في ذلك القانون الذي جرت بموجبه العديد من التقسيمات الإدارية والجغرافية لبعض جمهوريات الاتحاد الفيدرالية ذات الحكم الذاتي على أساس قومي، وهو ما كان على النقيض من التقسيمات الإدارية إبان سنوات الإمبراطورية الروسية، ومنه ما ظل حتى اليوم سبباً في استمرار الخلافات والحروب مثلما يحدث في قره باغ وجنوب شرقي أوكرانيا، وشبه جزيرة القرم.

شعوب القوقاز

من هنا، كان قرار المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي برد اعتبار شعوب القوقاز وإعادتهم إلى مواطنهم، كبداية لتصحيح هذه الأخطاء، لكنها لم تكن كافية لنزع فتيل الأزمة، لتكتسب طابعاً أكثر حدة مع مطلع سنوات الـ "بيريسترويكا" يوم خرجت التظاهرات في ديسمبر 1985 إلى شوارع المآتا العاصمة القديمة لكازخستان احتجاجاً على إقالة دين محمد كونايف الكازخي الأصل من منصبه كأمين للحزب الشيوعي الكازخستاني، وتعيين جينادي كولبين الروسي القومية بدلاً منه. وكانت هذه التظاهرات أولى اضطرابات قومية يشهدها الاتحاد السوفياتي بعد إعلان الـ "بريسترويكا"، سرعان ما أسفرت مع أخرى عن انهيار الدولة السوفياتية المترامية الاطراف المتعددة القوميات.

في ذكرياته التي نشرها في مجلدين تحت عنوان "الحياة والإصلاحات"، اعترف غورباتشوف بأن الخسائر التي تكبدها المجتمع على الصعيد القومي تعود إلى قرارات موسكو الخاطئة بل والمتأخرة. ولم ينكر أن قراره حول إقالة دين محمد كونايف من منصبه الحزبي في كازخستان، كان السبب الرئيس لهذه الاضطرابات، وقال إنه أراد التخلص منه لأسباب منها عدم مشاطرته الرأي حول أن كازخستان تعيش مرحلة "الركود البريجينيفية"، التي طالما عانت منها كل جمهوريات الاتحاد السوفياتي، اعتقاداً منه أن ما تمتعت به من امتيازات في عهد ليونيد بريجينيف كانت في معظمها لاعتمادها على ما تتمتع به من حظوة لدى زعيم الحزب (بريجينيف) الذي سبق وعمل في هذه الجمهورية، وانطلق منها صوب قمة الحزب الشيوعي السوفياتي، واعتماده على أبناء عشيرته فضلاً عن تذمره من رئيس حكومته نور سلطان نزارباييف الذي ارتبط في ما بعد بعلاقات صداقة وثيقة مع غورباتشوف، وهو الذي ظل رئيساً لكازخستان منذ ذلك الحين وحتى إعلانه في أبريل 2019، تنحيه عن السلطة لوزير خارجيته قاسم توكايف، في صفقة تبدو أقرب إلى الصفقة التي عقدها قبل ذلك الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين مع فلاديمير بوتين في نهاية العام 1999 الذي اختاره لخلافته. وعلى الرغم من نجاح المركز نسبياً في احتواء الموقف في ذلك الحين، إلا أن المحظور كان قد وقع، لإعادة النظر في الكثير من مبادئ السياسة القومية التي وضع ستالين لبناتها الرئيسة مع أولى سنوات الاتحاد.

الميدان الأحمر

ساهمت الغلاسنوست والليبرالية الإعلامية والكشف عن الكثير مما خفي في تاريخ البلاد في نفض الشعوب المقهورة عن كاهلها ما ظلت ترزح تحت وطأته من سلبيات السياسة القومية الستالينية وظلمها. لذا لم يكن غريباً أن يزحف الكثيرون من أبناء تتار القرم ممن سبق تهجيرهم إلى سهوب كازخستان وسيبيريا صوب العاصمة السوفياتية، حيث قاموا في سابقة لا يعرف لها تاريخ روسيا المعاصر مثيلاً باحتلال مشارف الميدان الأحمر على مقربة مباشرة من جدران الكرملين ما ساهم في اتخاذ قرار إعادتهم إلى القرم.

بيريسترويكا

واكب كل ذلك بدايات سنوات الـ "بيريسترويكا"، التي كان غورباتشوف يعتبرها محاولة لتجاوز الإخفاقات الاقتصادية وما كان يسمى سنوات الركود في سبعينيات القرن الماضي، مؤكداً أنها "تنبع من إدراك واقع عدم الاستفادة الكافية من الإمكانات الهائلة للاشتراكية". ولم يكن يعترف في بداياته بأنها كانت مقدمة لتحولات جذرية ساهمت من دون خطة وتدبير محكم في انهيار الاتحاد، وبدت في حقيقة الأمر من أشكال الثورات الملونة التي أطاحت لاحقاً الكثير من قيادات عدد من جمهورياته السابقة.

وإذا أضفنا إلى ذلك ما عصف باستقرار وحدات النسق الأعلى للسلطة وما اندلع من صراعات بين الغريمين التاريخيين غورباتشوف وبوريس يلتسين، فإننا نكون أمام أحد اهم الأسباب التي كانت وراء الانهيار السريع للاتحاد، في أعقاب إعلان "الغلاسنوست" (العلانية والشفافية) التي ساهمت في تقويض الكثير من أركان استقرار المجتمع، بالكشف عن المستور والكثير من جوانب ما خفي من أحداث تاريخية ووقائعها. ولم يكن صراع الغريمين بمعزل عما كانت تحتدم تحت سطح الأحداث لتتشابك مع تبعات وبوادر المسألة القومية من خلال ممثلي الجمهوريات في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي، كما حدث مع يغور ليغاتشيف الساعد الأيمن لغورباتشوف في مطلع سنوات الـ "بيريسترويكا"، وفلاديمير شيربيتسكي الأمين الأول للحزب الشيوعي في أوكرانيا، وحيدر علاييف الأمين الأول للحزب في أذربيجان، ودين محمد كونايف الأمين الأول للحزب في أذربيجان، ونظرائهم في جمهوريات آسيا الوسطى.

تزايدت حدة المأساة وفداحتها على وقع تطاير "الإشاعات" التي تحولت إلى "وثائق" تقول بسقوط ألكسندر ياكوفليف مُنَظر الـ "بيريسترويكا" في شباك الاستخبارات المركزية الأميركية، بل وكشف فلاديمير كريوتشكوف رئيس جهاز أمن الدولة "كي جي بي" عن أنه بدأ اتصالاته بها منذ إيفاده إلى الدراسة والتدريب في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي.

قضايا الحد من التسلح أضافت بعداً آخر في تصاعد تذمر المحافظين داخل أروقة الحزب الشيوعي وصفوف كبار قيادات القوات المسلحة للاتحاد. واحتدم الجدل حولها مواكباً لاشتداد الأزمات الاقتصادية وبدء نشاط مؤتمر نواب الشعب للاتحاد في مايو 1989 الذي وفّر الأرضية المناسبة لتجمع كل أطياف المعارضة وممثلي مختلف القوميات تحت سقف واحد.

ذلك كان كافياً لتوفير فرصة ظهور "مجموعة النواب الإقليمية" من رموز المعارضة والحركات الانفصالية والمنشقين السوفيات ممن كان الأكاديمي أندريه ساخاروف أبرزهم، مع بوريس يلتسين ونجوم الحركات الليبرالية اليمينية، ومنهم أناتولي سوبتشاك (أستاذ بوتين في جامعة لينينغراد الذي قدمه في مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى الحركة السياسية في روسيا الجديدة).

أخطاء غورباتشوف

أخطاء غورباتشوف كثيرة، وقد اعترف ببعضها في العديد من مقالاته ولقاءاته وتصريحاته، لكن الأهم والأخطر بحسب ما يقول كثيرون، يتمثل في أنه بدأ سياسة الـ "بيريسترويكا" من دون تصور واضح ومن دون نظرية يمكن أن تكون بديلاً للماركسية اللينينية. كان يريد التغيير وتحقيق الجديد من خلال الاعتماد على نظرية فيها كثير من الجمود، من خلال شخصيات ينتمي معظمها، إن لم تكن كلها إلى الماضي، معتمداً منطق التجربة والخطأ، فوقع تحت تأثير عوامل خارجية وقوى أجنبية، استغلت ببراعة منقطعة النظير أخطاء "المصلح السوفياتي" الذي بهرته "أضواء الغرب"، ليضع العربة أمام الحصان، مفضلاً الإصلاح السياسي قبل الاقتصادي.

تصوّر غورباتشوف إمكان إجراء رتوش على الهيكل القائم على اقتصاد دولة عظمى مترامية الأطراف متعددة القوميات، من دون أن يدرك أن الإصلاح السياسي لا يمكن أن يعزل عن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في بلد خضع طوال ما يقرب من 70 عاماً لقهر سلطة وتسلطها واستبدادها جثمت على أنفاسه وأخمدت صوته، ولعل بداية الإصلاح السياسي هي التي أفضت بالزعيم إلى التقارب مع الغرب.

وعن غورباتشوف أيضاً ننقل ما قاله في معرض توثيق أخطائه التي أفضت بالدولة السوفياتية إلى غياهب النسيان. ذلك ما سجله في مقالة له نشرناها في كتابه "الانقلاب" الذي تولينا ترجمته ونشرته صحيفة "الشرق الأوسط" في نهاية العام 1991، متسائلاً فيها:

- هل كان المجتمع بحاجة إلى الـ "بيريسترويكا"؟ أم كانت خطأ قاتلاً؟ وما أهدافها الحقيقية؟ وهل من الضروري البدء في مثل هذه التحولات المشحونة بالأخطار؟

وأجاب عنها بقوله، "الـ "البيريسترويكا" لم تكن لتتحقق في فراغ دولي، معترفاً أنه وعندما اتخذت الخطوات المحدودة بهدف تصفية المواجهة مع الغرب البالغة الخطورة والباهظة التكاليف، التي لم يكن هناك ما يبررها منذ زمن بعيد، تساقطت الاتهامات، وكأننا قدمنا إلى الإمبريالية على طبق من فضة، ما لم تستطع تحقيقه من طريق القوة، وإننا خسرنا الحرب العالمية الثالثة، وفرّطنا في مكتسباتنا التي حققناها في الحرب الوطنية، بينما ألحقنا الإهانة بذكرى الملايين من ضحاياها، وأقدمنا على خيانة الأصدقاء والحلفاء، وحطمنا النظام الاشتراكي، وطعنّا من الخلف الشيوعية الدولية". وكأنه لم يكن في صدارة المسؤولين عن "الانهيار الكبير!

لعل ما سجله زملاء غورباتشوف في اعترافات ما بعد الانهيار، تكشف بوضوح عن "ارتباك النسق الأعلى للسلطة" وضبابية الرؤية. وفي هذا الصدد كتب فلاديمير كريوتشكوف عضو المكتب السياسي ورئيس لجنة الدولة "كي جي بي"، "لقد أصاب الارتباك الكثيرين في ما يمكن أن تعنيه هذه الشعارات التي كانت تحتمل مختلف التأويلات. وقد اصطدمت محاولاتنا استيضاح الذي نبتغيه، وأية مهام نستهدف تحقيقها في المستقبل، بالثرثرة الكلامية من جانب غورباتشوف، وأحياناً بجدار هائل من صمته".

تحولات بلا خطة

أما ألكسندر ياكوفليف عضو المكتب السياسي الذي أشرنا إليه، وكان يحظى بكنية "فيلسوف البيريسترويكا" والمسؤول عن جهاز إعلامها، فقد أكد أن "التحولات التي بدأت 1985 كانت بلا خطة، بل ومن دون أفكار تحكم إطارها. أما عن الخطة فلم تكن موجودة. من ذا يمكن أن يقرّ خطة تغيير نظام اجتماعي، بين طياتها تصفية نظام حكم أحادي، وأيديولوجية أحادية، ونظام ملكية أحادي النمط؟ من يستطيع ذلك؟ هل في مقدور الحزب والدولة؟ هل لجنة أمن الدولة "كي جي بي"؟ هل هي في وسع مؤسسة الجنرالات (المؤسسة العسكرية)؟".

ما لم يقله غورباتشوف هو ما كان يتعلق بمسؤوليته الحقيقية تجاه الانهيار السريع لكثير من مؤسسات الدولة، أيضاً يتمحور حول دوره في انعقاد المؤتمر الحزبي (الكونفرنس) الـ 19 العام 1988 وإصراره على إلغاء المادة السادسة من الدستور السوفياتي التي كانت تنص على احتكار الحزب الشيوعي السلطة، وحشد الأصوات اللازمة لإلغائها في المؤتمر الـ 28 العام 1990. وقد كانت الدعوة لعقد هذا المؤتمر الحزبي مقدمة لأحداث عاصفة منها، انحسار دور الحزب وضياع هيبة المركز كما كانوا يسمون آنذاك السلطة المركزية الفيدرالية.

حلف وارسو

لعلنا نعيده في هذا الصدد، إلى ما اعترف به حول وجود "عملاء للإمبريالية" ممن وصفهم صراحة بأنهم "يهوذا"، في إشارة إلى ألكسندر ياكوفليف "فيلسوف البيريسترويكا" الذي كشف عدد من رؤساء لجنة أمن الدولة "كي جي بي" عن سقوطه في شرك العمالة الأميركية.

ذلك كله جاء مقروناً بسلسلة من المواقف والقرارات التي انفرد بها غورباتشوف، ومنها ما أعلن عنه من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة حول إسقاط "مذهب بريجينيف" الذي كان يؤكد أحقية الاتحاد السوفياتي في التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأجنبية، ما ساهم في سرعة انهيار بلدان المعسكر الاشتراكي، وحلّ "حلف وارسو" والموافقة على توحيد الألمانيتين على الرغم من اعتراض مارغريت ثاتشر وعدد من زعماء البلدان الغربية، من دون أية ضمانات موثّقة حول عدم تمدّد "الناتو" شرقاً. من هنا، الكوارث التي حلت بالاتحاد السوفياتي وعجلت بانهياره في نهاية 1991، بداية بمباركة بوريس يلتسين للتوجهات الانفصالية لبلدان البلطيق، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، ثم انقلاب أغسطس في العام ذاته، واجتماعات "نوفواوجاريوفو" التي حاول من خلالها استمالة ما بقي من الجمهوريات السوفياتية إلى اتحاد كونفيدرالي أو فيدرالي من دون نتيجة تذكر.

والطامة الكبرى، في توقيع ثلاث من الدول المؤسسة للاتحاد السوفياتي، روسيا وأوكرانيا وبيلاروس وثيقة الخروج من الاتحاد السوفياتي في الثامن من ديسمبر 1991، والتحوّل نحو تأسيس "رابطة الدول المستقلة" في 20 منه في العام ذاته، وهو ما سبق وتناولناه في أكثر من تقرير لـ "اندبندنت عربية"، من موسكو.

المزيد من تحقيقات ومطولات