Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بحث مدهش عن السعادة في "العصفور الأزرق" لموريس ماترلينك

بلده البلجيكي يضطهده وموسكو وباريس تغمرانه بالترحيب

موريس ماترلنك وجورجيت لوبلان في السيارة أوائل القرن العشرين (غيتي)

في عام 1908 حين كتب موريس ماترلنك عمله الذي سيصبح أشهر كتاباته بعد ذلك، "العصفور الأزرق"، وقُدّم العمل على خشبة "مسرح الفن" في موسكو في عرضه العالمي الأول، كانت سلطات بلاده البلجيكية تضطهده اضطهاداً لا سابق له، وكانت تهمته عدم استساغته تلك السلطات لا أكثر ولا أقل. طبعاً لم يكن ذلك الاضطهاد ما جعله يفضل تقديم "العصفور الأزرق" أولاً في موسكو وبعد ذلك بسنتين وأكثر في باريس قبل بروكسل، لكن إدراكه أن الفن والشهرة لا يمكن أن يوجدا في ذلك الحين إلا في المرور في الحاضرتين الأوروبيتين، ناهيك بأن ما من أحد كان يمكنه أن يقاوم حينها إغراء أن يكون مخرج المسرحية في موسكو، قسطنطين ستانيسلافسكي وبطلتها في باريس ريجان. كان إغراء خضع له ماتيرلنك بالتأكيد. لكن الحكاية ليست هنا بالتأكيد.

الحكاية أن السلطات البلجيكية التي كانت مستشرسة ضد ماترلنك، عادت وتخلت عن موقفها منها لتسبغ عليه آيات التكريم والمجد منذ عام 1911 حين كان واحداً من أوائل الفائزين بجائزة نوبل الأدبية. هنا وكما يحدث مع سلطات من ذلك النوع، انقلب موقف بروكسل 180 درجة ليصبح ماترلنك طفلها المدلل. لكنه هو كان أضحى في مكان آخر تماماً. كان بدأ يعيش ويكتب في باريس وقد أثمله فوزه النوبلي الكبير من ناحية، والنجاح الهائل الذي حققته "العصفور الأزرق" من ناحية ثانية. ومع هذا لا بد أن نذكر أن المسرحية كانت في الأساس عملاً كُتب للصغار. بيد أن "العصفور الأزرق" تتمتع بخاصية لا بد من التذكير بأنها تميز أيضاً عدداً لا بأس به من النصوص التي تُكتب للصغار فإذا بالكبار يتبنونها بدورهم. ومن هنا عاشت المسرحية حياتها إلى درجة أن بلجيكا نفسها استخدمت في عام 2008 مشهداً منها لتزين به ورقة نقدية من فئة خمسين يورو لمناسبة احتفالها بالذكرى المئوية لظهور المسرحية!

للصغار وللكبار

كما أشرنا، حكاية "العصفور الأزرق" تبدو طفولية وبسيطة بالتالي ظاهرها متماثل مع العديد من الحكايات الأخرى: هي حكاية الطفلين الشقيقين تريتيل وميتيل الصبي والفتاة اللذين يطالعاننا وسط احتفال الناس بأعياد الميلاد، بائسين وحيدين ينظران من نافذة مهترئة إلى سعادة الآخرين متحسّرين. وهنا وسط ذلك الحزن تظهر لهما الساحرة الجنية التي من خلال إشفاقها عليهما تعدهما بتحسّن الحال والازدهار إن هما تمكنا من العثور على طير السعادة الأزرق، مخبرة إياهما أن ذلك الطير هو الوحيد الذي سيكون قادراً على شفاء ابنتها من مرض التعاسة والاكتئاب الذي تعاني منه. وهكذا ينطلق الولدان في تلك الرحلة المدهشة التي تقودهما من حال إلى حال ومن لقاء إلى لقاء بما في ذلك لقاؤهما مع جد وجدة لهما ميتين ومع شقيق لهما لم يولد بعد. وفي كل لقاء هنالك حضور لشتى أصناف الحيوانات والعناصر ومخلوقات الطبيعة. وأيضاً حضور للأفخاخ وعقبات يمران بها... لكن شجاعتهما وصبرهما يكافآن في نهاية المطاف لتكون النهاية السعيدة في انتظارهما.

كان واضحاً هنا أن رحلتهما إنما هي البحث عن السعادة التي لا ينشدها الصغار فقط بل الكبار أيضاً. ومن هنا كانت عالمية هذا العمل التي قادته مرات إلى شاشات السينما وأخرى إلى صالات الأوبرا وأدخلت ذلك العصفور المدهش في الأغاني والأعمال الفنية الأخرى، مخلّدة اسم ماترلنك الذي لا بد من القول كم أن هذه المسرحية طغت على كل أعماله الأخرى.

