Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حنين بريكست إلى الأرياف أساسه ماض موهوم

مقترحات بوريس جونسون الزراعية ستتلحف ما شاءت بإمكانية "إعادة" المناطق الريفية إلى حالتها الأصلية لكن مستقبلها رهن بالاقتصاد

الأرياف البريطانية تحن إلى ماض وردي لكن استعادته بواسطة بريكست قد تكون وهماً (غيتي)

فيما لا تزال المفاوضات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي تتحرك ببطء شديد (أم لا) باتجاه التوصل إلى اتفاق تجاري بشأن مرحلة ما بعد بريكست، رسمت الحكومة هذا الأسبوع خريطة طريق لمستقبل أحد أكثر القطاعات تأثراً [ببريكست]، أي قطاع الزراعة. وتتمثل الرسالة هنا في أن الطبيعة أولاً!

ومن ملامح هذه الرؤية المستقبلية، تشجيع المزارعين على إعادة إحياء المناطق الريفية المتنوعة من الناحية الإيكولوجية والنهوض بالقطاع الزراعي المستدام بيئياً كي يعود إلى ما كان عليه قبل أجيال، عوضاً عن الدفع لهم لإنتاج المزيد من الطعام أو الجلوس مكتوفي الأيدي على مساحات شاسعة من الأراضي. وفي دفاعه عن السياسة الجديدة، ذكر الوزير أن جده استخدم نظام تناوب المحاصيل بدلاً من الأسمدة لحماية التربة، فلم لا يفعل مزارعو اليوم بالمثل؟

يظهر أن البعض يشككون في صوابية هذا الحل المثالي، مع العلم أن إنقاذ الأرض يشكل شعاراً سياسياً لا يعترض عليه سوى حفنة صغيرة من الفاسدين والمنحرفين. وبالنسبة إلى ملايين متابعي برنامج "كاونتري فايل" Countryfile الذي يعرض على الشاشة في وقت مبكر من مساء كل أحد، فهم معتادون على إمتاع أنظارهم بمشاهد طبيعية خلابة يتوسطها مزارعون ملتزمون وحساسون ورصينون يدأبون على تحقيق هذه النتيجة، إلى جانب كسب لقمة عيشهم وتأمين حاجاتنا الغذائية. لقد بتنا كلنا الآن أنصار حماية البيئة.

وثمة مشكلة تتأتى من أن العمل الزراعي على نطاق واسع أقل ورديةً في الواقع من قصص "كاونتري فايل" الملمعة. ففي بعض الحالات، بكل بساطة، تستبدل أنشطة الأمس المدمرة للبيئة بأنشطة جديدة ومختلفة لا تقل عنها دماراً. وإذ أمضيت جزءاً كبيراً من عام الجائحة في مزرعة زوجتي الصغيرة في منطقة جميلة ونائية من إنجلترا، وجدت أن تربية المواشي لم تعد مجدية، ما يشكل خبراً ساراً بالنسبة إلى النباتيين الصرف وحتى أمثالي ممن أقلعوا عن تناول اللحوم الحمراء. في المقابل، لقد حلت محلها تربية الخيول لأنها تدر مداخيل نقدية جديدة، ما يمكن أن يؤثر في الأرض بشكل سلبي وخطير للغاية.

وقد يخيل للناظر من نافذة منزله أن الطبيعة في حالة ازدهار ونمو، لمجرد أنه قادر على رصد زوج من الحساسين أو صقر يحوم في محيطه أو غزال يتعاطى مع الأسوار على أنها عائق صغير أو خنادق الثعالب وحيوانات الغرير في الغابة المجاورة، إضافة إلى الحضور الوفير للنحل والفراشات خلال فصل الصيف.

في المقابل، تأتي الأرقام الواقعية مختلفة تماماً وتخبر بقصة أقل سعادة بكثير. وإبان العام الماضي، أظهرت البيانات المتعلقة بنحو 700 كائن تقريباً، من طيور إلى حيوانات بحرية، تراجعاً في أعداد 41 في المئة من أنواعها، فيما تزايدت أعداد 26 في المئة من تلك الأنواع منذ 1970. وأشارت البيانات كذلك إلى انخفاض أعداد الفراشات وحشرات العث بـ17 في المئة و25 في المئة على التوالي. ولأن السلاسل الغذائية متداخلة في ما بينها، يمكن لانقراض نوع واحد منها أن ينذر بزوال سريع لنوع آخر.

وفي مواجهة هذه الظاهرة، لجأ بعض مالكي الأراضي المثاليين إلى "إعادة الحياة إلى الطبيعة البرية". وثمة قصص فعلية عن النجاح. إذ تمكن بعضهم من كسب الأرباح عبر جذب السياح الحضريين كي يخوضوا غمار رحلات سفاري ممتعة وتمضية عطلات نهاية أسبوع مليئة بالمغامرات، و"ربما ليس لدينا فيلة وأسود، لكن لدينا خنافس وطيور مثيرة للدهشة" [وفق بعض الآراء]. وقد يناسب ذلك بعض الناس، لكنه ليس نشاطاً مربحاً بكل ما في الكلمة من معنى.

ولأجل فهم مستقبل المناطق الريفية، علينا تقدير اقتصاداتها بأفضل السبل. إذ تتفاوت الأراضي والتربات بشكل كبير بين المناطق المختلفة. وبالنسبة إلى زراعة الأراضي الخصبة، فتختلف بين محصول وآخر اختلافها عن تربية الماشية. وفي إطار تربية الماشية نفسها، تختلف الخراف عن الأبقار والخنازير، كذلك تختلف قطعان أبقار الألبان عن تلك التي تربى للحومها. وينطبق وصف مماثل أو أكثر على البستنة وتربية الدواجن والنحل. وصحيح أن كل جوانب العمل في الزراعة يتطلب خبرة مغايرة، إلا أن الدافع الأساسي واحد بينها جميعاً. ويتمثل ذلك في الأسعار وكيف يمكن إبقاؤها منخفضة بما يكفي كي تناسب المستهلكين ومرتفعة بما يكفي كي تكافئ المنتجين في المزارع.

ولم يكن القلق على السبب المحتمل لانتشار أسوار الشجر والمروج الخضراء بشكل أكبر في السابق نابعاً من الاهتمام بأسوار الشجر أو أعشاش طيور السمن، بل تأتي من الأسعار السائدة التي جعلت الزراعة التجارية في تلك المساحات غير جذابة. ولعل كثيراً من الحنين إلى بريكست، أي ذلك الذي يقترح إعادة "الأرياف إلى الحالة البديعة التي كانت عليها"، يستند على ماض موهوم لا وجود له.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وباستثناء سنوات الحرب حينما شكل الاكتفاء الذاتي شغلنا الشاغل بشكل مفهوم، اعتمدت بريطانيا على المأكولات الرخيصة المستوردة من الإمبراطورية (أو الأبقار من الأرجنتين والحبوب من الولايات المتحدة). وقد استمر الوضع على تلك الحالة حتى الحدث التاريخي العظيم المتمثل في اتخاذ السير روبرت بيل قرار إلغاء قوانين الذرة ورفع التعرفات الجمركية عن السلع المستوردة، بما يخدم المصالح الخاصة لمالكي الأراضي البريطانيين ويساعدهم في تلبية طلبات الطبقة العاملة الحضرية.

وحينما انضممنا إلى السوق [الأوروبية] المشتركة، قلت فرص الحصول على الأغذية الرخيصة المستوردة من جميع أنحاء العالم، وخضعنا إلى معايير "السياسة الزراعية المشتركة" الحمائية. ولعل ذلك يشكل الجانب السلبي الوحيد في مشروع إيجابي عموماً. وفي تلك الفترة، حدث انشغال في الكفاية الذاتية الأوروبية والعمل الزراعي المربح والمدعوم بأسعار عالية بصورة اصطناعية بهدف زيادة الإنتاج بشكل مفرط وتكثيف الزراعة والقضاء على أسوار الأشجار.

وبفضل الإصلاحات المختلفة التي أطلقتها "السياسة الزراعية المشتركة" وفازت بها المملكة المتحدة وسط معارضة شديدة من فرنسا، بلغنا قدراً أعظم من التعقل الاقتصادي. وعلى الرغم من أن الصيغة كانت لا تزال بدائية وغير فعالة بسبب استنادها إلى مساحة الأراضي وحسب، رفع الدعم عن الإنتاج وبدأ المزارعون يتلقون مكافآت على الإدارة البيئية.

وفيما نتخلى عن هذه المجموعة من الحوافز (حتى لو لم تكن مثالية)، لا بد أن نعي أن خروجنا من أوروبا لن يغير ملامح المفاضلات الاقتصادية الأساسية. وإن كان المزارعون سيكافؤون لإنتاجهم كميات أقل وعلى نحو أكثر استدامة، فعلينا دعمهم عبر ميزانية غير متوازنة إلى حد مروع بالفعل أو تمكينهم من رفع أسعار منتجاتهم. وفي المقابل، أكدت الحكومة أنه سيجري الاستغناء تدريجاً عن الدعم المالي، وطمأنت المزارعين بأنه لن يصار إلى التخلي عنهم. فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة إلى مجتمع يعاني من تراجع في مقاييسه المعيشية منذ عشر سنوات، وقد يشهد مزيداً من الأسى جراء بريكست وفيروس كورونا؟

يبدو أن الوزراء عقدوا الأمل على إيجاد حل للمستحيل من خلال إعادة إحياء روح بيل على هيئة اتفاقات تجارية هدفها تأمين أطعمة رخيصة من الولايات المتحدة (ودول الكومنولث). وتأتي المشكلة في هذا الحل من كون اتفاقات التجارة الحرة المطلوبة في تحقيقه، لا سيما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، بعيدة المنال في الوقت الحاضر. إذ يملك السيد (جو) بايدن قدراً ضئيلاً من التحفيز للمضي قدماً في مثل هذا النوع من الاتفاقات. وفي المملكة المتحدة، ثمة مجموعة ضغط متنامية تحذر من أن استيراد الحبوب واللحوم الحمراء والبيضاء من الولايات المتحدة بأسعار بخسة سيكون على حساب نوعية الغذاء ومعايير الإنتاج وتأثيراتها على البيئة. ما الفائدة من خضرنة شرق أنغليا على حساب "آيوا"، مع إضافة أميال وأميال من إمدادات الطعام إلى هوائنا وبحارنا؟

وفي الزراعة على غرار قطاعات أخرى، افترض بوريس جونسون أن بريكست سيكون مغامرة من دون ثمن أو أن طرفاً آخر سيدفع الثمن، متوقعاً للمشاريع أن تتزين بالأخضر وتتلحف بإمكانية "إعادة" الريف البريطاني إلى حالته الأصلية، من دون كلفة. وفي المقابل، يتوجب على أحدهم أن يدفع الفاتورة، فهل هم المكلفون اللازمون لتأمين المزيد من الدعم المالي أم المستهلكون المطالبون بالقبول بأسعار أعلى أو منتجات أقل جودة؟ الاثنان معاً؟ أم تراهم المزارعين أنفسهم حينما تحط الواردات الرخيصة رحالها على سبل عيشهم؟

يمثل ذلك الواقع الاقتصادي الذي يتعين علينا مواجهته إذا أردنا أن نضع الطبيعة في المقام الأول.

© The Independent

المزيد من آراء