Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رسالة إلى "الحلزون العنيد" رشيد بوجدرة

"إنك مطالب ومطلوب لمعركة أخرى جديدة وأنا متيقن بأن اختفاءك هذه الأيام هي استراحة المحارب أو هي لحظة تبديل السلاح من كتف إلى آخر"

أمين الزاوي ورشيد بوجدرة (اندبندنت عربية)

لماذا هذا الصمت يا صاحبي؟

في مثل هذا الزمن الذي يختلط فيه الغث بالسمين، اللغط بالصوت الجميل، النغم بالنعيق، يحتاج العالم إلى أصوات الكتّاب الكبار من أمثالك، الكتّاب الذين جربوا الحرب والسلم، البارد والساخن، الوطن والمهاجر، جربوا اللغات وعايشوا الثقافات والجغرافيات، وصبروا صبر الجندي الشجاع الثابت على الموقف العاض على سبيكة من جمر.

نريد أن نسمع صوتك وقد كثر ثغاء أنصاف المثقفين، في السياسة وفي الأدب والثقافة وفي الحب أيضاً.  

لماذا هذا التواري يا صاحبي؟

في زمن يحيط بنا من كل الجهات مدججاً بأخبار الموت والإحباط والأوبئة الصحية والثقافية والسياسية، مرصّعاً بالخيانات، كل أشكال الخيانات، الوطنية والهوياتية، مدججاً بالفساد، كل أشكال الفساد المالي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي والديني، في مثل هذا الزمن العاقر نحتاج إلى صوتك فاخرج من عزلتك يا صاحبي.

لماذا هذا يا صاحبي وأنت الحلزون العنيد؟

أخرج أيها الحلزون العنيد! فهذا الوقت مغيم. 

وأنت الذي لا يسكن في ركن، ولا يتوقف إلا ليتحرك بقوة، ليقفز كنمر البراري، أنت الساكن في الكتب والقلوب والنقاشات والجدل الحاد، ما زلت شاباً وقد أشرفت على الثمانين، تسافر وتخاصم وتختصم مع كتّاب وجامعيين وصحافيين من كل الأعمار والأجيال واللغات، الخصام العالم العارف، خصومك كما محبّوك يتفقون على شيء واحد هو احترامهم لصراحتك وتقديرهم لعفويتك وإجلالهم لجرأتك التي قد تصل حدود التهور أحياناً، التهور الذي هو سمة من سمات روح الكتابة الباحثة عن التشويش على هذا العالم الذي أصيب بالفالج النصفي.

لماذا الاختفاء يا صاحبي وأنت الذي لا يخفي النشيد الأممي؟

لا يزال النشيد الأممي في أذنيك، نغمة للصباح كما أغنية فيروز عند الجارة في الشقة المقابلة، ها أنت باقٍ على مواقفك ثابتاً على كلامك، متمترساً بموقفك اليساري الذي لم تبدل فيه الرأسمالية الهمجية ولا الشركات العابرة للقارات ولا موت الأحزاب الشيوعية في العالم الثالث أو العالم المتقدم، لم تبدل فيه من قناعتك.

لماذا هذا الانسحاب يا صاحبي؟

وأنت الذي حتى في أيام الإرهاب الأسود، في عشرية سوداء دموية عاشتها الجزائر، فيها فقدنا الصديق البسيط والمناضل العنيد والجار والصحافي والطبيب والكاتب والطالبة والمناضلة ومعلمة اللغة الفرنسية، كنت، والجزائر من تحتها نار ومن فوقها نار، لا تغادرها إلا لتعود إليها كي تطمئن على الشارع والصديق وبائع الورد وصاحب المطعم ومذاق النبيذ الوطني... حتى وأنت مهدد بالقتل من قبل الإرهاب كنت تطلق لحيتك وتلبس شعراً مستعاراً بيروك perruque وتسير في شوارع العاصمة أو قسنطينة تجس نبضها وتتفقد عناوين الكتب على قلتها في الواجهات الزجاجية.

لماذا هذا الغياب يا صاحبي؟

وأنت الذي عودتنا على المشاركة في أشد المعارك شراسة، فكرية كانت أو أدبية أو سياسية، في الجزائر أو في باريس أو في الرباط أو في بيروت أو في أي ركن آخر، على أعمدة الصحافة أو في بلاتوهات القنوات الوطنية والأجنبية، حاضر دائماً، لا تتردد، المواقف لا جغرافية لها ولا لغة لها، جغرافيتها ووطنها ولغتها هي القناعة والثبوت على المبدأ، أنت سيد المعارك يا رشيد أيها الحلزون العنيد، فلماذا أعدت السيف إلى غمده في ساعة نحتاج فيها إلى فارس مجرب، حيث امتلأ الفضاء من حولنا بالهواة والمتنكرين والمترددين والعُملة المزورة من المثقفين، هواة الثقافة ومتنكري المواقف ومترددي السياسة؟

لا تزال معركة حقوق الإنسان مفتوحة يا صاحبي؟

وأنت الذي كنت من أوائل من أسسوا رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان في الجزائر، في زمن كان البعض من أشباه المثقفين يعتبرون حقوق الإنسان كفراً وأشباه السياسيين يعتبرون ذلك ولاءً للغرب الاستعماري.

لا يزال تجار الدين في الساحة يا صاحبي؟

وأنت الذي كنت دائماً وعلى مدى مسارك ككاتب وروائي وناشط ثقافي، تحارب الفكر الخرافي والدروشة الدينية التي نخرت المجتمع، لم تتردد في تعرية تجار الدين وتعلن إلحادك الفلسفي انطلاقاً من إيمانك بحرية المعتقد وحرية التفكير والرأي.

هذا صوت المرأة الجريح فلا تصمّ أذنيك يا صاحبي؟

المرأة أنت نصيرُها، كنت دائماً، منذ روايتك الأولى "التطليق" مروراً "بيوميات امرأة آرق" و"تيممون" وحتى "الربيع"، فلماذا تسكت اليوم يا صاحبي، فوضع المرأة في الجزائر قاتم ومخيف، ما بين تحرش واغتصاب وقتل واختطاف وحرق تعيش النساء من كل الأعمار، حكايات ما تعانيه المرأة يا صديقي يشيب لها الولدان، كما يُقال، أمام صمت المجتمع وسكوت الإعلام وتبرير الفقه الذكوري لذلك بلباس المرأة أو شعرها أو صوتها أو لغتها.

هذه الجبهات مفتوحة وكثيرة فلا تترك ظهور الرفاق عارية يا صاحبي، جبهة بناء الديمقراطية مستمرة بعد أن سقط جزء من النظام الفاسد، وتمت رسكلة الجزء الآخر من النظام بعد أن استحم بعض منه في "الحراك"، جبهة تكريس العلمانية في وجه الظلامية الدينية وبناء دولة المواطنة لا دولة الإيمان، جبهة الثقافة، التأسيس لثقافة التنوير، إذ لا تبنى البلدان الصامدة إلا بالثقافة الصامدة الصلبة، تلك الثقافة وضع أسسها أصدقاؤك من محمد خدة وإسياخم وكاتب ياسين ومحمد أركون وعبد الحميد بن هدوقة ومولود معمري ومحمد ديب وآسيا جبار وجان سيناك. كنت على هذه الجبهات جميعها من الجزائر إلى تونس إلى الرباط إلى بيروت إلى هانوي إلى بكين إلى باريس إلى مدريد إلى موسكو إلى هافانا إلى برلين.

أنت الوزن الثقيل في الأدب الروائي الجزائري والعالمي، عبرت أجيالاً أدبية مختلفة منذ الستينيات ولا تزال، وفي كل جيل كنت صوتاً متفرداً، كنت أنت هو أنت، منذ رواية التطليق La répudiation  وحتى آخر رواياتك "السّلب" La dépossession، ولم تبدل موقفاً ولا درجة حرارة الكتابة.

حتى وإن كان البعض ممن حولك يختلف معك، إلا أن الجميع يعترف لك بهذه الكفاءة الأدبية العالمية العالية، شتمت عدداً من المثقفين والكتاب والسينمائيين والإعلاميين في كتابك الهجائي "زناة التاريخ"، لكن الجميع لم يرد على هجومك لأنهم يعرفون فيك هذا الشطط الأدبي الذي ينطلق من إيمانك بحرية التفكير وحرية إبداء الرأي وأيضاً بحرية قبولك للمراجعة الصادقة.

يا صديقي، أيها الشيوعي الأخير، إنك مطالب ومطلوب لمعركة أخرى جديدة، وأنا متيقن بأن اختفاءك هذه الأيام هي استراحة المحارب أو هي لحظة تبديل السلاح من كتف إلى آخر، أو هي عزلة الكتابة ونسكها، فسامحنا يا رفيق، أيها الحلزون العنيد.

المزيد من آراء