Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"العشوائية"... هل هي طريقة حياة المصريين؟

انعكست على تفاصيل متعددة داخل المجتمع وأصبحت مع تغولها أسلوب حياة

مصريون نجوا من عشوائية السكن وينتظرون خروجها من الفكر (غيتي)

جلس الزائر الأوروبي من أصل مصري يضرب كفاً بكف. بحث في التاريخ، ثم نقب في علم الاجتماع، وجال بين قواعد الأنثروبولوجيا، وأخيراً لم يجد إلا أن يتوجه بنفسه إلى المحلات الجديدة أسفل جسور حي مصر الجديدة، ومواقف الميكروباص العشوائية على الطرق السريعة والبطيئة ومطالع الجسور ومنازلها، وأكشاك الحلوى والمشروبات الغازية المناطحة لبعضها بعضاً على الرصيف في محاولة للعثور على إجابات لسؤاله: لماذا تسكت الغالبية أو تميل إلى أو تحبذ العشوائية؟

بدء معركة العشوائية

معركة مصر الضارية أمام غول العشوائية، أبعد ما تكون عن الانتهاء بإعلان البلاد خالية من العشوائيات غير الآمنة هذا العام، أو بالتخطيط لإعلان مصر خالية من كل أنواع العشوائيات بقدوم عام 2030. بل يمكن القول إن فتح ملف القضاء على الأحياء والمباني العشوائية هو الخطوة الأولى في ملف تناول العشوائية. وحين أعلن منسق صندوق تطوير العشوائيات في مجلس الوزراء إيهاب حنفي، قبل أسابيع، أن الصندوق بصدد الانتهاء من القضاء على كل المناطق السكنية غير الآمنة مع نهاية العام الحالي، وأن مصر بأكلمها مقرر لها أن تكون خالية من كل أنواع العشوائيات السكنية عام 2030، تعاملت الغالبية مع التصريح باعتباره إعلاناً عن نهاية العشوائية في المجتمع المصري.

لكن العشوائية التي ضربت المجتمع المصري أعمق من العشوائيات السكنية وأخطر من التجمعات غير الآمنة بفعل طبيعة التربة أو نوعية المباني أو تدهور البنية التحتية من صرف صحي ومياه شرب وغيرها. إنها عشوائية التكفير والفكر والأولويات والتفاصيل والغايات.

صندوق التطوير

الغاية من "صندوق تطوير المناطق العشوائية" التابع لمجلس الوزراء هي القضاء على العشوائيات السكنية. وبحسب قرار رئيس الجمهورية رقم 305 الصادر عام 2008، "يهدف الصندوق إلى حصر المناطق العشوائية وتطويرها وتنميتها ووضع الخطة اللازمة لتخطيطها عمرانياً وإمدادها بالمرافق الأساسية من مياه وصرف صحي وكهرباء". أما مواجهة ومعالجة العوامل التي أدت إلى ولادة هذه العشوائيات، أو تطوير الفكر الذي أدى إلى توغلها وتغولها، أو إعادة تأهيل الكوادر التي تركت بضعة مبان تتحول مدناً عشوائية، أو اجتثاث الخلايا السرطانية التي جعلتها أسلوب حياة، فلم تبدأ بعد.

مسؤولية القبح

"كل جهة مسؤولة بدرجة ما عن قبح يثير الامتعاض في العاصمة، من الأهالي الذين يتفننون في العشوائية، إلى الحكومة التي تجبر الناس على طلاء واجهات البيوت ولا تجبر نفسها على رفع القمامة كحد أدنى من الجمال، الذي نحلم بأن يعود إلى العاصمة كما كانت في خمسينياتها"، حسبما رأى الكاتب عمر طاهر في مقال عنوانه "شريك الجريمة المنسي" قبل سنوات. شركاء جريمة العشوائية المنتشرة في كل مكان كثيرون ومنتشرون في كل ركن. والأدهى من ذلك، أن العشوائية لم تعد قاصرة على خلايا فوضوية تطوق الأحياء السكنية، بل تحولت أسلوب حياة مقبول ومحمود.

حمد المهندس المتقاعد عادل مصطفى الله كثيراً، حين نجح مع مجموعة من الجيران في الإبقاء على زاوية الصلاة المشيدة على ثلاثة أرباع الرصيف المخصص تاريخياً للمشاة.

الحملة التي شنتها وزارة الأوقاف قبل أشهر لإيقاف طوفان زوايا الصلاة غير المرخصة وغير الخاضعة لرقابتها، التي يُنسب لها جانب معتبر من نشر التطرف ونثر المغالاة، أغلقت الزاوية المقامة على مرمى حجر من مسجد ضخم في الشارع نفسه. وعلى الرغم من أن مصطفى مهندس معماري، حيث الجمال والتنسيق والتنظيم مكونات أساسية، ومع أن بناء الزاوية شديد العشوائية، وتشييدها على الرصيف هو حق بديهي من حقوق المشاة، إلا أنه والعشرات من الجيران اعتبروا محاولات هدمها باعتبارها عشوائية اعتداء على الدين ومحاربة للمتدينين.

العشوائية الشعبية

ومن محاربة المتدينين إلى محاربة السائقين وأكل العيش والاستقواء على الغلابة، وجميعها اتهامات صارت كلاسيكية توجهها فئات عريضة في المجتمع لكل من يتجرأ ويعترض أو يمتعض أو ينتفض ضد المواقف العشوائية للميكروباصات بأنواعها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المعركة الأيديولوجية حامية الوطيس، التي نشأت في شارع الأهرام في حي مصر الجديدة الراقي سابقاً المائل للعشوائية حالياً، بين رجلين ستينيين وجمهور عريض قوامه السائقين ومساعديهم والركاب وأمين شرطة متضامن، ألقت ضوءاً مهماً على درجة التعايش الشعبي مع العشوائية. الرجلان انتقدا وقوف الميكروباصات في عرض الشارع، بالإضافة إلى تحويل الرصيف الملاصق إلى "مقهى" مترامي الأطراف للسائقين، وهو ما أدى إلى نشوب معركة كلامية حيث دافعت الجبهة الأخرى عن المشهد ومحتواه تارة بـ"حرام عليكم. دعوا الغلابة يأكلون عيشاً"، وأخرى بـ"ماله المنظر؟" وثالثة بالتنكيت على الرجلين "المختلين"، وكأن عشوائية المشهد ظاهرة من ظواهر الطبيعة.

الطبيعة بريئة

لكن الطبيعة بريئة مما ينسب إليها. الأستاذ في كلية الهندسة في جامعة الإسكندرية قسم عمارة أحمد سليمان يشير، في ورقة بحثية عنوانها "تسكين الفقراء في الحضر"، إلى أن العمران الحضري غير الرسمي والنمو السكاني السريع في ظل عدم وجود تخطيط حضري شامل، أو متابعة حكومية تحول دون البناء على الأراضي الزراعية أديا إلى نمو العشوائيات حتى أصبحت تشكل 88 في المئة من مجموع المباني السكنية في مصر، وهي أصبحت تحيط بغالبية المدن السكنية وتتوغل فيها.

ويشير سليمان إلى أن توغل العمران الحضري بشكل عشوائي نجم منه، شيوع الإقصاء الاجتماعي وتوغله تدريجاً، إلى أن أصبح سمة من سمات ملايين المواطنين.

والعشوائية التي أصبحت سمة من سمات الملايين، سواء من يعيشون في مناطق عشوائية أو في مناطق جيدة التخطيط أو بين بينين، انعكست على تفاصيل الحياة الكبيرة والصغيرة ومتناهية الصغر.

النمو الوحشي

سليمان حذر في ورقته من أن النمو الوحشي للعشوائيات فرض نمطاً حضرياً جديداً، تضمن منظومة من الخدمات والأنشطة تفي باحتياجات السكان، وهو ما يهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي.

لكن واقع الحال يشير إلى أن الدولة نفسها أدركت الخطر القائم. وعلى مدى السنوات الست الماضية، تم تطوير 298 منطقة عشوائية غير آمنة بواقع 177 ألف وحدة سكنية بكلفة 28 مليار جنيه مصري (نحو مليار و800 مليون دولار أميركي)، بحسب مدير صندوق تكوير العشوائيات المهندس خالد صديق.

الأسماء كثيرة والمواقع عديدة. صديق يتحدث دائماً عن الأخطار التي تتسبب فيها العشوائيات، ليس فقط من حيث البناء وافتقاد البنى التحتية الآمنة، ولكن من حيث الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية أيضاً. "الأسمرات" "بشاير الخير" "الرويسات" "رمضة السيدة" "السماكين" وغيرها العشرات تتحدث عن إسكان آدمي يليق بالبشر.

البشر والتمدد العشوائي

وعلى الرغم من ذلك يبقى البشر وما لحق بهم جراء التمدد العشوائي خطراً قائماً ومستمراً في التمدد. يحمل مسؤوليته البعض للدولة نفسها، التي تركته ينمو ويترعرع ويتمدد على مدار عقود، لا سيما في ظل بدء فرض غرامات كبيرة على مخالفات البناء، وهي الغرامات التي تجاهلت أحد أبرز وأهم شركاء المخالفات، ألا وهم المسؤولون الذين سمحوا بها.

رئيس مجلس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي، تحدث قبل أيام مبرراً هذا التمدد العشوائي، الذي بدأ في سبعينيات القرن الماضي نتيجة النمو السكاني المتزايد والمتسارع وغير المخطط مع عدم قدرة الدولة اقتصادياً على توفير البدائل السكنية المناسبة، بالتالي اضطرت الدولة لغض الطرف عنه وعن التعدي على الأراضي الزراعية، بل واتخاذ إجراءات تساعد على توصيل المرافق إلى هذه المباني المخالفة للقوانين، وهو ما دعا المواطنين إلى البناء بشكل بالغ العشوائية! وقال مدبولي، "أوجد هذا لدى العديد من المصريين اعتقاداً بأن البناء بهذه الطريقة (العشوائية) هو النمط الغالب والمقبول".

وهذا مربط الفرس! اعتقد كثيرون أن بناء العمارات وإقامة الأكشاك وقيادة السيارات وبيع البضائع وإصلاح الأجهزة وإبرام الاتفاقات وإقامة المشروعات والتعلم في المدارس والجامعات والالتحاق بسوق العمل بطرق عشوائية هو النمط الغالب والمقبول.

حل العشوائية بالعشوائية

في خضم مئات الطرق والجسور الجديدة التي غيرت وجه شبكة الطرق والنقل في مصر، وملايين الوحدات السكنية التي توشك أن تضع كلمة النهاية أمام الأحياء العشوائية، وعشرات التجمعات التجارية والصناعية التي تنقل الأنشطة خارج المربعات السكنية، يلاحظ البعض (على الرغم من ضخامة حجم الإنجازات) افتقاداً للتفاصيل الصغيرة التي تعكس احتياجات المواطنين. العديد من الطرق الجديدة يخلو من أماكن عبور مشاة، ما يجعل عبورها بالغ العشوائية ناهيك عن تعريض حياة العابرين للخطر. وكثير منها يخلو من مواقف مخططة جيداً للميكروباصات التي صارت فرض عين في حياة المواطن المصري، ما يجعل مواقفها عشوائية وتحميل الركاب وإنزالهم عشوائياً. كما أن الرقابة ويد القانون مازالتا تعانيان وهناً ناجماً من تباطؤ منفذي القانون، الذين يحتاجون تدريباً وتوعية بماهيته وأهميتها. كما أن استدامة نظافة الأحياء الجديدة وسلامة طرقها وملاءمة عماراتها لاحتياجات السكان، حيث الأولوية لمحلات البقالة والخضروات والعطارة الصغيرة على "المولات" الشاهقة، لا تزال تبحث لنفسها عن موقع في مجلدات التخطيط والتنفيذ.

بناء الإنسان

أساتذة علم الاجتماع يجمعون على أن بناء الإنسان منظومة متكاملة، يبدأ من الصغر عبر التنشئة الاجتماعية التي تقوم بها الأسرة والمدرسة والرياضة والإعلام. وخبراء السياسة ومحللو الوضع العام، يؤكدون أن العقود الخمسة الماضية شهدت تدهوراً كبيراً وانهياراً مفزعاً في كل ما سبق بدرجات متفاوتة، ووفق القدرات المادية والاجتماعية للأفراد.

غاية القول إن الجميع طالته العشوائية، إن لم يكن بحكم السكن والجيرة والعمل وتفاصيل الحياة الصغيرة، فبالمجاورة والاضطرار للتعامل مع أعداد متزايدة من أبناء العشوائيات الذين تمكنوا من أن تكون لهم اليد العليا العددية، وإن لم يكن هذا أو ذاك فبالخروج إلى الدنيا في سنوات اعتناق العشوائية أسلوب حياة وطريقة تفكير. القضاء على العشوائيات بتشييد ملايين البيوت الآدمية هو مجرد بداية القضاء على العشوائية.

المزيد من تحقيقات ومطولات