Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السير نويل كوارد على خطى هنري جيمس من دون أن ينتبه!

"فضيلة سهلة" انتظرت عقوداً قبل أن تعثر على معناها الأفضل

مشهد من اقتباس هتشكوك للمسرحية (موقع الفيلم)

حتى وإن كانت مسرحية الإنجليزي نويل كوارد الأشهر "فضيلة سهلة" قد عُرضت للمرة الأولى عام 1928 في نيويورك وليس في لندن كما كانت الحال مع معظم مسرحياته الأخرى، فإنها اضطرت إلى الانتظار أكثر من نصف قرن بعد ذلك ليأتي اقتباس سينمائي معاصر ويعطيها معنى يجعلها تبدو كأنها اقتباس لعمل من كتابة هنري جيمس منخرطة في ذلك التناحر الأخلاقي الذي قام بين العقليتين الأميركية والبريطانية خلال النصف الأول من القرن العشرين. وكان يكفي لذلك جعل الشخصية المحورية في الفيلم أميركية تختبر التصادم مع المجتمع البريطاني المغلق على قواعده وأنظمته الطبقية/ الأخلاقية.

حكاية لاريتا المتمردة

هذه المسرحية التي كان هتشكوك اقتبسها في فيلم إنجليزي آخر أيام السينما الصامتة ضمن إطار أفلامه ما قبل الأميركية، حققت بالصيغة الأساسية التي شاءها لها كوارد نجاحاً كبيراً حين عادت وعُرضت في لندن لتركز كما كُتبت أصلاً، على التغيرات الكبرى في الحياة الاجتماعية البريطانية، من خلال موضوعها الذي يتحلق من حول لاريتا المتمردة على المجتمع وذات الماضي الملتبس، والتي يغرم بها جون ابن العائلة الإنجليزية العريقة، المشرفة على الإفلاس مع ذلك، والتي تصرّ الأم فيها على نمط عيش باهظ يراكم الديون عليهم. منذ البداية يصلنا خبر زواج جون ولاريتا عبر الاجتماعات الربيعية في دارة العائلة، كما يصلنا على الفور الموقف السلبي لأم جون. والحال إن وصول هذا الأخير وعروسه إلى الدار سرعان ما يؤكد ظنون الأم التي تفتتح الصراع مع كنتها مستندة إلى ابنتيها اللتين تعانيان من ضيق سبل العيش وتأخر الزواج، فيما يقف في صف لاريتا عمها الكولونيل المتقاعد في الجيش الإنجليزي الذي فقد جنوده عند بداية الحرب وها هو يعيش مكتئباً غاضباً صامتاً في الدار لا يمسك شيئاً من مقادير الأمور ويراقب بحزن تدهور أسرته والأوضاع المالية.

وحده العريس الشاب جون لا يأبه بذلك، ولا حتى بحبيبته السابقة سارة التي تقطن في الجوار وتأمل دائماً في استعادته على الرغم من خطبتها للشاب فيليب. وسط هذه البيئة تحاول لاريتا بعث شيء من الحيوية والحداثة التي قد تغري شقيقتي زوجها للحظات، وتستميل هوى حماها معظم الوقت نكاية بزوجته، وتفلت من نباهة الزوج الشاب، لكنها تجابَه بمقاومة عنيفة من الأم التي لا تريد تبديلاً في حياتها وحياة أسرتها وتتمنى لو ترحل لاريتا عنهم تاركة لها ولدها البكر. تتعايش فصول المسرحية الثلاثة مع هذا الصراع وتفاصيله حتى لحظة الانفجار التي تشهد في النهاية رحيل لاريتا بعد أن تكشف قصاصات صحافية عن "حقيقة" تساعد الأم في معركتها التي تصبح منذ ذلك الحين غير متكافئة لمصلحتها.

الماضي الذي لا يمضي

الصحافة التي يتم العثور على قصاصاتها تقول إن لاريتا قد قتلت زوجها السابق، وكان لها علاقات عديدة قبل "اصطيادها" جون. وطبعاً ستنكر لاريتا قبل رحيلها تلك الأخبار مؤكدة إنها إنما ساعدت زوجها السابق في الحقيقة على التخلص من حياته إزاء داء تبدى أنه سيقتله في النهاية، كما أنها لم تكن ذات علاقات عديدة بل علاقة واحدة لا أكثر. لكنها لا تقول هذا للبقاء هنا، بل لتوضيح الأمور وكشف جبن زوجها قبل أن ترحل.

من الواضح هنا أن نويل كوارد، الذي رحل عام 1973، أراد أن يوصل في مسرحيته المبكرة هذه تصويره للصراعات الاجتماعية الإنجليزية إلى قمة هو الذي كان من الفنانين الذين لا تكفّ الصحافة عن رواية الطرائف الاجتماعية التي تتعلق بهم. ولعل واحدة منها مروية عن كوارد أنه، إذ كان صديقاً حميماً للكاتب جورج برنارد شو، غاب عن ناظريْ هذا الأخير فترة من الزمن. وفي كل مرة كان شو يسأل فيها كوارد أين كان إذ اتصل به، يقول له هذا الأخير "كنت أتناول الغداء مع ولي العهد برنس أوف ويلز" أو "العشاء مع البرنس أوف ويلز" أو "كنت في افتتاح معرض مع البرنس أوف ويلز". وإذ أعيا الأمر شو في النهاية، بعث إلى صديقه رسالة قال له فيها "حتى لو تقاسمتَ سريراً واحداً مع البرنس أوف ويلز، فإنك أبدا لن تصبح ملكة لبريطانيا".

على الضد من الحذلقة الإنجليزية

مهما يكن في الأمر فإن نويل كوارد الذي كان يعتبر من كبار الساخرين، ظل حتى أيامه الأخيرة يحكي كيف أنه وقع بدوره ضحية لسخرية جورج برنارد شو منه.

خلال النصف الأول من القرن العشرين كان نويل كوارد الأكثر شهرة بين كتاب المسرح الإنجليزي وممثليه، واشتهرت أعماله بسخريتها اللاذعة من الحذلقة الاجتماعية البريطانية، كما اشتهرت له أعمال موسيقية ألفها، غير أنه لم يكن كموسيقي على قوته ككاتب مسرحي.

بدأ كوارد حياته الفنية وهو في الثانية عشرة من عمره، حيث صار ممثلاً محترفاً، في العام 1911، وبدأ كتابة المسرحيات في السادسة عشرة، غير أن مسرحياته الأولى لم تؤخذ على الجدية، حتى العام 1920 حين كتب مسرحية لفتت اليه الأنظار بعض الشيء بعنوان "سوف أترك الأمر لك". بيد أن شهرته الحقيقية ككاتب لم تبدأ إلا في العام 1924 حين كتب وهو في الخامسة والعشرين من عمره مسرحية "فورتكس" التي عرضتها إحدى الفرق اللندنية وحققت نجاحاً كبيراً. وفي الأعوام التالية قيّض لمسرحيتين أخريين له هما "مرحى أيتها الحمى!" ثم "فضيلة سهلة" أن تعرضا في نيويورك قبل لندن، ما جعل شهرته عالمية. ولسوف تكون هذه المسرحية الأخيرة هي الأولى بين مسرحيات هزلية ساخرة عديدة كتبها طوال حياته، من أبرزها في نهاية سنوات العشرين المسرحية الموسيقية "الحلو الأمر" التي حظيت بإقبال جماهيري واسع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مواهب متعددة للنصف الأخير من العمر

منذ تلك الفترة لم يعد نويل كوارد بحاجة لأن يعرّف نفسه، ككاتب أولاً وكممثل بعد ذلك وكموسيقي في المكانة الثالثة. صار علماً من أعلام المسرح البريطاني. وصار في إمكانه التنقل بالكتابة إلى مجال آخر، فمن ناحية نراه يخفّف من الطابع الهزلي والشعبي لمسرحياته، ومن الناحية الثانية نراه يقدم على كتابة القصة القصيرة ثم الرواية وغيرها من فنون الأدب. وكان كل ما يفعله في تلك الآونة مقبولاً. مثلاً نراه يكتب عملاً جريئاً بعنوان "شلال" يتابع فيه مسار عائلة بريطانية بدءاً من حرب البوير (في جنوب أفريقيا) حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. وكتب مجموعة من مسرحيات الفصل الواحد، الثنائية البطولة، كان يقدمها شراكة مع الممثلة جرترود لورانس، بعنوان "الليلة عند الثامنة والنصف" (1936). ولم يفت نويل كوارد أن يتوجه بعنايته إلى الفن السابع الذي كان ذا سمات فنية رقيقة المستوى في بريطانيا في تلك الحقبة، فهو، مثلاً، الذي كتب قصة وسيناريو فيلم "اللقاء العابر" (1964) الذي يعتبر واحداً من أجمل كلاسيكيات السينما العاطفية الإنغلوساكسونية، كما أن عدداً من مسرحياته وكوميدياته الموسيقية حوّل إلى أفلام سينمائية ناجحة، لعب هو أدواراً أساسية في عدد كبير منها، ومن بينها "روح بلايت" التي حوّلت إلى فيلم بالعنوان نفسه في العام 1945، ثم إلى فيلم موسيقي بعنوان "معنويات عالية" في الستينيات وطوال العقود الثلاثة الأخيرة من حياته لم يتوقف الكتابة، ونشر العديد من مجموعات القصص القصيرة، كما نشر سيرة حياته في ثلاثة أجزاء بين العامين 1937 و1973، وكان عند رحيله في العام 1973 عازماً على استكمال الجزء الثالث لكنه لم يفعل. وفي عام 1970 منحت ملكة إنجلترا نويل كوارد لقب "سير"، في الوقت الذي كان يمضي فيه جلّ وقته بين جزر بحر الكاريبي وسويسرا. وعاش سنواته الأخيرة حتى رحيله في جزيرة جامايكا. وكان مناوئوه يأخذون عليه كونه خلال الفترة الأخيرة من حياته صار جزءاً من المجتمع المخملي الذي أمضى حياته ينتقده في كتاباته.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة