أعادت أحداث مدينة الناصرية الأخيرة الجدل في شأن أجواء الانتخابات المبكرة في العراق، في ظل انفلات السلاح وسيطرته على الوضع في البلاد، الأمر الذي يعد أحد أبرز الالتزامات التي قطعها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، حين تعهد في أكثر من مناسبة بتأمين أجوائها بعيداً من تحكم السلاح المنفلت والمال الفاسد.
ولا تبدو بوادر تحقق تلك الشروط حاضرة حتى الآن، خصوصاً مع التوترات التي أثيرت من أحزاب سياسية تمتلك أذرعاً مسلحة، فضلاً عن استمرار ترويع الناشطين وعمليات الاغتيال والتهديد التي يتعرضون إليها.
ولم يعد موعد الانتخابات المفترض مطلع يونيو (حزيران) المقبل بعيداً، الأمر الذي يثير تساؤلات عدة حول إمكان أن تشرع الحكومة العراقية في السيطرة على المشهد الأمني، وإبعاد مؤسسات الدولة عن سيطرة الأحزاب، والذي لا تبدو بوادره متحققة في الوقت الراهن.
تكرار سيناريو 2018
ويرى مراقبون وسياسيون أن إعادة تكرار سيناريو 2018، سيحفز مقاطعة الانتخابات المقبلة بشكل أكبر، خصوصاً مع مؤشرات عدة بعدم تمكن الحكومة العراقية حسم ملفات "الأمن الانتخابي"، فضلاً عن كون السلاح المنفلت والمال الفاسد يمثلان بوابة الأحزاب الرئيسة للفوز بالانتخابات في كل مرة.
وذكر بيان مقتضب لـ "ائتلاف النصر"، برئاسة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، أن خيار مقاطعة الانتخابات المقبلة ممكن جداً في حال تكرار سيناريو الانتخابات السابقة عام 2018.
وقال الائتلاف، "في حال غابت معايير النزاهة والعدالة ولو بشكل مقبول ومطمئن، وتم الاحتكام إلى أساليب التزوير ذاتها، وفرض الإرادة كما حدث إبان انتخابات 2018، فإن المقاطعة الشعبية والسياسية خيار مطروح"، خاتماً البيان بوسم، "انتخابات نزيهة وإلا فلا".
إنتخابات أسوأ من سابقاتها
وكان نفوذ الأحزاب ذات الأذرع المسلحة والمسيطرة على مؤسسات الدولة، العامل الأكبر في تشكيل معادلة الحكم والسلطة في العراق منذ سنوات، إلا أن ملامحه كانت أكثر وضوحاً خلال الانتخابات الأخيرة، إذ كانت بحسب سياسيين ومراقبين الأكثر تزويراً في كل فترات ما بعد الغزو الأميركي.
في المقابل، يقول رئيس المجموعة المستقلة للأبحاث منقذ داغر، إن "المقدمات على الساحة العراقية لا تبشر بخير، وهذا يدفع إلى الاعتقاد بأن الانتخابات المقبلة ستكون أسوأ من سابقاتها"، مبيناً أن "التزوير في الانتخابات الماضية كان أكبر من تحكم السلاح، إلا أن المؤشرات تعطي انطباعاً بأن الأطراف المسلحة ستدخل بسلاحها للتأثير المباشر في الانتخابات المقبلة".
ويوضح أن "الاستقواء بالسلاح صار معلناً حتى من التيار الصدري، وهذا الأمر سيعطي مبررات للآخرين للنزول بسلاحهم إلى الانتخابات المقبلة"، لافتاً إلى أن كل تلك المؤشرات "ستدفع المدنيين إلى المقاطعة".
وفي شأن المأزق العراقي أمام القوى الدولية في حال تحقق هذا السيناريو، يمضي داغر قائلاً، "هذا السيناريو سيؤدي إلى فوضى في البلاد، خصوصاً مع حال الاستقطابات الكبيرة التي تشهدها المنطقة".
وإضافة إلى كل تلك العوامل، تبدو الساحة السياسية بلا ضابط لقواعدها، كما يعبّر داغر، الذي يشير إلى أن "تراجع دور المرجعية في ضبط الوضع السياسي، وضعف الدور الإيراني بعد مقتل سليماني، حفّزا هذا الاحتكام إلى السلاح لرسم الخريطة السياسية المقبلة".
وفي شأن خطوات الكاظمي المحتملة، يؤكد داغر أن "النافذة أمام رئيس الحكومة تغلق تدريجياً، وأمامه فسحة بسيطة لحسم تلك الملفات". مردفاً، "إذا مرت الأشهر القليلة المقبلة من دون حسم لملف السلاح، فلن تكون أمام الكاظمي أية خيارات".
آلية تنافس غير متحققة
ويؤكد ناشطون أن أبرز مطالب الانتفاضة ليست الانتخابات المبكرة وحسب، بل تأمينها وتوفير أجواء التنافس والعدالة والشفافية فيها، والتي لا تبدو بوادرها متحققة حتى الآن.
وفي كل مرة تتزايد فيها أحداث العنف ضد الناشطين والمحتجين، أو تتزايد فيها عمليات الاغتيال، يتصاعد حجم الرغبة بالمقاطعة من ناشطين رئيسين يعتقدون أن القوى السياسية، تحديداً ذات الأذرع المسلحة، ومع اقتراب موعد الانتخابات، باتت تستشعر خطر المنافسة، مما يدفعها إلى التصعيد بشكل ملحوظ ضد ناشطي الانتفاضة، الأمر الذي كان واضحاً في أحداث الناصرية الأخيرة.
ويرى الناشط مهتدى أبو الجود، أن "آلية التنافس السياسي غير موجودة، خصوصاً أن الأطراف السياسية الرئيسة تملك جماعات مسلحة تسيطر من خلالها على مؤسسات الدولة، في مقابل عجز الحكومة طوال الفترة الماضية عن التقدم خطوة في ملف حصر السلاح أو محاربة الفساد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد أن أحداث الناصرية الأخيرة "كانت مثالاً واضحاً لشكل الصراع الانتخابي المقبل، الأمر الذي يعزز مطالبات مقاطعتها".
ويتابع، "تنظيم الأحزاب المنافسة والدخول في الانتخابات ليس ممكناً في ظل الوضع الحالي، مع تنامي حجم التهديدات والملاحقات ضد ناشطي الانتفاضة"، مبيناً أن "الناصرية خير دليل على ذلك، إذ إن عشرات الناشطين البارزين فيها بين مهجّر وملاحق ومخطوف".
ويختم أن جملة العوامل تلك "جعلت خيار المقاطعة هو الأقوى في أوساط المدينة، وحتى الرأي العام العراقي يرى أن الانتخابات باتت مجرد مسرحية يتقاسمها الفاعلون أنفسهم".
حملات مبكرة مخالفة للقانون
ولعل ملامح الدعاية الانتخابية المبكرة، وتحديداً بالنسبة للأحزاب والتيارات المسلحة، باتت واضحة في الفترة الأخيرة، خصوصاً مع تنامي موجة التحريض من منصات مرتبطة بتلك الجماعات، الأمر الذي يراه مسؤولون سابقون في مفوضية الانتخابات خرقاً واضحاً للقانون.
ويقول الرئيس الأسبق لمفوضية الانتخابات عادل اللامي، إن "كثيراً من الكيانات السياسية بدأت حملة انتخابية مبكرة على خلاف القانون وتعليمات المفوضية"، مبيناً أن "بعضها اتخذ طابعاً شعبوياً بإثارة خلافات فكرية، واستغلال منصات التواصل الاجتماعي لذلك، مما أدى إلى زيادة منسوب التوتر".
ويضيف، "هذا الأمر لا يخرج عن سياق الحراك الدعائي المبكر للأحزاب، ومؤشر إلى ضعف مؤسسة الدولة في الوقت الحاضر".
ولا يختلف الجو العام في الفترة الحالية عن أجواء الانتخابات السابقة، بحسب اللامي، الذي يشير إلى أن "بعض الكيانات السياسية التي تمتلك لجاناً اقتصادية بدأت بالفعل محاولات تمويل حملاتها الانتخابية المقبلة من مؤسسات الدولة".
ويلفت إلى أن إحدى الإشكالات الرئيسة ترتبط بـ "دائرة الأحزاب السياسية التابعة للمفوضية العليا للانتخابات، والمعنية بمراقبة عمل الأحزاب وإجازته"، مردفاً أنها "أضعف من مواجهة الخروقات الحزبية، في سياق تدقيق السجلات المالية، ومتابعة تمويلات الأحزاب السياسي".
ويتابع أن "غالبية دوائر الدولة مخترقة من الأحزاب التقليدية، ومن ضمنها تلك الدائرة، وهذا الأمر يعرقل بشكل كبير إمكان تحقيق شرط شفافية العملية الانتخابية".
ويشير إلى أن "انتخابات 2018 كانت الأكثر لغطاً وإشكالاً، وتخللتها عدد من الشكاوى التي تطرقت إلى سيطرة بعض المسلحين على مراكز اقتراع"، مبيناً أن "غالبية تلك الطعون ردت من الهيئة القضائية للانتخابات، على الرغم من اتضاح صحة بعض الطعون المقدمة من المرشحين بخصوص توزيع مقاعد كوتا النساء بشكل مغلوط من المفوضية، إذ أثبتت المحكمة الاتحادية صحة هذه الطعون بقراراتها إعادة بعض المرشحين والمرشحات لثبوت صحة عضويتهم، وبطلان عضوية آخرين، ولا أتصور أن هذا السيناريو سيختلف أثناء الانتخابات المقبلة، فيما لو استمر الوضع على حاله".
الأحزاب التقليدية تشعر بخطر المنافسة
وتمثل سيطرة الأحزاب والكتل ذات الأذرع المسلحة على الأجواء السياسية مصدر قلق رئيس لدى الناشطين والرأي العام المساند للانتفاضة العراقية، كونها باتت تمثل عقبة كبرى أمام تشكيل كيانات سياسية جديدة تنافس الأحزاب التقليدية من دون أن تستهدف.
ويعتقد ناشطون أن الاغتيالات الأخيرة، وخصوصاً ما تصاعد من موجتها بعد أغسطس (آب) الماضي، واستهدافها ناشطين رئيسين في الانتفاضة من بينهم تحسين الشحماني الذي اغتيل في البصرة، واختطاف سجاد العراقي في الناصرية، وتعرض بيوت آخرين بارزين إلى التفجير، تعطي انطباعاً أن الاستهدافات الجارية تهدف إلى كبح التحركات الجديدة من التنظيم والدخول للانتخابات، خوفاً من أن تزاحم قوى الانتفاضة القوى التقليدية في السلطة.
ويقول الناشط في مدينة الناصرية، محمد عبدالكريم الشيخ، إن "هناك تبايناً في وجهات النظر بين شبان الانتفاضة في شأن الاشتراك في الانتخابات المبكرة من عدمه، ولم يتم حسم قرار بهذا الشأن حتى الآن"، مؤكداً أن أطراف الانتفاضة كلها لا تزال تؤكد ضرورة "توفير شروط الانتخابات التي طالب بها المنتفضون في ما يتعلق بحصر السلاح بيد الدولة، وضبط التمويلات الفاسدة للأحزاب".
ويرى أن التوترات الأخيرة والاستهدافات التي حصلت بحق ناشطين بارزين خلال الفترات الماضية تأتي ضمن "محاولات حزبية لدفع ناشطي الانتفاضة إلى مقاطعة الانتخابات"، لافتاً إلى أن الأحزاب التقليدية باتت تشعر بشكل واضح بخطر منافسة قوى الانتفاضة، وهو الأمر الذي دفعها إلى إثارة توترات واستخدام أذرع مسلحة لترويع وتهجير واختطاف الناشطين".
ويعتقد الناشط أن "الأحزاب التقليدية تتخوف من عملية انتخابية شفافة يعاقبها الشعب العراقي فيها".
ويصف تصريحات زعماء القوى السياسية الذين يحضّون ناشطي الانتفاضة على الاشتراك في الانتخابات، بأنها "مجرد خداع ومراوغة"، مبيناً أن تلك الأطراف هي "المسؤولة عن التوترات وإرسال الرسائل المسلحة".
إشكالات فنية تعوق تنظيم الانتخابات في موعدها
وبعيداً من أجواء سيطرة السلاح على المشهد العراقي، تبدو الإشكالات التنظيمية والفنية عائقاً آخر أمام احتمال إقامة الانتخابات المبكرة في موعدها، فقد أطلق مسؤول سابق في مفوضية الانتخابات توقعات متشائمة في هذا الخصوص.
وقال الرئيس الأسبق للدائرة الانتخابية في مفوضية الانتخابات، مقداد الشريفي، في حديث تلفزيوني، "إن هناك إشكالات فنية كبيرة في قانون الانتخابات، بينها طريقة توزيع الدوائر، فبينما تم اعتماد معيارين في تحديد الدائرة، وهما التجاور والنسمات، إلا أن تطبيق القانون على الأرض في العاصمة كشف عن أخطاء كبيرة".
وأشار إلى "استحالة إجرائها في الموعد المقرر في السادس من يونيو المقبل، فيما لو أصرت الرئاسات الثلاث على حصر مشاركة المنتخبين من حاملي البطاقة البايومترية".
وتابع أن "البطاقة البايومترية هي أكبر ضمان لمنع شبهات ملء الصناديق، والتزوير وغيرها من الإشكالات، إلا أن عدد مستلمي تلك البطاقات حتى الآن لا يتجاوز 12 مليوناً، من أصل 27 مليوناً، وستحتاج المفوضية إلى ما يقل عن عام ونصف العام لإكمال إنتاج وتوزيع البطاقات المتبقية، مما سيعني أن القوى والسلطات الرئيسة إذا ما أرادت إجراء الاستحقاق في الموعد المبكر، فسيتحتم عليها التراجع عن تصريحاتها بحصر الانتخاب بالبطاقات البايومترية، والسماح لحاملي البطاقات المؤقتة بالمشاركة، أو إعلان موعد جديد للانتخابات، خصوصاً وأن قانون الانتخابات لم يحصر المشاركة بحاملي البطاقات البايومترية".
في المقابل، رد النائب عن "تحالف سائرون" أسعد العبادي على تلك التوقعات، مؤكداً أنه "يرجح إجراء الانتخابات في موعدها المبكر"، مبيناً أن "الإشكالات الفنية التي يجري الحديث عنها ربما لا تستغرق كل هذا الوقت، ويمكن متابعتها مع الجهات المختصة لإصلاحها وتفادي تأجيل الموعد"، مؤكداً أن "البرلمان سيحل نفسه في أبريل (نيسان) المقبل، تمهيداً لتنظيمها، بعد إعلان كل الجهات إتمام التحضيرات".