Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العالم العربي و"بريكست": كم تغيّر العالم في مئة عام؟

خروج بريطانياً من دون اتفاق – وهو الأمر المحتم - ستترتب عليه أمور متفاوتة بالنسبة للعرب

عاشت بريطانيا مرحلة غير مسبوقة من فقدان الوزن السياسي نتيجة مفاعيل "البريكست". (رويترز)

لبريطانيا من بين القوى الاستعماريّة الغربيّة تاريخ عريق في منطقة الشرق الأوسط، وهي قبل مئة عام أدارت العمليّة التاريخيّة لإنهاء النفوذ العثماني في المنطقة سواء بالغزو العسكري المباشر أو عبر التحالفات مع القوى المحليّة، ولعبت دور القابلة التي ولدت على يديها أغلب دول الشرق الأوسط بحدودها الحاليّة وإلى حد كبير أنظمتها السياسيّة، بما في ذلك العراق وسوريّا والأردن إلى الخليج العربي فمصر والسودان واليمن، كما "إسرائيل". ورغم أن الهيمنة الإمبراطوريّة البريطانيّة انتهت رسميّاً عند المؤرخين بأزمة السويس عام 1956 لمصلحة الجانب الأميركيّ، فإن لندن نجحت وإلى حدّ كبير في تحويل نفوذها العسكريّ والسياسيّ الغارب إلى قوّة ناعمة شديدة الفاعليّة، واحتفظت بأقوى علاقات التأثير سياسياً واقتصادياً وثقافياً مع معظم أنظمة الشرق الأوسط الناشئة طوال عقود، وهي إلى وقت قريب من أهم الشركاء التجاريين للقوى الاقتصادية المؤثرة بينها لا سيّما المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات وتعتبر أحد أهم موردي السلاح والعتاد والتدريب العسكري إليهما، إضافة إلى مساهماتها بتقديم المساعدات للاقتصاديات الأقل حظاً في المنطقة لا سيّما مناطق الحروب والصّراعات واللاجئين. وقد ساعد انضمام بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي لاحقاً في تسهيل التّواصل بين ضفتي المتوسط شماله وجنوبه بحكم العلاقات التاريخيّة والخبرة المتراكمة بشؤون المنطقة، وهو ما منح النفوذ البريطانيّ حياة جديدة على مستوى مختلف.

ثم جاء "بريكست".

 كان غضب الطبقات العاملة الأوروبيّة ضد سياسات التقشف اللاذعة التي فرضتها الحكومات الليبراليّة بعد الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 قد تحوّل إلى أرض خصبة لانتشار الأفكار القوميّة والانعزالية والشوفينية فيما بدا وكأنه انبعاث لشبح الفاشيّات مجددا. بريطانياً، كان حزب المحافظين الحاكم تحت ضغط خسارة معاقله التقليديّة - والسلطة تالياً -  نتيجة تقدّم حزب استقلال المملكة المتحدّة الجديد والذي بنى كتلة وازنة من بين المؤيدين التقليديين للمحافظين من خلال نشر رهاب الأجانب، والإسلاموفوبيا واتهام سياسات الاتحاد الأوروبيّ بالتسبب في تدفق لا ينتهي من اللاجئين إلى بريطانيا، ولذا فقد قدّم ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء حينها وعداً انتخابياً بإجراء استفتاء شعبي أجري في 23 يونيو (حزيران) 2016 حول مسألة الانسحاب من عضوية الاتحاد (وهو ما أصبح يعرف اصطلاحاً بـ"بريكست")، وانتهى كما هو معروف إلى تأييد 52% من الناخبين لفكرة الخروج.

طوال العامين الماضيين، عاشت بريطانيا مرحلة غير مسبوقة من فقدان الوزن السّياسي نتيجة مفاعيل "بريكست"، وتعيّن على حكومتها التي تحتفظ بشرعيتها التمثيليّة بالكاد أن تفاوض أساطين الجدل في بروكسل للوصول إلى تفاهم حول طريقة تنفيذ خروج منظّم للمملكة المتحدة من التكتل الأوروبيّ دون امتلاكها خطة واضحة أو تفويضاً كاملاً حتى وصلنا إلى لحظات التوتر غير المسبوق التي تعيشها البلاد هذي الأيّام على بوابة خروج بدون اتفاق، الأمر الذي ستكون له عواقب سلبيّة كثيرة على الاقتصاد البريطانيّ – والعالميّ عموماً – ليس على المدى القصير بل وأيضاً المتوسط.