مهما يكن من أمر، وفي عودة إلى بلجيكية هذا الكاتب، لا بد من التوقف عند أمر آخر هنا. حيث يقال عادة إن البلجيكيين غير محظوظين كثيراً مع جيرانهم الفرنسيين. يتجلى هذا الأمر، بخاصة، في عالم الإبداع، حيث ما إن يكون الكاتب أو الفنان البلجيكي فرنسيّ التعبير، حتى يحسب فرنسياً، ويندر أن يهتم أحد بمعرفة أصله وفصله، على الرغم من أن هناك أساليب تعبيرية بلجيكية ترتبط بطبيعة البلد ومزاج سكانه وصعوبة تاريخه، يمكنها ألّا تخفى على أحد لو قرر أن يبحث فعلاً.

صاحب "الكتابات السخيفة"

غير أن هذه القاعدة التي جرت على ربط كل ما هو فرنسي التعبير في بلجيكا، بالحياة الأدبية أو الفنية الفرنسية، لم تنطبق على موريس ماترلينك، الذي اعتبر بلجيكياً حتى النخاع، في حياته وأسلوبه ومواضيعه، على الرغم من أنه – من دون غيره من البلجيكيين - أمضى القسم الأكبر من سنوات حياته في فرنسا، وكانت باريس، على الدوام، المكان الذي طبعت فيه أعماله وقدمت مسرحياته للمرة الأولى. غير أن الحقيقة تفرض علينا أن نشير إلى أن هذا الكاتب، الذي كان أول بلجيكي يفوز بجائزة نوبل في 1911، حرص دائماً على أن لا يتبع "الموضات" الفرنسية وأن تظل أعماله مشبعة بالروح البلجيكية، روح التساؤل الدائم عن القدر والموت.

اشتهر موريس ماترلينك، الذي رحل عن عالمنا في بيته الفخم في مدينة نيس بالجنوب الفرنسي في العام 1949، ككاتب مسرحي وشاعر، لكن كذلك كباحث في علوم الطبيعة، حيث تضاهي شهرة كتابين له عن حياة الحشرات "حياة النمل" و"حياة النحل" شهرة بعض أكبر مسرحياته وفي مقدمها "العصفور الأزرق" و"بيلياس ومليزاند" و"ماريا المجدلية" و"الأميرة مالينا".

ولد ماترلينك عام 1862 في مدينة غاند البلجيكية لعائلة موسرة وتلقى دراسته لدى الآباء اليسوعيين، وكان في صباه متأثراً بالأوساط الفلامندية، غير أن زيارته الأولى إلى باريس في العام 1885 جعلته يختار الانتماء اللغوي إلى الفرنسية، ما لم يغفره له الفلامنديون على الإطلاق، وهو ردّ لهم الصاع صاعين، إذ ظل على الدوام متمرداً على بلجيكيته، وبخاصة بعدما رأت الحكومة أن "كتاباته السخيفة" لا تؤهله لشغل مركز بسيط في وزارة العدل. ويبدو أن السبب الحقيقي لذلك القرار كان آراء ماترلينك الاشتراكية المبكرة في ذلك الحين. مهما يكن، إثر ذلك القرار توجه الكاتب ليعيش في باريس، حيث راح يكتب وينال قدراً كبيراً من الشهرة تتزايد مع كل كتاب يضعه اعتباراً من ذلك الحين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خصوبة فرنسية

كانت فترة السنوات العشر الأولى التي قضاها ماترلينك في فرنسا، أخصبها في حياته، حيث كتب خلالها أفضل وأشهر أعماله من كتابيه "النحل" و"النمل"، إلى مسرحياته الكبرى، التي قدمت على أفضل الخشبات، ووصل ازدهاره إلى ذروته في 1908 حين قدم المخرج الروسي الكبير ستانسلافسكي مسرحية "العصفور الأزرق" في موسكو في ذلك العرض العالمي الأول، ثم عادت المسرحية نفسها لتقدم في نيويورك قبل تقديمها في باريس العام 1911. طوال تلك الفترة ظلت حكومة بلاده لا تعترف به حتى فاز العام 1911 بجائزة نوبل للآداب، فإذا بالتكريم البلجيكي يطارده في كل مكان، وإذا بالحكومة تقيم احتفالاً كبيراً على شرفه في بروكسل. غير أن هذا كله سرعان ما تبخر بعد انقضاء الحرب، حيث نراه منذ العام 1920 يتبنى الأفكار الرجعية، بعد اشتراكيته الطويلة الأمد، ما أوصله إلى النازية جراء الخوف الذي بدأ يستبد به إزاء انتصار الشيوعيين في روسيا.

انطبعت مسرحياته وكتبه الأخرى خلال تلك الفترة بنزعة مسيحية متطرفة، لم يتخلّ عنها إلا في سنواته الأخيرة حين افزعته المجازر النازية خلال الحرب العالمية الثانية وجعلته يفقد أمله وإيمانه بكل ما خامره من أفكار وآراء في السابق، وهو ما عبّر عنه في كتاب مذكراته الضخم الذي نشر قبل رحيله بعام. وعلى الرغم من تقلباته السياسية والفكرية، من المؤكد أن ماترلينك قدّم مساهمة أساسية في بعث المسرح غير الواقعي الحديث، ما جعل مسرحياته تروق للموسيقيين بسبب نغمتها الرمزية العــتيقة فيحولونها إلى أوبرات ربما كانت من أجمل ما كتب في القرن العشرين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة