Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما الذي يجري في غزة؟

وجود "المقاومة" الفلسطينية، والمتجسدة حالياً في حماس كما تزعم، هي عامل لتوحيد الصف الإسرائيلي على اختلاف اتجاهاته

مبانٍ مدمرة بسبب ضربات جوية إسرائيلية على قطاع غزة (رويترز)

في تغريدة تحمل الكثير من التساؤلات، تتساءل الإعلامية البارزة السيدة منتهى الرمحي: "سؤال بريء ومحيرني فعلاً.. قبل شهر كان هناك مظاهرات في بعض أحياء غزة تحت عنوان بدنا نعيش. في هذا التوقيت الحرج انطلق صاروخ بالخطأ من غزة باتجاه مستوطنة إسرائيلية. فقامت إسرائيل بالطبع بقصف غزة واختفت المظاهرات. شو صار؟"، ورغم ظني، وبعض الظن إثم، أن سؤال السيدة منتهى ليس بريئا، ولا أظن أنه محيرها، فلديها فكرة على الأقل عن "شو صار". صاروخ حماس جاء في وقت تداخلت فيه أوراق كثيرة: ثورة المعوزين في غزة، وانتخابات إسرائيلية على الأبواب، واعتراف أميركي بالسيادة على مرتفعات الجولان، وإخفاق لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية التركية، وتضييق الحصار على إيران، وأزمة حزب الله المالية. كل هذه الأوراق المتداخلة والأزمات المترابطة ببعضها البعض، تذكرني بموقف كوميدي طريف من مسرحية "مدرسة المشاغبين".

في هذه المسرحية، يأتي أحد المدرسين في المدرسة (عبد الله فرغلي) ، لإلقاء كلمة في اجتماع المدرسين، ولكنه يعجز عن الإلقاء، فينصحه الطالب أو زعيم الطلبة (عادل إمام) بأن يخلع قطعة من ملابسه كي يتحرر مما "يكتم على صدره"، فيبدأ المدرس الساذج، أو المغرر به، في خلع ملابسه قطعة قطعة، ولكن "الزنقة" لا تريد أن تنتهي، حتى لا يبقى في النهاية إلا السروال الداخلي للمدرس، وهنا تصل الكوميديا السوداء، في حالتنا إلى قمتها، وفي ظني، وليس كل الظن إثم في هذه الحالة، أن هذا هو هو الوضع في غزة، فمع كل أزمة أو "زنقة" فإن الحل للخروج منها بسيط: صاروخ صغير على مستوطنة أو مدينة إسرائيلية، ويا حبذا لو كانت تل أبيب حيث التأثير العاطفي على الجماهير يكون أقوى، فتختلط الأوراق من جديد، وتخرج حماس، ومن يقفون وراء حماس من أزمتهم. ولكن الأزمة لا تلبث أن تعود فلا تجد حماس مناصا من خلع قطعة من الملابس، وترسل الصاروخ خلال الأزمات من جديد، ولكنها في النهاية ستجد نفسها شبه عارية، بورقة توت لا تكاد تستر العورة، وبذلك نعني أن مثل هذه اللعبة السمجة أصبحت مكشوفة للقاصي وللداني، فإن كانت ناجحة اليوم، فهي لن تكون ناجحة على الدوام.

مشجب "المقاومة" تحول إلى نوع من "عصا موسى"، أتوكأ عليها، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى. فحزب الله يتوكأ عليها وحماس تهش بها على غنمها ولإيران وتركيا وإسرائيل مآرب أخرى. فشرعية حزب الله في لبنان تقوم على أساس المقاومة، ولا شرعية أخرى له، إن سقطت ورقة المقاومة انكشف الدور الحقيقي لحزب الله، أي الدور الطائفي المحقق للمصالح الإيرانية في المنطقة. وتركيا أردوغان تسعى من خلال هذه الورقة إلى إثبات زعامتها الإسلامية، ناهيك عن لفت الأنظار عن مشكلاتها الداخلية، وانحسار شعبية حزب العدالة والتنمية، وتوتر العلاقات الخارجية مع دول كثيرة، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية. وإيران الملالي تجد نفسها في ذات المأزق التركي، وربما أكثر من تردٍ اقتصادي، وحصار دولي متزايد، واحتجاجات داخلية متصاعدة، ولسان حال الشعب الإيراني كما الفلسطيني في غزة: "بدنا نعيش". أما حماس، فشعار المقاومة لا يشكل لها عصا موسى وحسب، بل وخاتم سليمان ومصباح علاء الدين: اطلب تجد، شبيك لبيك. لم تعد الجماهير الفلسطينية قادرة على تحمل الأوضاع المعيشية المتردية في القطاع، فأعلنت عن احتجاجها، وهنا تلجأ حماس إلى صاروخ صغير يعيد إلى فكرة "المقاومة" زخمها ووهجها، ويعيد إلى الجماهير تكاتفها وراء "قيادتها" المقاومة، وكفى الله المؤمنين شر القتال.

أما إسرائيل، فلمفهوم المقاومة الزئبقي لدى حماس، ومن يقفون وراء حماس، وظيفة حيوية للدولة الإسرائيلية، وليس لمجرد كونها ورقة انتخابية رابحة بيد بنيامين نتناياهو. فوجود "المقاومة" الفلسطينية، والمتجسدة حالياً في حماس كما تزعم، هي عامل لتوحيد الصف الإسرائيلي على اختلاف اتجاهاته، إذ لابد من وجود "بعبع" يكون هاجسا للمجتمع الإسرائيلي، وعاملا على تماسكه. صحيح أن هذا البعبع ليس مخيفا لتلك الدرجة، ولكن وجوده مهم لأداء وظيفة سياسية واجتماعية معينة. باستطاعة إسرائيل أن تقضي على حماس تماماً، ولكنها لا تريد ذلك، فمن أين سيأتي الصاروخ الذي يوقظ الحس القومي الإسرائيلي تجاه مخاوف المستقبل؟ نعم، إسرائيل بحاجة لحماس، وبدونها أمور كثيرة ستفقد معناها بالنسبة للعقل الصهيوني. وإذا كانت إسرائيل بحاجة إلى حماس وظيفيا، فإن حماس لا تقل حاجة لإسرائيل هي الأخرى. فبدون "المقاومة" فإن حماس لا شيء تماما، فهي فاشلة إداريا، وخاوية فكريا، وما فشلها في إدارة القطاع إلا مثال على ذلك. وبطبيعة الحال فإنه لا مقاومة دون وجود إسرائيلي، ولولا هذا الوجود لما كان لحماس وجود، بل ولكل فصائل المقاومة الفلسطينية التي تبين في النهاية أنها أوراق لعبة سياسية بيد الآخرين، وإسرائيل ذاتها من ضمن هؤلاء الآخرين، أكثر من كونها مقاومة حقيقية صاحبة قضية. بل أن ذات القضية، أي القضية الفلسطينية، قد أصبحت زئبقية المحتوى، ضبابية العنوان، فما هي القضية الفلسطينية اليوم؟ هل هي حقوق الشعب الفلسطيني؟ وما هي حقوق الشعب الفلسطيني؟ لن تجد هنالك إجابة واضحة ومحددة سواء لدى حماس أو فصائل "المقاومة"، أو حتى لدى أولئك الذين يتخذون من المقاومة شعاراً ومبررَ وجود. إن المقاومة حق شرعي وإنساني لكل ما عانى ويعاني من وقوع ظلم أو احتلال لأرضه، ولكن ما يجري في غزة ليس مقاومة على الإطلاق، إنه عبث باسم المقاومة، وإلا ماذا نسمي إطلاق صاروخ يهدم بيتاً على الأكثر في هذه البقعة الإسرائيلية أو تلك، ويكون الرد الإسرائيلي قتلا وتشريدا لعشرات الفلسطينيين ودمارا لبيوتهم ومصادر رزقهم.

فهنالك "التقاء مصالح" إذن بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، متمثلة بحماس، أو التي تدعى حماس احتكار تمثيلها: إسرائيل تجد في حماس واستفزازاتها عامل تماسك وطني في وجه خطر قومي، وحماس تجد في إسرائيل ومعاداتها باسم مقاومة عبثية مبرر وجود وأساس شرعية معينة. هل يؤدي التقاء المصالح هذا إلى نوع من اتفاقات سرية بين الطرفين، وفق المثل الشعبي القائل: "امسك لي واقطع لك"؟ لا ندري، ولكن كل شيء جائز في عالم السياسة، وسياسات الشرق الأوسط على وجه الخصوص، وما سيناريو مظاهرات الجوع في غزة، ثم انطلاق ذاك الصاروخ "بالخطأ"، ثم الرد الإسرائيلي المدمر، إلا مؤشر يمكن الخروج منه بنتائج محتملة، ولا أقول أكيدة، ولكن كل شيء جاهز وممكن. وهنا يحق لنا، كما يحق للسيدة منتهى الرمحي أن نتساءل: "شو صار"؟، بل "شو اللي صاير، واللي راح يصير"؟ تساؤلات لنا الحق في طرحها، فقد آن لنا أن نخرج من أسر الكلمات، وخدر الشعارات التي أدخلتنا أنفاقا لا نور في آخرها.

المزيد من آراء