عربياً، فإن خروجاً بريطانياً من دون اتفاق – وهو الأمر المحتم ما لم تحدث معجزة خلال الأيّام القليلة المقبلة – ستترتب عليه أمور متفاوتة بالنسبة لدول العالم العربي. فضعف بريطانيا الاقتصادي المتوقع إثر بريكست سيعني بالضرورة انكفاءً إلى الداخل فيما يتعلّق بوجهات الإنفاق، وستتراجع مساهمتها في ميزانيّة المساعدات المقدّمة إلى الدّول الأقل حظاً بالمنطقة العربيّة وبخاصة التي تعاني من آثار الحروب الأخيرة ومصاعب استيعاب اللاجئين. لكن الدّول العربيّة الثريّة ستجد هذا السيناريو تحديداً خدمة لمصالحها بالنظر إلى الضعف النسبيّ للمفاوض البريطاني في أيّة تفاهمات أو اتفاقات تجاريّة مستقبليّة يحاول الوصول إليها تعويضاً عن خسارته المحتمة جزءاً مهماً من تجارته مع البرّ الأوروبيّ. ويحدث هذا في الوقت الذي يتولى السلطة بغير بلد عربيّ جيلٌ شابٌ جديد لم يعد يخضع للاعتبارات الأبويّة والعلاقات التاريخيّة الفولكلوريّة الطابع في علاقاته الدّوليّة، ويكتفي مرحلياً فقط بصيغة تحالف متين مع الولايات المتحدة الأميركيّة كركيزة أساس لاستقرار المنطقة. ولا شكّ أن بريطانيا حال خروجها من ربقة التفاهمات مع بروكسل فستحرر قطاعاتها الماليّة والاستثمارية عن قيود الاتحاد المغرقة بالبيروقراطيّة سعياً منها لتسهيل عمليّة جلب استثمارات خارجيّة من الدّول التي قد تجد قيوداً حاليّة بحجة بدعة حقوق الإنسان – لا سيّما الصين، وروسيا والهند إلى تركيّا وإيران ودول الشرق الأوسط والمغرب العربيّ، وهو ما سيفتح مجالات أوسع أمام المؤسسات والأفراد العرب لتملك مزيداً من مفاصل أكبر خامس اقتصاد في العالم وبخاصة عند حدوث تراجعات محتملة بأسعار العقارات وقيمة الجنيه الإسترليني مقابل العملات الأخرى. مع ذلك فإن قطاع البنوك العربيّة تحديداً ربما يتأثر سلباً في حال "بريكست" من دون اتفاق، إذ إن كثيراً منها يعتمد لندن كمركز إقليمي لأنشطته ورأس جسر داخل النظام المالي الأوروبي، وفقدان تلك الميزة ربما يدفع بعضها لإعادة مركزة عملياتها الأوروبيّة نحو فرنسا أو ألمانيا.

هذا السيناريو يقوم حصراً على أساس استمرار المحافظين بالسّيطرة على عمليّة صنع القرار البريطانيّ، لكن ذلك بالطبع ليس أمراً محسوماً، إذ قد تتسبب الفوضى السياسيّة الحاليّة في لندن بوصول حكومة عماليّة تغلب عليها معالم يساريّة قد تنعكس سلباً على العلاقات مع بعض دول الخليج العربيّ وبخاصة أن بعضها يضم جاليات بريطانيّة كبيرة – مائة ألف بريطانيّ في دبيّ وحدها -.

أي سيناريو آخر يتضمن صيغة ما لـ"بريكست" ملطّف يتضمن بقاء بريطانيا في السوق الأوروبيّة المشتركة والاتحاد الجمركيّ بشكل أو بآخر سيعني أن لندن ستبقى مكبّلة الأيدي في توقيع أيّة ترتيبات ثنائية مع الدّول العربيّة، وستستمر في التركيز على التجارة مع القارة الأوروبيّة التي تمثّل حالياً أكثر من 50% من مجموع التبادلات البريطانيّة مع العالم.

مهما يكن من شأن "بريكست" في نهاية الأمر، سواء أَحدث ملطفٌ أو غيرُ ملطّفٍ أو لم يحدث بالكليّة، فإن الدّول العربيّة التي لا يجمعها تكتل اقتصادي واحد يمثلها في إدارة مصالحها الاقتصادية مع العالم مطالبة كلاً على حدة ببناء خطط مفصّلة للتعامل مع كلّ سيناريوهات "بريكست" الممكنة، وحسم التوجهات لتعظيم منافع كلّ منها أو تقليل حجم المخاطر الممكنة عبر تبنيّ استراتيجيّات محددة لإدارة العلاقات المستقبليّة مع المملكة المتحدة ليس على الجانب الاقتصاديّ فحسب، بل وسياسياً وثقافياً وأمنياً أيضاً.

لقد تغيّرت الأمور كثيراً خلال مئة عام وجرت مياه كثيرة تحت جسور العلاقة بين بريطانيا والعرب. وربما سيكون للعرب بعد هذا الوقت وبفضل "بريكست" دور ممكن في صياغة أوضاع بريطانيا خلال المئة سنة المقبلة، وهو أمر لم يكن السير مارك سايكس – شريك جورج بيكو الفرنسي في اتفاق رسم حدود دول الشرق العربي بداية القرن الماضي – ليحلم به.

المزيد من آراء