Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"نهضة مصر" للنحات مختار في مئوية ولادته الباريسية

اكتتب المصريون لتأمين كلفته وشوّهه أنصار "المرشد" قبل سنوات

لتمثال "نهضة مصر" حكاية لا يمل المصريون من تكرارها (الصورة تخضع لحقوق الملكية الفكرية - ويكيبيديا)

كان المشهد محزناً بالفعل ذات يوم من عام 2013 يوم اعتلى عشرات من أنصار "الإخوان المسلمين" قاعدة واحد من أجمل المنحوتات القاهرية وأكثرها دلالة، ليمعنوا فيه تشويهاً وهم على قناعة بأنهم يقومون بعمل جيّد يرضي الله وشيوخهم. ومن المؤكد أن أولئك المشوّهين لم يكونوا يعرفون شيئاً عن تاريخ ذلك التمثال وإبداع الفنان الكبير الذي نحته. ولا يعلمون شيئاً أيضاً عن تاريخ هذا العمل الفني الكبير الذي يفخر دائماً بأن الشعب المصري الخارج لتوه من ثورة 1919 كان هو من اكتتب بالملاليم والقروش لإقامته.

كذلك كان من المستحيل عليهم أن يعرفوا أن التمثال الأصلي الذي وُلد منه هذا العمل الكبير، كان قد حُقق أول الأمر في العاصمة الفرنسية بحجم لا يصل إلى نصف حجم التمثال القائم منذ عقود في ميدان النهضة المفضي إلى جامعة القاهرة حيث نقل عام 1955 بعدما كان أقيم أول الأمر في ميدان رمسيس.

زيارة سعد زغلول

الحقيقة أن للتمثال حكاية لا يتعب المصريون من حكايتها. ففي البداية حين صمم محمود مختار الذي كان يعيش أوائل القرن العشرين في باريس ونفذ تمثالاً أراد من خلاله أن يعبر عن مصر ونهضتها، لم يكن يفكر بأن عمله سوف يتخذ مساراً آخر ويتضخم حجماً خلال سنوات وبالتحديد إثر زيارة قام بها إلى محترفه الباريسي الزعيم سعد زغلول ورفاقه من دعاة الاستقلال المصري.

وتقول الحكاية إن سعد ورفاقه وقفوا مذهولين وهم ينظرون إلى العمل المنجز وعلى الفور رأوا أن هذه المنحوتة يجب أن تنصب في القاهرة وبحجم يضاعف ما رأوه. وفي الوقت الذي كان سعد زغلول يوجه إلى مختار رسالة يثني فيها عليه، كان أعضاء آخرون في الوفد يوعزون للصحافي أمين الرافعي بأن تتولى جريدته "الأخبار" دعوة المصريين كافة إلى جمع أكبر قدر من الأموال في اكتتاب شعبي عام كي يحقق مختار نسخة قاهرية من منحوتته العظيمة تلك.

في هذا السياق، قد يكون من الأكثر فائدة ترك واحد من كبار المثقفين والمبدعين المصريين في ذلك الحين يكمل الحكاية على طريقته "إنه من العسير على شباب اليوم أن يتصور ما استولى علينا من دهشة ومن عجب عندما بدأ الحديث عن مختار. فنحن وإن كنا قد أخذنا الآن نتحدث عن الفن وندرسه وننظم له المعارض، ونناقش ونصدر الأحكام، إلا أن أمور الفن كانت غريبة قبلاً على الشباب. لقد كان مختار معجزة أدهشتنا حتى سميناه النابغة، وعلى شباب اليوم أن يعلموا تماماً أنه إذا كان الفن الآن شيئاً معترفاً به تشجعه السلطات الرسمية، فإننا ندين بذلك لمختار ولن ينسى له هذا الفضل أحد". هذا الكلام كتبه طه حسين في معرض حديثه عن مختار، إثر وفاة هذا الأخير، وهو بعد في شرخ الشباب يوم 27 آذار (مارس) 1934.

واحد من البناة الكبار

مختار الذي يتحدث عنه صاحب "الأيام" على هذه الشاكلة، هو طبعاً المثّال الشهير محمود مختار، الذي يعتبر إلى جانب سيد درويش وطه حسين نفسه وأحمد لطفي السيد وأحمد شوقي، من الذين ساهموا، بشكل أو آخر، في بناء الحداثة المصرية خلال الثلث الأول من القرن العشرين، وإن كان مختار يتميز عن الآخرين بأنه حين طرق الفن والحداثة من باب النحت، كان ذلك الباب جديداً على الحياة الفنية في مصر وفي العالم العربي كله، مع أن مصر القديمة وبعض أنحاء العالم العربي القديم كانا المهد الحقيقي لبروز ذلك الفن.

إذن، الجديد الذي جاء به مختار، كان ذلك الطابع الحديث والمعاصر الذي أسبغه على فن قديم أصيل ملبّساً إياه في الوقت نفسه وعبر الحس القومي الذي أسبغه على العدد الأكبر من منحوتاته، بعداً سياسياً قومياً، شكّل في ذلك الحين جزءاً من النضال الذي كان يخوضه الشعب المصري بأكمله.

من هنا لن يكون غريباً أن نذكّر بما حدث حين أُعلن عن اكتتاب شعبي عام لإيجاد نفقات إقامة تمثال "نهضة مصر" الذي حققه مختار، وكان بداية شهرته والعمل الأول الكبير الذي أعاد إلى مصر فنها النحتي الجميل الذي كان قد نسي طوال قرون من الزمن.

يومها تدفق الناس يقدمون مساهماتهم، لا فارق في ذلك بين ثري وفقير، ارستقراطي أو عامل أو مثقف أو فلاح. لقد أحست مصر كلها، يومها، أن ثمة نداء يغمرها يأتي إليها من سحيق الزمن متضافراً مع حداثة يحملها مختار معه من باريس حيث كان يقيم ويدرس الفنون الجميلة وتساءل بينه وبين نفسه ذات يوم وهو يتجول في شوارع مدينة النور وميادينها عما إذا كانت قاهرته الحبيبة لا تستحق أن تكون لها نهضة عمرانية من هذا النوع هي التي يقصدها الناس أجمعين لزيارة إنجازاتها الفرعونية. هكذا لئن كانت قد ولدت لديه في تلك اللحظات عشرات المشاريع فإن أعظمها سيبقى تمثال "نهضة مصر" الذي يزين القاهرة بشموخ منذ نحو قرن من الزمن.

إلى باريس برعاية أمير

ولد محمود مختار في قرية ريفية تقع بالقرب من مدينة المنصورة. وفي الوقت الذي كانت أسرته تعدّه ليدرس في الأزهر، كان الفتى يرتاد شواطئ الترعة ليصنع من طينها أشكالاً وتماثيل بدائية صارت الأساس الذي قام عليه لاحقاً حبه لفن النحت. وفي 1908، التحق وهو لا يزال في سن الصبا كأول طالب في مدرسة الفنون الجميلة وهناك لفت الأنظار بما يكفي لكي يرسله راعي المدرسة الأمير يوسف كمال إلى باريس ليتابع دراسة النحت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

توجه مختار الى باريس التي كانت في ذلك الحين تسمى مدينة النور والفن ليقيم معها علاقة لن تنفصم بعد ذلك أبداً... وسيد الفن الأكبر فيها النحات رودان، الذي سيتأثر مختار به كثيراً. وعلى الرغم من انغماس مختار في حياة باريس الفنية، فإنه ظل يتطلع إلى بلاده التي كانت تمور بشتى أنواع الغضب والثورة، وكان - وهو الذي لا يزال يذكر اشتراكه في التظاهرات المطالبة بالاستقلال والدستور - يرنو إلى اليوم الذي يمكنه فيه أن يخدم تلك البلاد.

 

حانت الفرصة حين واتته فكرة إقامة ذلك النصب الرائع الذي لا يزال فريد نوعه حتى اليوم، والذي استمد مختار عناصره من ثلاثة ينابيع: الطبيعة المصرية وأبناؤها - التاريخ المصري وما تبقى من منحوتاته - والحداثة كما كانت تتجلى في ما وصل إليه النحت الفرنسي آنذاك. في البداية نفذ مختار التمثال كما أشرنا، في باريس في حجم صغير. فلما شاهده زواره راحوا يحثّونه على تحقيقه بحجم أكبر وتخصيص القاهرة به، من هنا كانت الحملة التي قادها كبار مثقفي ذلك العصر وتضمنت كما قلنا ذلك الاكتتاب الذي شارك فيه الشعب والحكومة ليسفر عن إقامة النصب عند مدخل مدينة القاهرة مستخدماً فيه حجر الغرانيت.

نقطة تحوّل

كان ذلك النصب نقطة تحول في حياة محمود مختار، بخاصة أنه جعله يدرك أهمية ذلك الفن في حياة الوطن والناس. وتعزّز لاحقاً حين حقق تمثالين لسعد زغلول، أحدهما في الإسكندرية والأخير في القاهرة. كذلك حين حقق تمثال "الخماسين"، والعديد من الأعمال الأخرى التي فتحت الباب أمام رياح فنية عارمة راحت تهب على مصر مكنت مختار من أن يتزعم الحركة الفنية فيها، مع أنه كان يمضي جل وقته في فرنسا

هكذا أسس جمعية "الخيال" هدفها "إحياء الفن المصري ونشره بين الجماهير". ومن هنا حين رحل مختار باكراً عن عالمنا ولا يزال ذهنه عامراً بالأعمال والمشاريع، عدّ رحيله خسارة قومية بحسب تعبير كل الذين أبّنوه في ذلك الحين. والحال أن زيارة اليوم متحف مختار في الجزيرة وسط القاهرة تكفي لتأكيد تلك الفكرة.

المزيد من ثقافة