Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حين ترسم العلامات التجارية خريطة العالم

"كوكاتوغرافيا" عنوان متخيل لمعرض أعمال فنية تفيض برموز العصر

من معرض "كوكاتوغرافيا" في القاهرة (اندبندنت عربية)

ليس هناك ما هو أكثر وضوحاً من الخرائط. تُقدم لكَ الخريطة رَسماً مُصغراً لمساحة من الأرض، صغُرت أو كبُرت، مدينة كانت أو دولة، أو ربما تتسع مساحة الخريطة لتشمل العالم أجمع. العالم كله بين يديك على سطح هذه الرُقعة الصغيرة المرسومة بعناية، وبمقياس رسم محدد: اليابسة والبحار والأنهار وارتفاع الجبال والهضاب ومستوى المنخفضات، كلها محددة بدقة. فهل يمكن أن تخبىء هذه الخطوط المُتعرجة والزوايا ومساحات المياة الزرقاء المرسومة على الخريطة شيئاً آخر غير ما نراه؟

هذا ما يسعى الفنان محمد المصري إلى الإجابة عنه من خلال معرضه المقام حالياً في قاعة أبونتو في القاهرة حتى آخر الشهر الجاري تحت عنوان "كوكاتوغرافيا". يشير العنوان إلى مُصطلح لا وجود له في الواقع، يُعبر عن المسار المزدوج الذي عُولجت به الأعمال المعروضة. يعكس هذا المُصطلح المُختلق الذي اتخذه الفنان عنواناً لمعرضه حالة المزج بين الخريطة والعلامة التجارية، أو رأس المال العابر للحدود.

تُمثل الأعمال المعروضة حلقة في سلسلة ممتدة من التجارب الفنية التي تتسم بطابع البحث والاسقصاء. هي مغامرة يخوضها الفنان، تشبه مغامرات سابقة له، في سياق بحثه عن الحقائق المسكوت عنها، أو عن هذه التفاصيل المخفية التي تشكل الصورة. تُبرز العلامات المُقحمة على الخرائط هنا أبعاداً مختلفة للخرائط؛ أبعاد تُشكلها المصالح الاقتصادية والشركات العابرة القارات، وترسم ملامحها المُنتجات الاستهلاكية التي لا تقف أمامها حدود أو بوابات. تجمع الخرائط بين أفكار ورموز شتى من أنحاء العالم، بينها رموز حقيقية، ورموز ومصطلحات أخرى اختلقها الفنان وصاغها فوق رُقعة الخريطة، مُتعقباً الخُطوات والأساليب نفسها التي يتبعها المُنتَج الصناعي في رحلته للوصول إلى المستهلك.

علامات مزورة

العلامات والأيقونات والرسوم التي نراها هنا أضيفت للخريطة بواسطة ماكينات التطريز، وهي وسيلة لحياكة العلامة التجارية على المنتج تلجأ إليها شركات الملابس الكُبرى، وتُستخدم في مصر أيضاً كوسيلة لتقليد هذه العلامات التجارية، وعبر برامج تصميم تم السطو على حقوق ملكيتها هي الأخرى. هذا السعي إلى تزوير العلامة التجارية يحمل اعترافاً ضمنياً بسطوة هذه العلامة وقدرتها على السيطرة، ويلفت انتباهنا في الوقت نفسه إلى ما تتضمنه عملية الإنتاج الاستهلاكي من خفايا وحقائق مسكوت عنها، كما الخرائط تماماً.

العلاقة بين الخرائط والاقتصاد الرأسمالي وسياسات ما بعد الاستعمار، هي نقاط رئيسة اعتمد عليها محمد المصري في تشكيل هذه المساحات. أمامنا مجموعة من الخرائط القديمة المُعادة معالجتها، والتي جمعها الفنان من أماكن مختلفة. هذه الخرائط التي يعود بعضها إلى بدايات القرن الماضي، تُسلط الضوء في جانب منها على التغيرات التي لحقت بالحدود السياسية للدول. نجد هنا أسماء وتكتلات لا وجود لها الآن، دول تختفي ويظهر غيرها، وتتوسع أخرى أو تتقلص حدودها. تأتي الإضافات المُقحمة على مساحة الخرائط لتلفت الانتباه إلى أبعد من ذلك، إذ تشير إلى ما تخبئه خطوط الطول والعرض، إلى هذه الحكايات المخفية التي تشكل هذا العالم النهم للاستهلاك والقوة والاستحواذ والسيطرة. تسلط هذه الإضافات الضوء على الكيفية التي تمُد بها الثقافات أذرعها خارج حدودها من طريق الرمز. هو نوع آخر من الاستعمار والهيمنة تمارسه هذه المرة مؤسسات وشركات لا هم لها سوى الربح.

يبدو العالم محكوماً بالرموز والمصطلحات التي نتعامل معها من دون التفكير في خلفية الرمز وأبعاد هذه القدرة. قد يتمثل الرمز هنا في علامة تجارية أو صورة تقليدية لبطل خارق من أبطال السينما أو الآنمي أو حتى لُعبة. تُشكل أدوات الهيمنة الجديدة مقدرات العالم وتتواصل بعضاً مع بعض وتُدافع عن مصالحها، وتُسن القوانين من أجل مزيد من القدرة على الوصول والاختراق والتوغل والهيمنة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا يقتصر العمل على الصورة البصرية المعروضة كما قلنا، بل يتعداها إلى مراحل صناعتها. الخطوات التي قام بها الفنان من أجل الوصول إلى هذه المرحلة تشكل جميعها ملامح العمل الفني. إن رحلة الوصول إلى هذه الصورة بنجاحاتها وعثراتها هي جزء من هذا المشروع الفني الذي بين أيدينا، والذي يدعونا إلى البحث عما هو خلف الصورة أو المشهد كما يتراءى لأعيننا.

تتسمُ معظم المشاريع الفنية التي قدمها الفنان محمد المصري خلال الفترة الأخيرة بسمة البحث، ويجمع بينها كذلك أسلوبه الساخر والناقد للعديد من القضايا المحلية والدولية. تخرج الفنان في كلية التربية الفنية عام 2003 . من مشاريعه السابقة مشروع "عاجل" عام 2012 الذي حمل سخرية لاذعة من أسلوب تناول الإعلام المصري للعديد من الأحداث. ومشروع "دبابات ذهبية تعلق في منظومة الشحن" الذي عرضه لأول مرة في بيروت عام 2018 ، وهو الإصدار الأول من سلسلة ممتدة تحت عنوان "إقتصاد القوة يدفع الثمن" والذي يسلط من خلاله الضوء على تجارة السلاح. عرض المصري أعماله في العديد من الفعاليات الدولية كبينالي أسيا الدولي، وبينالي نيويورك للفنون المعاصرة، وبينالي بكين، وبينالي برلين الدولي وهو يعيش ويعمل في القاهرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة