Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لقاح كورونا جمع علوم الأوبئة والجينات والسرطان والمناعة للمرة الأولى

لم يصنع قبله طعم في خضم الانطلاقة الأولى لجائحة وتحدياته تشمل الإثنوغرافيا وجمع من العناصر المجهولة

للمرة الأولى، يصنع لقاح خلال السنة الأولى من انطلاق جائحة. للمرة الأولى، تتضافر بشكل مباشر علوم الجينوم والأورام الخبيثة والمناعة والأوبئة، كي تصنع لقاحاً لعنصر ممرض يتسبب بعدوى. للمرة الأولى، يكون العمل العلمي شأناً سياسياً وثقافياً وسوسيولوجياً مباشراً. لولا رداءة التكرار، لاستمر تكرار مصطلح الفرادة التاريخية في لقاح كورونا ليكون سلسلة طويلة.

في المقابل، ما أسهل الحرب بالمنظار. تجلس من بعيد. تراقب عبر عدسات مقربة. لماذا لا يلتفون هنا أو يضربون هناك كي ينتصروا! ما بالهم؟ ألا يعلمون حتى هذه الأمور البسيطة؟ إذاً، لماذا هم جيوش؟

الأرجح أن الكلمات السابقة ليست سوى تنهيدة أو شكوى، بدت ضرورية قبل الخوض في إعطاء لمحة عن التحديات العلمية التي واجهت ابتكار لقاح كورونا، يجدر لفت النظر إلى مقلب آخر. على مدار عام، لم تكف مجموعات الـ"سوشيال ميديا" عن التشويش على وعي البشر بخطورة الزمن الذي يعيشونه. وعندما لاح ضوء في عتمة الجائحة الأولى في القرن الحادي والعشرين، انتقل التشويش إلى ضرب الأداة الأهم للبشر في مواجهة فيروس يفتك بهم، وهو اللقاح. من لم تصله مادة أو أكثر على هاتفه النقال، تحذره من اللقاح الذي توصل علماء لم يكفوا عن العمل على مدار الساعة عبر ما يزيد على سنة، كي يحققوا ما لم تفعله البشرية قبلاً في مواجهة الأوبئة.

نعم. للمرة الأولى يبتكر لقاح لوباء جديد، بمعنى أنه يأتي من عنصر ممرض لم يكن موجوداً أو معروفاً قبلاً، قبل أن يتجاوز السنة الأولى من اجتياحه العيش البشري. ومع ذلك، خرجت سيول التشكيك بذلك الإنجاز العلمي المهم لاستمرارية عيش البشر وبقاء حضارتهم. إنه ليس لقاحاً، بل مؤامرة لتخفيض أعداد البشر عبر إدخال كل من يتناول اللقاح في عقم لا تناسل بعده! إنه مؤامرة من الدول الكبرى كي يعيدوا صياغة العالم. إنه ترويج للإجهاض والفساد الأخلاقي.

لا مجال لتعداد كل "إنه" المنتشر على "سوشيال ميديا". ويحزن العقل والقلب أن الأداة الأكثر تطوراً التي ابتكرها البشر في الاتصال بينهم الإنترنت باتت حمالة لتشويهات الوعي البشري، بدل تأكيد استمرارية مهمتها الأولى، التي عقدت عليها الآمال العراض، وهي الاتصال والتواصل بين عقول البشر وثقافاتهم وأشكال وجودهم، باعتباره خطوة أخرى في مسار التقدم الحضاري.

قبل كورونا، وقف السجل البشري عند أربع سنوات بوصفها المدة الأقصر في صنع لقاح، وقد تحقق ذلك الرقم في صنع لقاح النُكاف في أواسط القرن العشرين. وتذكيراً، تعامل العلماء آنذاك مع وباء موجود منذ آجال طويلة ومديدة، وليس مع جائحة في السنة الأولى من انطلاقتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أوبئة قاتلة لكنها مهملة

ثمة تفكير نقدي جدي بشأن اللقاح، على غرار ذلك الذي عبرت عنه أصوات ذكّرت بأن هنالك أوبئة لم يصنع لها العلم الحديث لقاحاً، بالتالي أثارت سؤالاً عن الأسباب والآليات التي تحول دون ذلك، من دون أن تكون تشكيكاً في العلوم والمقاربة العلمية لتلك الأوبئة.

هنالك من لفت إلى أن جائحة الإيدز "المنسية" لم يصنع لها لقاح، وعلى رغم تعرف العلماء على تركيبة فيروس "آتش أي في" المتصل بها. هل لأنه ينتقل من طريق الجنس؟ هل لأن المثلية الجنسية، وهي موضع إشكاليات كبرى في الثقافة والسياسة والدين، ارتبطت بالإيدز، فولدت حواجز خفية حالت دون المثابرة على صنع لقاح له؟

ثمة أسئلة من نوع آخر. هنالك من يربط سرعة صنع اللقاح مع ما حدث للبشرية للمرة الأولى في تاريخها الحديث، من شلل في اقتصاداتها وانهيار في الحياة اليومية في مدنها، بل خصوصاً في حواضرها الكبرى. من ينسى مشهديات ذلك الفراغ المرعب في حواضر كبرى مثل نيويورك ولندن وباريس وبروكسل وبرلين وغيرها؟ هل تلك الوقائع المرعبة هي التي ساعدت على سرعة صنع لقاح؟

في ذلك المنحى، يصعب نسيان المقتلة التي سببها وباء "إيبولا" المُكتشف فيروسه منذ سبعينيات القرن العشرين، ولم يصنع لقاح له بعد. هل لأنه يصيب الشعوب الفقيرة في أفريقيا، فيما اشتُهِر فيروس كورونا بانتشاره الذريع في البلدان الأكثر تقدماً، بل تعطي الولايات المتحدة (لا غيرها ولا سواها، وهي القوة العظمى الوحيدة في الأرض) مثلاً بارزاً عن ذلك؟ ماذا عن الملاريا التي قتلت أكثر من كل مرض آخر، بل مجموع ضحاياها يفوق حروب البشر مجتمعة؟ ماذا عن فيروس التهاب الكبد؟

ثمة قائمة طويلة من الإشكاليات المماثلة، وتستوجب نقاشات واسعة. وتصلح تلك الأسئلة والنقاشات لتكون أيضاً مدخلاً لاستعراض بعض التحديات التي واجهت صنع لقاح كورونا. وقبل المضي إلى التفاصيل، يجدر لفت النظر إلى أن هنالك ما لا يحصى من المعطيات المجهولة بشأن فيروس كورونا وجائحته. ليس عيباً وجود نقص في المعرفة، بل حتى غيابها، بل إنه من مؤشرات التدقيق في العلم، والتحفيز على التعمق فيه.

 

الفيروس المجهول والجائحة الغامضة

في مطلع الخريف المنصرم، ألقى السير جون بيل أستاذ الكرسي الملكي للطب في "جامعة أكسفورد"، خطاباً عن كورونا أمام أعضاء من مجلس العموم. وشدد فيه على أن التخطيط لمواجهة الجائحة في بريطانيا اعتمد "كثيراً على الافتراضات"، مشيراً إلى وجود معطيات كثيرة مجهولة عن الفيروس ومسار جائحته. ولفت السير بيل، إلى أن أسباب التفاوت في شدة انتشار الفيروس بين البلدان والشعوب، ليست محددة بدقة علمياً.

ثمة أهمية لذلك العامل الإثنوغرافي. إذ انتشر بشكل متفاوت بين شعوب العالم، لكن اللقاح يجب أن يُعطى للناس في كل مكان ودولة، ما يفرض النظر إلى الشعوب وكأنها مجموعة واحدة. والأرجح أن ذلك ليس تحدياً سهلاً، خصوصاً أن اللقاح لا يكتمل إلا بالتجارب السريرية على البشر. واستطراداً، ربما فسر ذلك ميل الصين وروسيا إلى التشديد على أن لقاحهما ("سينوفاك" و"سبوتنيك في" على التوالي)، تجري تجربتهما على شعوب وأعراق مختلفة، شملت الشعوب العربية.

غني عن التذكير بأن مصدر الفيروس ما زال مجهولاً. وبرزت مفارقة في حصول الصين على تمويل بنصف مليار دولار لبحوثها عن اللقاح من الهيئات الصحية الدولية، بالتزامن مع إطلاق تلك الهيئات تحقيقاً واسعاً داخل الصين عن مصدر ذلك الفيروس. هل خرج من مختبر "ووهان" المنخرط في بحوث متقدمة عن الفيروسات، تجري بالتنسيق مع مختبرات أميركية ودولية؟

ثمة مراجع علمية أميركية نفت ذلك، لكنه يبقى أمراً غير محسوم. هل تحور في الطبيعة وخرج عبر خفافيش ميتة التهمتها كلاب شاردة، ثم نقلتها إلى الإنسان في مدينة "ووهان"، ربما بداية من سوق لحوم الحيوانات فيها؟ ثمة من يعتقد أن البحوث عن دور الكلاب والقوارض لم تكن بالكثرة التي تفترضها وجود جائحة شلت الحضارة البشرية. ويشير بعض أولئك المعترضين إلى أنه بعد أشهر من الجائحة، تبين أن كورونا ينتقل عبر حيوانات الـ"مينك"، غير البعيدة بيولوجياً من الكلاب والذئاب والقوارض، ما أدى إلى التخلص من أعداد مليونية منها. ماذا عن الكلاب التي ظهرت دراسات متناثرة بشأن نقلها الفيروس؟

لقد توصلت الصين إلى التعرف على التركيبة الجينية الكاملة للفيروس بعد عشرة أيام من إعلانها رسمياً عن انتشاره في "ووهان". وشكل ذلك إنجازاً علمياً فريداً، رحبت به المختبرات العلمية عالمياً. في المقابل، لم يتوقف ذلك الفيروس عن التحور والتبدل، بمعنى تغيير تركيبة الجينات فيه. وتفاوتت الآراء العلمية بشأن تحوراته وعلاقتها بطريقة انتشاره. وقبل نهاية الموجة الأولى، أشار بحاثة أوروبيون إلى أن تحورات الفيروس جعلته أسرع انتشاراً وأقل فتكاً، وكأنه يتأقلم مع البشر.

تملك التحورات أهمية علمية كبيرة، خصوصاً أن الفيروس "كتلة" جينات. وقبل كورونا، ساد تفكير علمي بأن اللقاح للفيروس يُبتَكر عبر عزله وتوهين قدرته، ثم إعطاء الفيروس الضعيف إلى البشر كي تتكون مناعة لديهم ضده تفيدهم في الوقاية من نسخته الأصلية. يفترض ذلك عدم حدوث تحورات كبرى في جينات الفيروس. لكن كورونا تحور وتبدل كثيراً. وعلى الرغم من ذلك، يعتمد اللقاح الصيني على الطريقة التقليدية. هل التقط علماء الصين وجود سلالة من كورونا، تصلح أن تكون مرتكزاً في توليد مناعة ضد الفيروس، مهما تبدلت تركيبته وتبدلت؟ ما زال ذلك الأمر غير واضح تماماً.

"حجارة الحياة" جسر بين السرطان والوباء

وفق مقالات متنوعة، بدأ العمل على اللقاح المبتكر لكورونا منذ بداية الجائحة، بمعنى أن أكثر من مجموعة علمية سعت إلى صنع لقاح لا يكون فيروساً جرى توهينه. وثمة عنصر مشترك بين أربعة لقاحات في الأقل، "فايزر - بيونتيك" و"موديرنا" و"أكسفورد" (تشرف عليه شركة "آسترازينكا") و"سبوتنيك في" الروسي. وقبل التفاصيل العلمية، يُلاحظ أن الحكومات تابعت عمل المختبرات والشركات عن قرب، بما في ذلك التمويل والمتابعة العلمية، وذلك للمرة الأولى (أيضاً وأيضاً) بعد عقود تولت فيها الشركات وحدها ذلك الأمر.

ويتمثل الشيء المشترك المذكور آنفاً في الاشتغال على التركيبة الجينية الموجودة في "الأشواك" التي تظهر على سطح الفيروس، وتبرز في الصور الشائعة عنه. ويشار إلى تلك التراكيب الجينية بمصطلح "البروتين كيه" K Protein. وقد شكل ذلك العمل جزءاً أساسياً من الجسر الذي ربط بحوث السرطان بالعمل على صنع اللقاح.

كيف جرى ذلك؟ في البداية، يجدر تذكر أن الخلايا تحتوي على أحماض وراثية تتضمن الشيفرة الجينية التي تتألف منها وتتحكم في أعمالها ووظائفها. هنالك نوعان من تلك الأحماض، أولهما هو "دي أن إيه" DNA (الحمض النووي الريبوزي الناقص الأكسجين)، الفائق الشهرة الذي يحتوي الشيفرة الوراثية الكاملة (الجينوم)، وقد بات معروفاً بشكله الذي يشبه السلم الحلزوني الملتف على نفسه. ويمثل الـ"آر أن إيه" الحمض الوراثي الثاني، ويتولى "ترجمة" المعلومات التي تصله من "دي أن إيه" (= الحمض النووي الريبوزي) إلى "وصفات" تتضمن الآليات التي يجب أن تنفذها خلايا الجسم. ومثلاً، يرسل "دي أن إيه" المعلومات اللازمة لتركيب أجسام المناعة إلى "آر أن إيه" RNA الذي "يترجمها" إلى وصفة يجب على خلايا جهاز المناعة تنفيذها. ويتولى مرسال مهمة الربط بين الحمضين، ويُعرف باسم "الحمض "آر إن إيه" المرسال"  Messenger RNA، واختصاراً "إم آر أن إيه" mRNA.

ويتعامل العلماء الذين يشتغلون على جهاز المناعة والأجسام المضادة والخلايا المناعية الملتهمة، على "إم آر إن إيه"، لأنه يسهم في نقل شيفرة التكاثر التي تأمر بصنع مستمر ومتكرر لخلايا الورم السرطاني على حساب الخلايا الطبيعية، ما يوصل الجسم إلى الهلاك.

ويهتم علماء المناعة بـ"إم آر إن إيه"، لأنه ينقل المعلومات عن صنع الأجسام المضادة والخلايا الملتهمة (تعمل على التهام كل ما يستهدفه جهاز المناعة).

وربما من الواضح، أن دور المرسال الذي ينهض به "إم آر إن إيه" يجعله المفتاح الفعلي في صنع المكونات الأساسية للجسم، خصوصاً البروتينات، لذلك يوصف بأنه الجسر الذي يتحكم باللبنات الأساسية في الكائنات الحية.

ويتشكل فيروس كورونا من كتلة كثيفة من الجينات التي تتألف من أحماض "آر إن إيه" أساساً. ولا يشكل الفيروس خلية حية بحد ذاته، بل يحتاج إلى أن "يدمج" تركيبته الجينية مع التركيبة الجينية في خلايا الكائن الذي يضربه. وفي المقابل، يدمج الفيروس جيناته مع الحمض "دي آن إيه" في الخلية، فيصبح هو مصدر الأوامر والتوجيهات إلى الجسم، ويرسلها باستخدام "إم آر إن إيه"!

ويزيد تعقيد الصورة، أن الـ"آر إن إيه" والـ"إم آر إن إيه" تتركب وتتفكك بصورة مستمرة وسريعة جداً في الجسم، ما يجعل الاشتغال عليها صعباً، ويعقد أيضاً مهمة تثبيت التراكيب المطلوب الحصول عليها من تلك الأحماض.

وفي حال كورونا، سعى العلماء إلى التحكم في "إم آر إن إيه" المتعلق بصنع نُسخ متكاثرة من بروتين "كيه" الموجود في أشواك الفيروس، لأنها هي التي تخترق خلايا الجهاز التنفسي، وتمكن كورونا تالياً من الدخول إليها، وإدماج جيناته مع تركيبة الـ"دي أن إيه" فيها، ثم السيطرة عليها، وكذلك التحكم في ردة فعل جهاز المناعة عليها.

ولأن البحوث عن لقاح كورونا شكلت تعمقاً جديداً ونوعياً في "حجارة الحياة" وآليات التحكم بعمل خلايا الجسم كله، فقد يفتح ذلك أبواباً أمام صنع لقاحات جديدة نوعياً، ربما تحقق الأمل في ابتكار لقاحات للإيدز والملاريا. واستطراداً، ثمة أمراض كثيرة ترتبط آلياتها بالتراكيب الوراثية وجهاز المناعة، مثل الضغط والسكري و"باركنسون" و"ألزهايمر" والتصلب اللويحي وغيرها، قد تسهم بحوث لقاحات كورونا في تطوير مقاربات علاجها أو حتى إيجاد لقاح لها! هل يمكن تصور لقاح ضد السكري أو الضغط؟ لننتظر ونرى.

لقد تمكن العلماء في أميركا وألمانيا وبريطانيا وروسيا من ذلك بوضوح. ودار خلاف علني بشأن كيفية توصل علماء روسيا إلى ذلك، وصل إلى حد اتهام لندن لموسكو بـسرقة التركيبة المضادة لـ"بروتين كيه". نفت موسكو ذلك، مشيرة إلى أنها متعاقدة مع "آسترازينكا" التي تشرف على اللقاح البريطاني، فلِمَ تسرق ما تستطيع الحصول عليه بالتعاقد؟ يصعب الحسم في تلك المسألة. في المقابل، حملت الأنباء أخيراً خبراً عن تشارك صُناع اللقاحين الروسي والبريطاني في المراحل الأخيرة من التجارب السريرية على اللقاحين. الأرجح أنه أمر جدير بالمتابعة.

المزيد من تحقيقات ومطولات