Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وقائع الأيام الأخيرة في تاريخ الاتحاد السوفياتي

رفض اليراع مطاوعة غورباتشوف لتوقيع "وثيقة التنازل عن العرش" ليقدم مراسل "CNN" قلمه ويسجل نهاية روسيا الشيوعية بمداد أميركي

إعلان غورباتشوف إنهاء الاتحاد السوفياتي لوجوده القانوني حظي بتصديق كل برلمانات جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق (غيتي)

كثير من التناقضات والمتناقضات شاب آخر إجراءات إنهاء الاتحاد السوفياتي لوجوده القانوني على خريطة السياسة العالمية. وكثير من الغموض يظل يكتنف وقائع الأيام الأخيرة التي سبقت إعلان ميخائيل غورباتشوف أول وآخر رئيس للاتحاد السوفياتي السابق، تنحيه عن مهام منصبه. وقد اجتمع ذلك كله مع العديد من الأكاذيب والإشاعات التي تطايرت وكأنما ما أعلنه غورباتشوف حول إنهاء الاتحاد السوفياتي لوجوده القانوني، حظي بتصديق كل برلمانات جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. لم يكن ذلك صحيحاً. والوثائق شهادة دامغة على ذلك. 

ولعل كل هذا اللغط، وما ساد الساحة من صخب وجلبة تباينت نبراتها ومفرداتها، يمكن أن يعود إلى ما شاب سلوك وتصرفات القيادات السوفياتية، محلية كانت أو فيدرالية، من ارتباك وتضارب، على وقع احتدام صراع الغريمين غورباتشوف وبوريس يلتسين رئيس روسيا الاتحادية.
 

 

وكان يلتسين استهل مهام منصبه كرئيس للسوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية في 1990 بإقرار مرسوم سيادة واستقلال روسيا في 12 يونيو (حزيران) من العام نفسه، وهو الذي كان سافر إلى إستونيا في يناير (كانون الثاني) من ذلك العام لمباركة بيان رؤساء بلدان البلطيق إستونيا ولاتفيا وليتوانيا حول استقلال جمهورياتهم عن الاتحاد السوفياتي، في أعقاب إعلانها السابق عن تحركات مماثلة، انضمت إليها جمهوريات أخرى في توقيتات متباينة.

9 جمهوريات وافقت على بقاء الاتحاد

تسارعت الأحداث في عاصفة جامحة لا تبقي ولا تذر، معلنة عن قرب وقوع الكارثة. حاول غورباتشوف الحد من حدتها، باستفتاء شعبي على بقاء الاتحاد السوفياتي دولة اتحادية، ردت عليه الجمهوريات التي كانت عقدت العزم على الانفصال بمقاطعته، ومنها جمهوريات البلطيق وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان. غير أن الغالبية الساحقة من سكان الجمهوريات التسع الأخرى، قالت كلمتها بالموافقة على بقاء الاتحاد السوفياتي بنسبة أصوات تجاوزت 75 في المئة. 

ومتسلحاً بهذه النتيجة، انطلق غورباتشوف لإعداد صيغة جديدة للمعاهدة الاتحادية كان يمكن أن تلم شمل ما بقي من جمهوريات الاتحاد السوفياتي. وتوالت الاجتماعات في نوفو اوجاريوفو في ضواحي العاصمة الروسية. وعلى رغم كل الخلافات والاختلافات بدا المجتمعون أقرب إلى الاجتماع منهم إلى السقوط في شرك الفُرْقَة والانفصال. غير أن بينهم من كان له رأي آخر احتفظ به لنفسه إلى حين. ومن هؤلاء، بل في صدارتهم، كان ليونيد كرافتشوك رئيس أوكرانيا أكبر الجمهوريات السوفياتية بعد روسيا الاتحادية، الذي وجد الدعم "المستتر"، من جانب بوريس يلتسين الغريم التاريخي لميخائيل غورباتشوف. ولذا لم يكن غريباً أن يسارع كلاهما إلى انتزاع أكبر قدر من المكاسب من انقلاب فاشل قام به عدد من رموز المحافظين في القيادة السوفياتية في 18 أغسطس (آب) 1991.

وكان نائب الرئيس ووزراء الدفاع والداخلية والأمن والاستخبارات وكبار قيادات القوات المسلحة أعلنوا وكأنما غورباتشوف غدا غير قادر صحياً على مواصلة مهام منصبه، في إطار ما عُرِفَ تحت اسم "انقلاب أغسطس 1991". ولفظ الانقلاب آخر أنفاسه في غضون ثلاثة أيام، كانت كافية لحسم ما ظل لسنوات طوال حبيس الصدور، عصياً على الحسم. فقد سارعت أوكرانيا إلى إعلان انفصالها عن الاتحاد السوفياتي في 23 أغسطس، وهو ما أعقبته إعلانات مماثلة عن استقلال بقية جمهوريات الاتحاد السوفياتي، والتي كانت كازاخستان آخرها، وهو ما يظل يُحْسَب لرئيسها السابق نور سلطان نزاربايف، الذي كان أشد المتحمسين لبقاء ذلك الكيان، الذي عاد وتبنى إعلانه تحت اسم "تحالف البلدان الأوروآسيوية" ويجمع بين صفوفه معظم جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.

يلتسين يمسك بالسلطة

وفيما بدا واضحاً فشل الانقلاب، وكذلك ما اعترى مواقع ومكانة غورباتشوف من ضعف وهزال، شخص يلتسين بكل قامته ممسكاً بكل خيوط الموقف، ليعلن نفسه السيد والحاكم الفعلي للاتحاد السوفياتي في غياب الرئيس الشرعي. وراح الرئيس الروسي يصدر المرسوم تلو الآخر، منفرداً وبغير مشورة نظرائه في الجمهوريات السوفياتية الأخرى، ما أثار حفيظتهم واستثار غضبهم إلى الحد الذي دفع بهم إلى النقيض مما كان يبتغي ويروم.


انتفضت الجمهوريات لتتوالى إعلانات السيادة والاستقلال على وقع ما بدا عليه غورباتشوف من مذلة ومهانة إلى جانب يلتسين الذي راح يملي عليه ضرورة الاعتراف بكل ما اتخذه في غيابه من قرارات ومراسيم. حتى الحزب الشيوعي السوفياتي الذي طالما جمع الملايين من أبناء الدولة السوفياتية وكان غورباتشوف لا يزال، ولو من حيث الشكل، أمينه العام، أصدر يلتسين قرار حله وحظر نشاطه من دون اعتبار لمعارضة غورباتشوف الواقف إلى جواره على منصة مؤتمر نواب السوفيات الأعلى في 22 أغسطس 1991 وعلى وقع تصفيق "هستيري" رافقته صيحات التأييد والاستحسان من جانب أعضاء المؤتمر، وكانوا في معظمهم من الشيوعيين الكارهين لغورباتشوف. وفي مثل هذه الظروف بدا أمر توقيع المعاهدة الاتحادية بصيغتها الجديدة بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً.

وننقل عن الجنرال فانتين فارينيكوف نائب وزير الدفاع السوفياتي وأحد المتهمين بتدبير انقلاب أغسطس ما قاله حول أن تلك الأيام التي تلت عودة غورباتشوف من منتجع فوروس الذي شهد وقائع ما كان يسمى بالانقلاب، هي المرحلة الثالثة في مسيرة انهيار الاتحاد السوفياتي. وذلك على اعتبار أن سنوات البيريسترويكا وما شابها من تدهور وزعزعة استقرار الدولة أيديولوجياً واقتصادياً وعسكرياً بزعامة غورباتشوف وصحبه ممن ظهر من يتهمهم بالخيانة والعمالة للاستخبارات الأميركية كما أشرنا، كانت المرحلة الأولى. أما المرحلة الثانية فكانت تلك الأيام التي جرت خلالها وقائع انقلاب أغسطس، بينما تمثلت المرحلة الثالثة والأخيرة وبحسب تقديرات الجنرال فارينيكوف، فيما أعقب ذلك من أحداث كان من الممكن تفاديها، ولم تكن لتنتهي بالانهيار وتشرذم جمهوريات الاتحاد السوفياتي، لو توافرت الإرادة والرغبة للإبقاء على هذا الاتحاد، كياناً موحداً فيدرالياً كان أو كونفيدرالياً، بحسب نتائج استفتاء مارس (آذار) 1991. وتؤكد الشواهد أن انفراد  يلتسين بالقرار وإصراره على تعيين من يريد في كل المواقع القيادية المحورية في الدولة بعد فشل الانقلاب، كانا في صدارة الأسباب التي دفعت نظراءه في الجمهوريات السوفياتية إلى إعلان استقلال جمهورياتهم احتجاجاً واعتراضاً ضد انفراده بأمور الدولة السوفياتية من دون مشورة أو سؤال. وقد أسهم كل ذلك ومن دون أية متاعب أو عراقيل، في اجتماع رؤساء الجمهوريات التسع الباقية في الاتحاد السوفياتي السابق قبيل انعقاد الدورة الطارئة لمؤتمر نواب الشعب واتخاذ قرار حل هذا المؤتمر، باعتباره كياناً حكومياً تجاوز ما كان مقرراً له من مهام وأصبح تركة ثقيلة من كيانات الماضي يجب التخلص منها بموافقة ميخائيل غورباتشوف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


وذلك ما كان يعني ضمناً مشاركة غورباتشوف في تدمير آخر هيئة وحدوية مركزية انزلقت إلى الاعتراف بحق جمهوريات البلطيق الثلاث في الانفصال وإعلان الاستقلال للمرة الأولى، منذ ضم هذه الجمهوريات قبيل اندلاع أحداث الحرب العالمية الثانية. وذلك ما كان يعني أيضاً وقوف غورباتشوف وحيداً من دون دعم من كان يناصره ويشد من أزره، قبل انفراط عقد الرفاق ممن دبروا بليل انقلاب أغسطس 1991، وقبل أن ينفض من حوله رؤساء الجمهوريات السوفياتية، التي أعلنت توجهاتها نحو الاستقلال بما لم يعد هناك حاجة إلى اجتماعات نوفو اوجاريوفو لمناقشة صياغة المعاهدة الاتحادية الجديدة. حتى أرمينيا وأذربيجان ومولدوفا كانت اتخذت قراراتها حول الاستقلال قبل إعلانها رفضها الانضمام إلى هذه المباحثات. وانصرف كل من هؤلاء الرؤساء إلى محاولات دعم استقلال جمهوريته، وانضمامها إلى الأمم المتحدة. وفيما كان غورباتشوف يواصل محاولات لمّ الشمل، والحد من وتيرة ما يعيشه من عزلة وتجاهل من جانب هؤلاء الرؤساء، توالت الأخبار التي تقول باتصالات يقوم بها عدد من الزعماء الغربيين ومنهم هانز ديتريش غينشر نائب المستشار الألماني ووزير الخارجية مع هؤلاء الرؤساء من دون اعتبار لوجود رئيس الدولة، وهو ما حاول غورباتشوف التحذير منه لدى لقائهما في موسكو.

على أن ذلك لم يمنع غورباتشوف من مواصلة جهوده بحثاً عن دعم خارجي، سرعان ما وجده في ذلك المحفل الدولي الذي نجحت واشنطن في تنظيمه وحفز الأطراف المعنية إلى المشاركة فيه، وهو مؤتمر مدريد للسلام الذي انضم إليه الاتحاد السوفياتي كرئيس مناوب، مقابل تقديم تنازلات محدودة لإسرائيل، ومنها ما وعدت به موسكو حول إعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية قبل موعد انعقاد المؤتمر، وهو ما التزم به الكرملين الذي كان أعلن عن قطع هذه العلاقات في العاشر من يونيو (حزيران) 1967 احتجاجاً على عدوان إسرائيل ضد البلدان العربية، إضافة إلى فتح أبواب هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل، على ضوء ما أحرزته الاتصالات الثنائية المعلنة وغير المعلنة في موسكو وهلسنكي وغيرهما من العواصم الغربية. ونذكر أن الرئيس غورباتشوف كان حريصاً على دعم تحركاته إعلامياً بكل السبل ومنها سرعة موافقته على طلب صحيفة "الشرق الأوسط" حول كتابة مقدمة لكتابه الذي صدر تحت عنوان "الانقلاب" وتولينا ترجمته في حينه، إلى جانب الموافقة على حديث خاص انفردت به "الشرق الأوسط" لنشره في 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1991 يوم افتتاح أعمال المؤتمر في مدريد. ونذكر بهذا الصدد الجدل الذي احتدم بين أعضاء فريق غورباتشوف حول صياغة خطابه في حفل الافتتاح والذي تحول عملياً إلى مناسبة لشرح مواقف الكرملين من العديد من القضايا الداخلية، على حساب اهتمام الرئيس بالقضية المركزية، محور أعمال المؤتمر، وهي التسوية الشرق أوسطية وحل النزاع العربي- الإسرائيلي. 

المؤامرة

ولم يكد غورباتشوف يعود إلى أرض الوطن، حتى فوجئ بما أعلنه يلتسين حول عزمه على السفر إلى بيلاروس بحجة أنه "يريد مناقشة بعض الاتفاقيات الثنائية مع ستانيسلاف شوشكيفيتش رئيس برلمان بيلاروس، وأنهما وجها الدعوة إلى ليونيد كرافتشوك رئيس أوكرانيا للتشاور" على حد قوله. وكشف غورباتشوف عن أنه طلب من يلتسين آنذاك التمسك بصيغة المعاهدة الاتحادية التي اتفقوا حولها في نوفو اوجاريوفو (ضواحي موسكو)، وإبلاغ الرئيس الأوكراني بموافقته مسبقاً على كل ما قد يطرحه من ملاحظات أو تعديلات على هذه المعاهدة شريطة إعلانه الموافقة عليها، وهو ما لم يفعله يلتسين، وما وصفه غورباتشوف بالخديعة والمؤامرة. ونذكر أن كرافتشوك أعلن في حديثه معنا في مكتبه في كييف قبل أول زيارة يقوم بها إلى القاهرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أنه كان وراء فكرة تنظيم هذا اللقاء، وأنه صارح يلتسين بعدم موافقته على الانضمام إلى أية معاهدات اتحادية، رداً على طلب غورباتشوف إدخال أية تعديلات على صيغة المعاهدة المقترحة للتوقيع وقبوله أية شروط يمكن أن يطرحها، وهو ما أثنى عليه يلتسين مؤكداً أنه أيضاً ينضم إلى هذا الموقف. 

رسالة من تحت الباب

وننقل عن يلتسين ما سجله في كتابه "ذكريات رئيس"، حول أن الحيرة انتابت أعضاء الوفدين الروسي والأوكراني خلال لقاء "بيلوفجشسكويه بوشا" في بيلاروس، بسبب صعوبة إيجاد التبرير القانوني لمشروعية الانفصال.

واعترف الرئيسان يلتسين وكرافتشوك بأن سيرغي شاخراي مساعد الرئيس يلتسين للشؤون القانونية كان صاحب فكرة "الصياغة القانونية" التي تقول بأحقية الجمهوريات السلافية الثلاث في المبادرة بإعلان خروجها من هذا الاتحاد، بوصفها الدول التي كانت بادرت مع جمهورية ما وراء القوقاز، التي كانت تضم أذربيجان وجورجيا وجمهوريات القوقاز، بالإعلان عن تأسيس الاتحاد السوفياتي في عام 1922.

وقال إن شاخراي استغرق مع رفاقه وقتاً طويلاً للخروج بالصياغة النهائية التي استقروا عليها ليعهدوا إلى يجور جايدار القائم بأعمال رئيس الحكومة الروسية بإعادة كتابتها بخط أفضل من خط شاخراي، وتسليمها إلى السكرتيرة لطباعتها على الآلة الكاتبة. ولما كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير، فقد عهدوا إلى أندريه كوزيريف وزير خارجية يلتسين آنذاك، والذي انتقل إلى الإقامة في الولايات المتحدة في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بالقيام بهذه المهمة.
ولم يكلف كوزيريف نفسه عناء التأكد من كل ملابسات القيام بهذه المهمة، مكتفياً بالدفع بالنص إلى أسفل باب غرفة السكرتيرة، حرصاً منه على عدم إزعاجها في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل، كما قال في ما بعد. لكن ما إن حل الصباح واجتمعت "الأطراف المعنية" وطلبت الاطلاع على ما كتبته السكرتيرة، حتى اتضح لهم إن كوزيريف أخطأ رقم الغرفةـ ودفع بمثل هذه الوثيقة بالغة الأهمية، إلى غرفة أخرى، ما كان كافياً للإطاحة برؤساء الجمهوريات الثلاث ومن معهم إلى غياهب السجون في حينه، وهو ما كان مثار سخرية ودهشة الجميع. 

"يا للعار"

ولم تتوقف سلسلة "المضحكات المبكيات" في هذه الأحداث عند هذا الحد، حيث تصاعدت وتشابكت وبلغت حد إصابة الرؤساء الثلاثة بالحيرة، تجاه عمن يعهدون إليه بعد توقيع هذه الوثيقة التاريخية إبلاغ كل من الرئيسين السوفياتي غورباتشوف، والأميركي جورج بوش الأب بما جرى الاتفاق حوله. وأصاب الارتباك كلاً من يلتسين وكرافتشوك تجاه اختيار الرئيس الذي يمكن أن يتولى مهمة إبلاغ غورباتشوف بقرارهم وهو ما قام به يلتسين بعد تردد لم يدم طويلاً، بينما تولى رئيس السوفيات الأعلى لبيلاروس شوشكيفيتش مهمة إبلاغ الرئيس السوفياتي غورباتشوف بنتائج ذلك اللقاء التاريخي، الأمر الذي طَيّر صواب غورباتشوف ليطلق صيحته المدوية: "العار كل العار. أن يعلم الرئيس الأميركي بقرار حل الاتحاد السوفياتي قبل رئيس هذا الاتحاد". 

ولم يمض من الزمن سوى أيام معدودات بعد إعلان بيان "بيلوفجسكويه بوشا" حول خروج الجمهوريات الثلاث، حتى شد رؤساء هذه الجمهوريات ومعهم رؤساء ما بقي من جمهوريات اتحادية، الرحال إلى المآتا (العاصمة السابقة لكازاخستان) في 21 ديسمبر (كانون الأول) 1991 للإعلان عن تشكيل "رابطة البلدان المستقلة" استناداً إلى الاتفاقية الاقتصادية التي سبق وتوصلوا إليها في 18 أكتوبر 1991، لتقويض ما بقي من أسس قانونية للوجود الشرعي للاتحاد السوفياتي.

التضييق على غورباتشوف

وفي 23 ديسمبر اتفق كل من يلتسين وغورباتشوف حول اجتماع طال لما يزيد على العشر ساعات استعرضا خلاله الأوضاع الراهنة واللاحقة للدولة، ومصير غورباتشوف وما يتعلق بمستقبله ومستقبل عائلته. وكانت المصادر كشفت أن يلتسين وافق آنذاك على طلبات محدودة لتأمين حياة ومصير أول وآخر رئيس للاتحاد السوفياتي، لم تتعد توفير الحراسة الشخصية وسيارتين ومعاش تقاعدي قيمته أربعة آلاف روبل أي ما كانت قيمته 40 دولاراً، سرعان ما ابتلعها التضخم وتخفيض قيمة العملة لتغدو ما قيمته قرابة أربعة دولارات لا غير، رفض يلتسين رفعها أو تعديلها في ما بعد. 

القلم أميركي

 وانصرف غورباتشوف إلى الاستعداد لإلقاء خطاب التنحي وإعلان نهاية الدولة في 25 ديسمبر 1991، وهو التاريخ الذي تلا فيه غورباتشوف مرسوم استقالته الرسمي من منصبه كرئيس للاتحاد السوفياتي في لقاء لم يحضره من الصحافيين الأجانب المعتمدين في موسكو سوى ستيف هيرست مراسل قناة "CNN" الأميركية بقرار من الجهاز الصحافي للرئيس السوفياتي. وكان غورباتشوف أصر على أن يكون توقيعه على المرسوم على الهواء مباشرة. غير أنه وحين همّ بالتوقيع على "وثيقة التنازل عن العرش"، لم يطاوعه القلم الذي معه وإمعاناً في سخرية الأقدار، رفض الامتثال لقراره، ما جعل ستيف يسارع بمناولته قلمه، بما كان يعني أن وثيقة نهاية الاتحاد السوفياتي سُجلت بمداد أميركي! 

وما إن فرغ غورباتشوف من كلمته وعلت موسيقى السلام الوطني السوفياتي للمرة الأخيرة في التاريخ، حتى طلب من مساعديه إبلاغ الرئيس يلتسين بضرورة اللقاء لتسلم الحقيبة النووية التي طالما كانت ولا تزال "رمز السلطة الذي لا يفارق رئيس الدولة بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة". وكانت المفاجأة التي تمثلت في رفض يلتسين لقاء غورباتشوف مكتفياً بإيفاد وزير دفاعه المارشال شابوشنيكوف لتسلم الحقيبة النووية، نظراً لأنه لا يستقبل رئيساً سابقاً على حد قوله.

وعن غريغوري ريفينكو مدير مكتب غورباتشوف ننقل ما أُبلغ به غورباتشوف صبيحة اليوم التالي لتنحيه عن منصبه. وكان غورباتشوف يستعد للذهاب إلى مكتبه في الكرملين للقاء رئيس تحرير صحيفة "ماينيتي" اليابانية للإدلاء بحديث صحافي، وبحث ما يتعلق بجولة مدفوعة الأجر، نظمتها الصحيفة اليابانية للرئيس السابق في عدد من المدن اليابانية. قال ريفينكو إنه أعلم غورباتشوف بأن مكتب الرئيس مغلق بأمر من يلتسين، فضلاً عن أنه لم يعد يصلح لاستقبال أي ضيوف للرئيس، نظراً لأنه كان بالأمس "ساحة" احتفل فيها يلتسين وأنصاره برحيل غورباتشوف، فيما انتشرت بين أرجائه زجاجات الخمور الفارغة.

عبث الأقدار

ولم يتوقف "عبث الأقدار" عند مثل هذا الحد الذي ينال من كرامة الدولة ووقارها، حيث سرعان ما تجلى أيضاً في ما أبدته بعض الجمهوريات من عدم اكتراث بعقد أي اجتماعات لمجالسها التشريعية للتصديق على خطاب غورباتشوف وما يتعلق بإنهاء وجود الاتحاد السوفياتي. واكتفى مجلس القوميات التابع للسوفيات الأعلى للاتحاد السوفياتي السابق بالتصديق على بيان إنشاء رابطة الدول المستقلة، بديلاً من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية. أما مجلس الاتحاد (الغرفة الثانية للبرلمان السوفياتي) فلم يكتمل نصابه القانوني، وإن أصدر عدد من نوابه بياناً يقولون فيه إنهم يعتبرون ما جرى اتخاذه من قرارات حول تصفية المؤسسات الوطنية، ومنها هياكل الاتحاد السوفياتي مثل المحكمة الدستورية العليا والبنك المركزي، غير قانوني ولا يتفق مع الوضع الراهن آنذاك.  

وبدا الإمعان في إذلال غورباتشوف واضحاً جلياً من جانب غريمه التاريخي يلتسين، في ما أقدم عليه رجاله في وقت لاحق من تصرفات بلغت حد مداهمة مسكن غورباتشوف في غيابه، لمطالبة قرينته بضرورة سرعة إخلائه، وهو الذي كان مسكناً حكومياً مخصصاً لإقامة الرئيس داخل العاصمة. ونزيد ذلك بما عاد يلتسين واتخذه من قرار سحب السيارة الشخصية التي كانت مخصصة لتنقلاته الشخصية.

وذلك ما كان كشف عنه ألكسندر ليخوتال المتحدث الرسمي باسم غورباتشوف خلال حفل أقامه مكتب صحيفة "الشرق الأوسط" في موسكو، في أعقاب حديث كان غورباتشوف خص به رئيس التحرير الأسبق عثمان العمير. وكان ليخوتال أعرب عن أسف غورباتشوف، ليس بسبب سحب السيارة، بقدر أسفه على ضياع ما كانت تتميز به من وجود "الهاتف الخاص"، ولم تكن انتشرت بعد "الهواتف النقالة"، وهو ما سارع العمير إلى محاولة التخفيف من غضبه وأسفه بإعلانه إهداء الصحيفة لهاتف نقال، كان مقدمة لتعاون لاحق مع مؤسسة غورباتشوف للأبحاث والدراسات الاستراتيجية في موسكو. 

ويتوالى عبث الأقدار في الكثير من "المضايقات" التي اضطر معها غورباتشوف في نهاية المطاف إلى مغادرة الوطن للإقامة في ألمانيا وأسرته، في مسكن خاص أهدته له الحكومة الألمانية تقديراً لدوره في تحطيم جدار برلين وتوحيد الألمانيتين.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات